بوتين يسعى إلى استعادة النفوذ السوفياتي
راغدة درغام – نيويورك
ازدحام المبادرات لمعالجة الوضع في سورية لا يعني ازدياد حظوظ ردع الحرب الأهلية وإنما يعكس عمق الفجوات بين معسكري الغرب والشرق وانحسار القيادة العربية في مصير هذا البلد المهم. أول ضحايا عودة الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة هو الشعب السوري بالدرجة الأولى. المنطقة العربية ليست غالية على قلب رئيس الوزراء العائد إلى رئاسة روسيا، فلاديمير بوتين، وهو لا يعتبرها سوى ساحة للمقايضة مع الولايات المتحدة وأوروبا. إيران شيء آخر في الحسابات الروسية – البوتينية، ومن هنا يمكن البدء بتفسير استعداد موسكو للانقلاب على جامعة الدول العربية واستعداء دول مجلس التعاون الخليجي الست. إيران ثمينة في حسابات الحلف الروسي – الصيني الاستراتيجي بالذات في مواجهته لحلف شمال الأطلسي، عقائدياً، وجيوسياسياً، وفي لغة المصالح النفطية، وفي إطار النظام العالمي، القديم منه والجديد. فإذا كانت عقيدة الرئيس الأميركي باراك أوباما قامت على مبدأ الاستيعاب عبر الترغيب والإقناع، فعقيدة فلاديمير بوتين هي إعادة خلط الأوراق إحياء للجبروت السوفياتي في منطقة الشرق الأوسط، المحطة الأخيرة لممارسة الكبرياء الروسية. إنها الجولة الأولى في مبارزة تريدها موسكو بوتين مع واشنطن أوباما ومع أوروبا الصاعدة في بناء النظام الدولي الجديد. فروسيا والصين ليستا على استعداد للقبول باهتزاز ركن النظام الدولي القديم القائم على صيانة سيادة الأنظمة الحاكمة وليس سيادة الشعوب. ولذلك، إن الجولة الأولى تقع في المنطقة العربية حيث ساد شعار «الشعب يريد» لإسقاط سيادة الأنظمة.
النظام الدولي المتفق عليه لعقود قام على أساس عدم المساس بالسيادة. في الأساس، كان المبدأ أن لا مساس بسيادة الدول. إنما، عملياً، بات التقليد عدم المساس بسيادة الأنظمة الحاكمة حتى عندما كانت تلك الأنظمة ترتهن الدول وتصادر سيادتها من أجل بقاء الأنظمة في السلطة.
اختل هذا النظام الدولي بصورة جدية عبر الثورات العربية التي اندلعت السنة الماضية وأسفرت عن سقوط الأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». هذا الشعار يرفعه اليوم الشعب السوري، لكن روسيا ومعها الصين، قررت أن في دمشق، يجب أن تتوقف مسيرة «الشعب يريد». والأسباب عدة.
بعض الأسباب يعود إلى خوف موسكو وبكين من وصول مبدأ وشعار «الشعب يريد» إلى عقر داريهما. فاليوم يُرفع نوع من هذا الشعار في روسيا، وبالأمس رُفِع هذا الشعار في الصين قبل إخماده. فما يشجع الشعوب على تحدي السلطة الحاكمة يخيف الشيوعية الحاكمة في الصين – باسم الشعوب – ويخيف الشيوعية الراحلة في روسيا والتي ما زال الحنين إليها في أعماق حكامها اليوم ومعظمهم من العهد السوفياتي.
سبب آخر يتعلق بالاعتبارات الداخلية هو صعود الإسلاميين إلى السلطة في المنطقة العربية خلفاً للثورات. فلدى روسيا والصين أيضاً شكوك في غايات إدارة أوباما والحكومات الأوروبية وراء إقبالها على احتضان «الإخوان» الإسلاميين بحجة أنهم باتوا يمثلون الاعتدال، مقارنة بالسلفيين. حصيلة الأمر أن هناك غرابة في تحالف ما بين الإسلاميين والغرب في صوغ النظام «الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط». إن مجرد إعادة رسم النظام الإقليمي الجديد باستبعاد روسيا والصين وبشراكة بين الغرب والإسلاميين، أثار حفيظة روسيا وغضبها. ثم إن صعود الإسلاميين في الشرق الأوسط قد يمتد إلى جنوب شرقي آسيا، وعندئذ ليس مستبعداً صعودهم إلى السلطة في الجمهوريات الإسلامية في الحديقة الخلفية لروسيا، وبالتالي تطويقها. ومن ثم، ليس مستبعداً أن يؤدي ذلك إلى انتفاضة إسلامية داخل الصين وداخل روسيا حيث أعداد المسلمين لا يُستهان بها.
روسيا، منذ البداية، نظرت إلى سورية من منظار استقواء «الإخوان المسلمين» والسلفيين والتطرف الإسلامي هناك. ديبلوماسيتها أوضحت هذا القلق داخل وخارج مجلس الأمن، لكنها قوبلت من سفراء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا بالقول: «ماذا لديكم من إثبات؟». وهذا من أبرز أسباب الاختلاف بين المواقف الروسية – الصينية والمواقف الغربية. فالغرب أراد التظاهر بأن المسألة السورية خالية من عنصر الإسلاميين كما تراه روسيا، بينما الشرق ازداد غضباً من استهتار الغرب بقلقه من الإسلاميين.
بالطبع، هناك خلفية العقدة الليبية. روسيا والصين شعرتا أنهما ضحية خدعة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي فسَّر قرار مجلس الأمن بأنه يمده بصلاحية العمليات العسكرية. بعد ذلك قررت موسكو وبكين بأنهما لن يُستهان بهما، ولن يُهانا بعد ذلك.
حس الكبرياء هذا تزامن مع مخاوف روسيا والصين من هيمنة غربية بقيادة أميركية وربما بشراكة عربية. الحرب الباردة عادت إلى الأجواء بداية في مسألة ليبيا، ثم استعرت في المسألة السورية. فلاديمير بوتين أحيا زمن التسعينات بذهنية متخندقة ومتخشبة وبخطاب سياسي ستاليني. قرر أن مصلحته تتطلب منه التصدي للولايات المتحدة كي يقول للشعب السوري: أنا عنوان الكبرياء. ثم إن المرحلة الانتخابية في الولايات المتحدة وفّرت لبوتين فرصة تحدي أوباما وهو على يقين أن الرئيس الأميركي لا يريد أن يحارب. هي ذي الورقة الأهم في يد بوتين أن أوباما لن يحارب في سورية ولن يحارب في إيران وهو ليس في وارد التصعيد مع روسيا أو مع الصين. إنه الناشط السياسي المسالم.
وجد بوتين في الملف السوري نافذة للتحدي ولإعادة إثبات الوجود في الشرق الأوسط. وجد أن الاستجابة للضغوط الغربية مكلف لروسيا، ذلك أنه ليس ممكناً لموسكو أن تفقد هيبتها وصورتها لدى إيران وسورية وهما الدولتان اللتان تقاومان النفوذ الأميركي وتشكلان ورقتين مهمتين في مكانة روسيا في الشرق الأوسط. وعليه، قرر أنه لن يرضى بشراكة في إدارة الملف السوري في إطار عملية سياسية انتقالية تكون حصة موسكو فيها نسبية. قرر أنه يريد أن يمتلك أية عملية سياسية في سورية، وأن يقوم هو بإملاء المعايير والشروط. أخذ بوتين هذا القرار إلى منعطف جديد حين قرر أن ملكية مصير سورية ملكية روسية وليست عربية أو أميركية أو أوروبية. ولذلك صفع جامعة الدول العربية ودول مجلس التعاون الخليجي بفيتو على مشروع قرار في مجلس الأمن كان قوامه إعطاء جامعة الدول العربية وقطر مفاتيح العملية السياسية الانتقالية في سورية. وجاءت الصفعة على الخدين عندما ضمن معه الفيتو الصيني. بذلك بعث رسالة صارمة ومهمة فحواها أن الصين ترى أن مصلحتها الاستراتيجية هي مع روسيا وليس مع الغرب أو مع العرب.
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وهو بدوره سوفياتي سابق متجدد، توجه إلى دمشق صديقاً للنظام وفي ذهنه قيادة العملية السياسية الانتقالية في سورية. الفيتو الروسي – الصيني المزدوج أعطى زخماً للحل الأمني الذي أعلنته الحكومة السورية على لسان وزير خارجيتها وليد المعلم. واقعياً، بعث الفيتو المزدوج رسالة حازمة إلى المعارضة السورية بشقيها المدني والعسكري: لا مجال للمعارضة للانتصار عسكرياً، ولا وسيلة أمامها لإزالة النظام عسكرياً، ولا حل أمامها سوى حل وسط تقوده روسيا عنوانه الرئيس أن النظام باقٍ.
مبادرة لافروف هدفت وراء إقناع المعارضة ومن يدعمها – أو يملي عليها – بأن لا مجال لتغيير النظام، ولا خيار أمامها سوى وساطة روسية عبر القضاء على الخيارات الميدانية. وفي الساحة الدولية، قررت الاستراتيجية الروسية أن تملي على كل من يعنيه الأمر أن الحل الوسط الوحيد هو في عملية تقودها روسيا.
لم تأبه موسكو بالتهم بأنها باستخدامها الفيتو وبمبادرتها العنيفة استعجلت الحرب الأهلية في سورية. قلقت قليلاً من عنف صفعتها للعرب وبالذات لرئيس وزراء قطر حمد بن جاسم رئيس اللجنة الوزارية العربية المعنية بالشأن السوري. لذلك حرص سفيرها لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين على عقد مؤتمر صحافي لنفي ما تردد بأنه هدد بن جاسم «بمحو قطر من الخريطة». إلا أن ذلك لم يمحُ ما تركته الديبلوماسية الروسية من انطباع واضح بأنها لا تأخذ الديبلوماسية القطرية على محمل الجد، لا سيما في أجواء استعادة الحرب الباردة بين الدول الكبرى، وأن المسألة السورية ليست منفصلة في ذهن روسيا وإنما هي إيرانية بامتياز.
المواجهة الروسية مع دول مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية والدول الغربية ليست خالية من المغامرة. كذلك الصين، التي حجبت العُزلة عن روسيا في مجلس الأمن، تغامر. فالمسألة السورية لدى دول مجلس التعاون هي أيضاً إيرانية بامتياز. وبالتالي، إن انحياز روسيا والصين بهذا القدر من الوضوح والعلنية أعاد دول مجلس التعاون إلى الطاولة الاستراتيجية لتقرر ماذا أمامها من تحديات ومن خيارات. فهذه الدول اليوم ليست دول الأمس التي ارتمت على هامش أو في أحضان أحد القطبين أيام الحرب الباردة حين كانت روسيا اتحاداً سوفياتياً يُؤخَذ به في الحساب. فروسيا اليوم تحاول استرداد بعض بقايا العظمة من خلال حرب باردة تشنها في منطقة الشرق الأوسط.
ثم هناك تركيا التي طرحت مبادرتها بدورها على أساس عقد مؤتمر دولي لا يترك لروسيا وحدها – والصين وراءها – صلاحية الإملاء على المنطقة. وليس واضحاً إن كانت تركيا ستضع يدها في يد دول حلف شمال الأطلسي لدعم عسكري غير كاف لمعارضة قد تعسكرت. وهنا تزداد خطورة الأوضاع في سورية، لا سيما إذا استمرت خلافات المعارضة السورية وتبين أن عسكرة المعارضة هي لمصلحة مجموعات تريد السلطة وليس الإصلاح. ولذلك، إن إيضاح هوية المعارضة السورية بات أمراً ملحاً.
المعركة على النظام الإقليمي الجديد والنظام الدولي الجديد جديدة من نوعها نظراً للمكان والزمان إلا أن المسألة الفلسطينية ستعود إلى المعركة إذ بدأت روسيا في محاولة التعويض عن سقوط هيبتها ومكانتها لدى الشعوب العربية، بالمزايدة في شأن القضية الفلسطينية. بدأت بالقول إن حل الدولتين بات مستحيلاً وإن دول مجلس التعاون في لهو بإيران وليس بفلسطين وقد تقرر تدمير «اللجنة الرباعية» إذا استعرت الحرب الباردة.
الحياة