«بوتين من الألف الى الياء» لفيدوروسكي: كيف تكونّت فلسفة سيد الكرملين السياسية؟
وزّع كتاب «بوتين من الألف الى الياء» لفلاديمير فيدوروسكي (عن دارستوك) على المكتبات قبل أيام قليلة. ومن المتوقع أن يثير ضجة في الأوساط السياسية الفرنسية، خصوصاً في هذه المرحلة التي يتصارع فيها المرشحون للرئاسة. لكن، مقاربة بوتين، كما وضعها هذا الباحث الروسي الكبير سيكون لها أصداء على بعض المرشحين المقربين من سيد الكرملين: كمارين لوبن وفيون (الغارق بفضائحه المالية)، والذي استدعي أمام القضاء مع زوجته بنيلوب، لمحاكمته بتهمة توظيف أبنائه في البرلمان، والسكوت على قبض زوجته أموالاً رسمياً لوظائف مرجعية.
المهم في هذا الكتاب الدقيق، النابش «عقل» بوتين و«فلسفته» الهجينة، والمائلة الى كفة المفكرين الروس وغير الروس المتطرفين. إنه، وضع الكتاب، بلغة علمية، موضوعية، طاولت دراسة بوتين، وانخراطه في «KGB»، واستلهامه أنماطاً إيديولوجية مبعثرة، وتنكّره للديموقراطية التي حاول اتباعها، ليختار الاستبدادية.
هنا مقاطع مترجمة من هذا الكتاب القيّم:
مختارات
«ليس هناك عملاء «KGB» قدامى»، يحلو لبوتين أن يردد ذلك، مشيراً في ذلك الى أنّ هذه المؤسسة الخاصة جداً تقدم معلومات بالمعنى الأونطولوجي للعبارة، وبعدها تمسك بخناقك. لا أحد يستطيع أن يترك الـ«KGB»، والـ«KGB» لا تتركك أبداً. اليوم اتخذت تسمية جديدة «FSB» (الوكالة الفيدرالية لأمن روسيا الفدرالي.. أي الوريث اللائق لشرطة القياصرة، شبيهة بـ«سرّ» ملك تلك المرحلة لويس الخامس عشر، الذي جنّد نخبة خاصة عبر قرون. بوتين يذهب أبعد من ذلك، مشيراً الى «الدولة داخل الدولة هو ما صنع كل روسيا». حتى أحياناً بطريقة انتهاكية. كمثل إلغاء العبودية في 1861، كما إصلاحات رئيس حكومة نيقولا الثاني بيوتر ستولبيتي، مروراً باختراقه ميخائيل غورباتشوف، وصولاً الى صعود سيد الكرملين الى السلطة اليوم.
المثالية، الواجب الوطني، والتجرد، هكذا خلف نيوقلا باتروشيف بوتين على رأس «FSB» عام 1999، والأمن لروسيا.
وهكذا يحدد التزام هؤلاء الذين يعملون تحت إمرتهم «المخابرات صارت طبقة النبلاء الجديدة في روسيا».
«نحتاج الى روسيا أقوى»، قالها بوتين، محثاّ أهل «FSB»، للاستنفار في وجه التهديدات التي تحدق بالأمن القومي. وإلى مكافحة الإرهاب الدولي الذي تمثله «داعش»، فهو يصدر الأوامر للمخابرات الخاصة لممارسة رقابة شديدة، لمصادر الأموال الآتية من الغرب، والتي عبرها يحاول «ONG» الممول من الغرب أن يحاول «زعزعة السلطة الروسية». فمنذ 1991، مثلاً، تمول الولايات المتحدة جماعات سياسية – قريبة من أوروبا – في أوكرانيا، وعبر «ONG» مثل مؤسسة كارينغي (…).
من الصعب تقدير قوة زعيم في الوقت الذي يبدو معارضوه مجردين من الدفاعات الحقيقية. التخلص من نبتة من دون جذور يدل إطلاقاً على القوة.. وقد جعل ستيفان هولمينر ذلك: محاربة الأوليغارشيين فلاديمير غوزنسكي وبوريس بيريزوفسكي في المنفى، أو زج ميخائيل كودوروفسكي في السجن لم تكن صعبة.. إن مثل هذه العمليات لم تكن علامة من علامات السلطة الكبيرة.
ولتقدير قوة بوتين كمتشدد في السلطة، يجب قياس المقاومات، إذ إنّ بضعة المليارديرية في الخصخصة الذين حذفهم كانوا سريعي العطب. الباقي، وخارج هذه الاستثناءات المستعرضة في وسائل الإعلام، لم يتمكن بوتين من تدمير الأوليغارشيين.
فهو لم يحقق سوى إدخالهم في محظياته الخاصة. ولم يضع الخصخصة في خانة المشاريع الكبرى، وإنما عمد فقط الى إرغام الى الأوليغارشيين منذ عهد يلتسين على الرضوخ، ومواجهته في مجال السياسة، تاركاً إياهم يستفيدون من ثرواتهم التي جنوها بطريقة ملتوية. رسالته واضحة «إما تلعبون لعبة الكرملين وننسى الطريقة التي جنيتم بها ثرواتكم، في هذه المرحلة المشوشة، أو تستمرون في التدخل في السياسة وتتعرضون للمخاطر». لهم المال، وله السلطة. لكن يجب أيضاً رؤية طريقة هذا الأخير في ممارسة السلطة في محيطه. فميل النظام الى السرية لم يكن فقط من إرث «KGB»، بل يشكل أيضاً علامة: فأمر السياسة – يتطلب عدم إظهار الضعف، لأن أي مؤشر ضعف أو هشاشة قد يؤدي الى عمليات تمرد أو عصيان…
ويجب التذكير بأنّ النظام السوفياتي لم يسقط بسبب «ثورة برتقالية»، وإنما انهار تحت ثقل عدم قدرته وعجزه. والذين نجوا من هذا الانهيار، وخصوصاً المرتبطين بالمخابرات السرية، كانوا على صواب في شكهم بأنّ الاستبداد يمكن أن يكون حلاً للانحطاط وأفول النظام. وهذا لا يصنع منهم ديموقراطيين، لكن ذلك يمنعهم من مشاعر الحنين الى ماضٍ استبدادي، الذي، أنتج قضايا عليه أن يحلّها اليوم.
تمثل روسيا اليوم دولة غير متماسكة مرتبطة بمجتمع ضعيف، لا يشهد لا ديموقراطية ولا استبدادية. ففي الديموقراطية، يخضع الحكام للمحكومين. وفي النظام الاستبدادي، المحكومون يخضعون للحكام. ففي عهد يلتسين، كما عند بوتين، أدار المجتمع والسلطة ظهرَيهما لبعضهما، كلٌّ يرى في ذلك فوائد عندما يكون ذلك ممكناً. يبقى أن تجاور الدولة النخب المبعثرة والفاسدة، والمجتمع الذي يبقى بعضه على حافة الطريق، لا يمكن اعتبار تشظياً للديموقراطية ولا عودة الى العصر الستاليني.
فلسفة بوتين السياسية
ما هي ثقافة فلاديمير بوتين الفلسفية؟ أثناء دراسته الحقوق في جامعة لينيغراد، درس توماس هوبس، وجون لوك، وإيمانويل كانط، وحصل على دبلوم بامتياز جيد جداً في عام 1975، عن رسالته المخصصة بسياسة الولايات المتحدة في أفريقيا. هوبس هو قبل كل شيء مفكر سياسي، ومن الأوائل الذين طرحوا فرضية دولة من طبيعة سابقة للدولة المدنية، انطلاقاً منها يبني الإنسان نظامه السياسي. لوك، من رواد التنوير العزيز على البطرسبوريين وبوتين، أن التجربة هي في أساس المعرفة.. ونظريته السياسية منبع الليبرالية ودولة القانون. أما كانط، ومن خلال سؤاليه «ماذا يمكن أن أعرف؟»، (من كتابه نقد العقل المحض)، و«ماذا يجب أن أفعل» كونا الطالب بوتين في مادة الفلسفة الأخلاقية، وفلسفة القانون والفلسفة السياسية. الفلسفة العملية «ماذا يمكن أن آمل؟»، أظهرت له أن الأولوية يجب أن تكون مركّزة لتوفير الأخلاقية والأصل، ولا يفاجئنا أن يكون الضابط السابق في «KGB» قريباً من الكنيسة الأرثوذكسية، المخترقة بدورها من المخابرات السرية (…).
إن تصلّب موقفه من الديموقراطية، تفكك في خريف 2004 أثناء الحرب الشيشانية الثانية، مع تراجيديا بيسلان (خطف إرهابيين في مدرسة في القوقاز الروسية). وهؤلاء المسلحون الشيشانيون تسببوا بمقتل 334 شخصاً، بينهما 186 طفلاً، نتيجة عملية فوضوية غير منظمة للقوات الخاصة، حيث دافع الإرهابيون عن أنفسهم ضد الروس وأعدموا بدم بارد الرهائن. وعندها سحب بوتين ثقته من المؤسسات الديموقراطية، معلناً أن حكام الأقاليم سيتم تعيينهم من الآن وصاعداً، ولن يكونوا منتخبين.
وفي موازاة ذلك، راح يعتمد أكثر فأكثر على البطريركية الأرثوذكسية في موسكو، ويدين القوى الغربية.
بعد رئاسة ميدفيديف، من 2008 الى 2012 وعودته الى رأس السلطة، سيتميز بجانب محافظ يتأكد أكثر فأكثر في مواجهة غرب انحطاطي ومقطوع عن جذوره المسيحية. وفي موازاة تأكيد اتجاه روسي متميز، ها هو موضوع «القلعة المحصنة»، مركزاً جهوده الديبلوماسية على مشروع وحدة أوراسية مع بيلاروسيا، وكازخستان وأرمينيا، في انتظار مشاركات أخرى. ويحيل مراجعه بانتظام الى إيفان إيلين (1889 – 1954). وهو فيلسوف روسي مهاجر من أوروبا، المناهض للشيوعية مناهضته للديموقراطية، ومعجب بفرانكو سالازار.
ويجب استعارات معادلات نيقولا باردييف (1874 – 1949)، وقسطنطين ليونييف (1831 – 1891) لتعزيز الاتجاه المحافظ. ويستعيد ليث غوميليف (1912 – 1992) الذي مثَّل النظرية الأوراسية في الفترة السوفياتية. فيجب أيضاً إضافة – نيو سلافوتية، الى السوفياتية الأصلية الى الاتجاه المحافظ الليبرالية. والنتيجة فلسفة هجينة، التي لا يجمع عناصرها سوى فكرة الامبراطورية والكراهية للغرب (…).
يؤكد بوتين أنه لا يريد عدم فرض إيديولوجية الدولة على الطراز السوفياتي، لكنه يحتاج الى مرجعيات إيديولوجية لتحريك الشعب. والين، الذي طرده لينين من روسيا عام 1922، وركب مثل بارييف إحدى «بواخر الفلاسفة»، أصبح الناطق باسم الروس البيض الأكثر رجعية. «الأفضل ماتوا تحت خرباء الأسوأ»، كما كتب، مفضلاً على عكس تولستوي أنه عندما تتعرض للأذى من جهة، فعليك أن تردّ بالقوة. منذ الثلاثينات، يهجس ألين في ما يمكن أن يعقب ما بعد السوفياتية، واضعاً رسماً للقائد ما بعد السوفياتية يشبه كثيراً ما يجسده بوتين. ويمكن أن نلتقط منذ ذلك الحين نوعاً ما الفيلسوف السابق الرسمي، المفكر السحري لسيّد الكرملين، الذي يرى أن ديموقراطية ليست لصيقة بالديموقراطية «الحسابية» الغربية، بل الديموقراطية «الكيفية» على غرار الدكتاتورية السلارازية في البرتغلا (1968 – 1932) أي نظام استبدادي، محافظ، كاثوليكي، وقومي، الذي يرفع شعار «الله الوطن العائلة». إن مثل هذه البنية يعتبرها الإيديولوجيون قريبة جداً من الفاشستية، لأنها غير معادية للدين، وأقل منها لأنها غير مبنية على مشروع الاقتلاع، لكنها نوع من الدكتاتورية الديموقراطية.
يحدد إيلين قائد روسيا بعد السوفياتية بـ«المرشد الذي يستخدم بدلاً من أن يمتهن؛ يختار المعركة بدلاً من أن يتصورها! يضرب العدو بدلاً من أن يتفوّه بكلمات فارغة له! يقود بدلاً من أن يبيع نفسه للخارج». هنا نجد كل برنامج بوتين، مع موديل السلطة العمودية، للديموقراطية المطلقة، والكراهية للقوى الخارجية (نقطة مشتركة مع السوفيات) التي تطلع منها.. في موازاة وعلى قدر ما يستثمر بوتين أمكنة الذاكرة الأرثوذكسية الروسية، ويفسر المسيحية في اتجاه الهوية القومية السلمية، التي تلعب دوراً في العالم، يرجع الى فلسفة الدين الذي يرى فيها دوراً أساسياً ما أن تتمكن من أن تحل محل الإيديولوجية الشيوعية.
ترجمة وتقديم: بول شاوول
المستقبل