بوابة الأشواق/ عزيز تبسي
– اشتقتك!!
وكأنه بزوغ نوراني أضاء بوّابة البيت، ليخرجه من دثائر عتمته. تقدّمتْ بخطوات ثقيلة، هي ما أبقاه الزمن من قوّة في عظامها، ضمّته إلى صدرها، قبل أن تدفن رأسها في صدره، وتستنشق دخان النباتات البرية التي تشبّعت عطورها في ثيابه، التي لم يتوقف عن حرق أغصانها، ليتدفّأ في مكانه الآخر.
كانت قبلئذ، جالسة خلف طاولة، تنقّي حبيبات العدس من شوائبها، وتترقّب انفتاحًا رفيقًا في بوابة البيت، يطلّ منها ابنها الآخر، الذي يصغره بعشر سنوات، عائدًا من عمله، حاملًا فوق يديه المنبسطتين، حزمة من الهندباء اليانعة وبضعة أرغفة، أو زوجها الذي بات ينسى طريق العودة إلى البيت، مصحوبًا بشاب من الحي، التقاه مصادفة في شارع بعيد، وأعاده معه.
ولكن هل كانت تنقّي حبيبات العدس من شوائبها، أم تحصيها، بفعل يائس لتبديد هذا الانتظار اللانهائي، للابن الغائب؟
حسبت، أن ابنها سيعود إلى البيت، بعد انتهاء الدوام الحكومي، وكانت تلوب أمام بوّابة البيت من الساعة الثانية، حتّى الرابعة. لتفقد الأمل بعد ذلك، وتتجه إلى المطبخ، لتسكب أطباق الطعام الساخن، وتدعو زوجها وابنها الآخر إلى الغداء. تعيد الانتظار في اليوم التالي.
-ألم تتعبك الطريق؟
لم يقل لها، أن التعب لم يكن من الطريق، بل من عربة المسلخ المخصّصة لنقل الخراف المذبوحة وتوزيعها على القصّابين، التي وضعنا في جوفها، وتسببّت اهتزازاتها، وترنّحها في خلخلة عظامي، وروائح الدم التي لم تبارحها، رغم حرصهم على غسلها وتنظيفها، دفعتنا للتقيؤ المتواصل. وأيضًا من تلك الأمكنة الرطبة التي حشرونا في جوفها المعتم.
لم يقل لها، أنه طالما احتاج لمسة من كفّها المنبسطة، أو من نهايات أصابعها، علّها ترمم كسوره الدهرية وتلئم جراحه.
اكتفى بإجالة النظر في الغرفة، وكأنه يتفحصها، ويطابقها مع الغرفة التي بقيت في ذاكرته، التي تركها منذ زمن طويل، “كنت أتوقعها أكبر من ذلك، وأكثر بهجة.. وكأن الغرف متشابهة في كلّ الأمكنة، ضيقة للغاية، تكاد لا تتسع لأثاثها، ولا لقاطنيها. هل أنا من كان يعيش هنا، أم الذي عاش هنا سواي؟”.
كانت مكاشفتها، من ضرورات واجبه البنوي، وإبلاغها بأنه لن يعود من ذاك المكان الذي سيق إليه في الليل، لا لنقصٍ في الأشواق، التي تصاعدت من أعماقه كبخور، بل لأن من أخذوه، لا يريدون له العودة.
وكان يتوجب عليه الاقتراح عليها كذلك، المباشرة بتوزيع أغراضه، كمدخل لا بدّ منه لنسيانه، لأن الأغراض تستدعي تذكّر أصحابها، وهي ليست سوى سرير معدني، تخلخلت نوابضه وحفّ الصدأ قوائمه، وفراش صوف وأغطية منجدة ووسائد… وبضعة ألبسة، يفترض أنها لم تعد تناسب مقاسه، ومجموعة من الكتب، ودفاتر دوّن عليها ملخصات من قراءاته، وخواطر متنوعة عن الحياة، وبضعة صور لمشاهد من الطبيعة، ألصقها على الجدران العارية بلاصق شفاف.
كان عليها أن تخبره، أن والده بات يحمل إليها، من حين لآخر، باقات الزهور التي يسرقها من الجنازات، وأنه أمسى ضعيف البصر، ولم يعد يرى إلا من مسافة بعيدة. وأنها تحول دون خروجه من البيت، إلا أنها تتعطف من حين لآخر على ضجره الذي يتبدى في رغبته الدائمة لإصلاح ما لا يصلح من أثاث البيت، كالأرفف التي نخرتها الرطوبة والكراسي التي اهترأ قشها المجدول، وبتلك الحالة التي لا تفارقه، التي يسمونها مرض الذاكرة، التي تدفعه إلى تذكر أشياء غريبة. تبدأ من أيام خطوبتنا، والهدايا التي حملها إليّ، بزته البيضاء التي كان حريصًا على ارتدائها، ولا يفارقه السؤال عنها، ولا أقوى على إبلاغه أن لونها كلح منذ زمن واهترأت أطرافها، وأنني مزقتها، واستخدمت قصاصاتها في حمل الأقدار الساخنة من فوق الغاز الملتهب. يتذكر نعله الجلدي اللامع، زجاجات الكولونيا، الطيور التي كان يشتريها من “سوق الجمعة” ويحملها إلينا مع أقفاصها، حريصًا على لفظ أسمائها؛ الكناري، الحسون، البلبل، الشحرور، عصفور الدوري. يعلّقها على مسامير خارجة من الجدار، ويجلس منتظرًا تغريداتها، التي تتأخر. لطالما أحرجه صمتها، بعد أن يحين موعد انتهاء زيارته. وكنا نسعى إلى تقديم ضيافة جديدة له، علّ في هذا الوقت الإضافي تنفرج حناجر طيوره، وتطلق تغريداتها.
كان عليه إخبارها، أنه أمسى مثل أبيه، مصابًا بارتجاعية في الذاكرة، لا يستطيع الخروج منها، وأنه يتجوّل كلّ يوم في روضة الأطفال، التي كنت تصحبه إليها في الصباح، بصدريته الزرقاء السماوية وحذائه الأبيض، الذي كنت تحرصين على مسحه بليفة مشبعة بالصابون، وحقيبته الجلدية المحشوّة بلفافات الجبنة والزعتر والمربيات التي تتصاعد روائحها، والدفاتر الرقيقة وأقلام الرصاص والمبراة والممحاة.
لكن صوتي بقي مخنوقًا هناك يا أمي، كأنني ولدت أخرسًا أو نسيت الكلمات. طالما حاولت الصراخ لتسمعيني، إلا أنه لم يخرج من حلقي، رغم أن الحفرة التي رميت فيها لم تكن عميقة، والتراب الذي أهيل فوقي لم يكن ثقيلًا، كما كنا نقرأ في الكتب، صوتي لم يخرج، ربما لأن حلقي امتلأ بالتراب. عملت على إيقاف آلام انتظاراتك أمام البوّابة، وأردت إخبارك كذلك أنهم لا يطلقون السجناء بعد نهاية الدوام الحكومي. وسعيت لأقول لك “أنني لن أعود، لا لأن أشواقي خفتت…. بل لأنهم قتلوني يا ماما”.
العربي الجديد