صفحات الثقافة

بورتريه أولي ليساري متجدد/ غسان زقطان

 

الأشياء لا تحدث تماماً، إنها تتجمع هناك بالضبط في الخارج، في أماكن الآخرين، بينما يراقبها هو من خلف الزجاج، ليس مهما ما يراه أو ما يخيل للناس أنهم يروه، ثمة هناك في الظل حيث تتراكم الأشباح وتجتمع وتلوح بأجسادها المشوشة من يرسم خطوطاً على التراب ويضع إشارات ويلوح لأشخاص ينتظرون خلف السياج.

يفكر بالمؤامرة، بنواة كل شيء هنا، المؤامرة التي دقت على أبواب السوريين ونوافذهم قبل أكثر من ثلاث سنوات، على سبيل المثال، وجرتهم من ياقاتهم إلى الشوارع في استعراض راقص، لا يشبه الثورات التي تخيلها أو خطط لها وحلم بها مع رفاقه في الحزب خلال الاجتماعات الطويلة التي يمكن أن يسرد محاضرها دون أخطاء يمكن احتسابها، الذي حدث في سوريا كان خارج الحلم، خارج التحليل وخارج الاجتماع تماماً، لم يكن هناك قادة أو أحزاب أو اجتماعات حقيقية كتلك التي كانت تضع خارطة العالم على الطاولة إلى جانب منافض السجائر التي ستمتلئ إلى حوافها قبل أن تبدأ بالزحف على أسماء الدول والأنهار والبحيرات والجبال على الخارطة، فيما يتراكم دخان التبغ ويتحول المكان برمته إلى غيمة يصعب تمييز الأصوات التي تصل من طياتها.

لا يظن أن الأولاد الذين أثيرت بسببهم الجلبة في درعا، بما فيهم الولد الذي خطف وقتل وشوهت جثته، هم الذين خططوا لكل هذا، كما أنه يصعب تصديق أن تلك الجموع التي كانت تواصل الرقص في الحارات الضيقة يمكن أن نطلق عليها، هكذا ببساطة مفردة مثل ثورة، يستطيع أن يتذكر تلك الحلقات المتكاتفة لرجال ونساء ملثمين، يدورون في ساحات غامضة تحت اضواء كاشفة، صفراء في الغالب، منذ اللحظة الأولى كان واضحاً بالنسبة له أن هناك من يحرك، هؤلاء في العتمة، اللغة التي كانوا يتحدثون بها لا تشبه لغة أي حزب مر عليه أو مفردات الزعماء القدامى حين كان يمكن الاستماع إلى خطاب كما تصغي إلى أغنية ساحرة، لم يعد هناك خطابات حقيقية من تلك الأيام، ولم يعد هناك خطباء يصعدون إلى المنبر كآلهة ويبدأون بتحرير كل شيء، الطبقة العاملة، لواء الإسكندرون، فلسطين كاملة، الأهواز، حتى سبتة ومليلة في الساحل المغربي، كان يمكن لهما أن تمدا برأسيهما وتجدا مكاناً لهما في الخطاب.

هؤلاء يتحدثون عن أشياء أخرى، وبلغة عادية وبسيطة تغلب عليها اللهجة، حتى أنك يمكن أن تلتقط في هذه الفوضى مفردات كردية مثل ” آزادي ” أو شيء من هذا القبيل.

أحيانا ولاستدراج شيء من الثقة أمام ما يحدث، يعود لمحاولة تذكر موقع قدميه وفيما لو أنهما بقيتا هناك حيث تركهما في المظاهرة الأخيرة التي لم يعد يتذكرها جيداً، ولكنه يستطيع أن يخمن أنها كانت في ساحة عامة، وفي ضوء النهار وثمة منصة وخطباء من ذلك النوع، وكل شيء، وكان ثمة مطرب حقيقي بطقم وربطة عنق ومساحيق وشعر مصفف يغني ضمن نظام صوتي تم تجهيز المنصة به صباحاً، ولا يشبه هذا المغني الذين سمعه مرة في حماة، وكان يغني عبر مكبر صوت مدرسي بصوت غير مصقول، وبهيئة عادية يمكن الحصول عليها في أي مقهى شعبي، ورغم ذلك كان هناك عشرات الآلاف من المارة يرددون اللازمة خلفه. يظن أن اسمه إبراهيم، سيجدونه منتحراً في نهر العاصي بعد أيام وسيدعون أن هناك من عذبه واقتلع حنجرته. مغني حماة الذي كان اسمه إبراهيم، كان مجرد صوت شعبي غير مدرب متورط في كل هذا، قبل أن يطفو على ضفة العاصي ليصبح له اسم ووجه وشارب خفيف وسيدة تبكيه وهي تحاول إسناد رأسه وحنجرته المدماة.

لقد وضع كل شيء في مكانه، قضى وقتاً طويلاً وهو يرتب الأشياء ويصنفها في ثنائيات ساحرة ونهائية، كان هناك مكان للخونة والوطنيين، للأنقياء والملوثين، وأضاف فيما بعد مكاناً بارزاً للكفار والمؤمنين، للمستسلمين وللممانعين، كان كل شيء يسير في سياقه المرسوم، بدا أن الأرض هدأت للمعارضة مكان اختارته السلطة بنفسها وللسلطة مكان آمنت به المعارضة الحكيمة، حتى أن شيئاً من التشابه بدأ يتشكل في ملامحهما، ولم يكن من السهل، فيما هو يراقب بعيني صقر قومي، أن يتسلل أحد أيا كان من موقعه في القائمة، حتى تلك المصطلحات التي جرى تبديلها لسبب أو لآخر، تحديداً عندما وصل الإسلاميون ببلاغتهم وأزيائهم وأدعيتهم ويقينهم الذي حرر الجميع من الأحلام، بدا من الحكمة أن ينزاح القاموس في بعض مناطقه، مثل استبدال “مناضل” ب “مجاهد”، أو “تضامن” ب “نصرة”، حتى أن إيقاع مفردة ” النصرة ” يبدو أكثر سلاسة ودقة من ” تضامن”، يمكن إضافة “المبايعة” التي تم نقلها وغسلها وتحميلها برؤيا معاصرة، أو دخول مصطلح “الممانعة” الاستثنائي على المشهد البلاغي، حيث استطاع مفهوم الممانعة المرن أن يحتضن الجميع مثل حضن دافئ، السلطة والمعارضة، الحزب الأصولي الطائفي والنظام القومي، اليساري العنيد والإسلامي العنيد أيضاً، المفكر القومي والداعية الحزبي، وتم ببساطة دحر الآخرين خارج المصطلح تماماً، بدون ممانعة أو نصرة أو جهاد.

كل شيء كان واضحاً ومرتباً قبل أن تبدأ هذه الأشياء بالحدوث، تحديداً قبل أن يندفع هؤلاء الأولاد الذين لم يكن ينتبه إليهم عادة بالخروج إلى الشوارع والمطالبة بأشياء توقف هو عن التفكير فيها أو تذكرها، أولاد لم يتربوا داخل الاجتماعات الطويلة ولم ينصتوا لخطابات الآلهة.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى