بورخيس العاشق: تؤلمني امرأة في جسدي كله/ رلى راشد
بين دفّتي المجلد الأول من كِتاب “في حوار”، انصرف خورخي لويس بورخيس الى لقاءات عفوية لافتة جمعته بزميل الكتابة أوسفالدو فيراري، على رغم الأعوام الكثيرة التي فرّقتهما. في هذا التمرين التأليفي، علّق فيراري على حضور الحبّ في رصيد بورخيس واعتبره الدافع بل العنصر الديناميكي، ولا سيما في قصته القصيرة “الألِف”.
لم يكن بورخيس ليكذّبه تماما، لكنه صوّب قوله معتبرا ان العمل جافى قاموس المرأة ليمكث في سواه. لا يسهل إيجاد بورخيس المؤمن بالتبدّد والمقتنع بأن الخطّ المستقيم هو أسوأ المتاهات، متحبّبا للحب. لكن الكاتبة الفرنسية سيلفيا بارون سوبرفيال رغبت في رؤيته تحت هذا النور الكاشف راصدةً قصائد الحب في تجربته.
سيلفيا بارون سوبرفيال فرنسيّة الراهن وأرجنتينية الماضي. سبق لها أن خصصت بحثاً لتبديل اللغة عند المؤلف حيث قاربت الكاتب شخصاً هامشياً دوماً، ومنفيّاً أبدياً، على رغم تمثيله الماهية الصافية للمنطقة الجغرافية حيث يلد، رافداً إياها بلغة فريدة. تمهّلَت في بحثها عند بورخيس الذي جاور منذ الطفولة الأدب العالمي وخصوصا الأدب الناطق بالإنكليزية، وبعده الناطق بالألمانية، لتجد انه استحق ان تخصّص له فصلا كاملا من كتابها. هذا في شأن تغيير اللغة عند الأرجنتيني بورخيس، فماذا عن تبديل التيمة؟ ماذا عن تمرين إعادة توجيه البوصلة صوب الحب؟ انهمكت الكاتبة بالمسألة الى حدّ دفع بها الى إصدار كتاب حديث بالفرنسية والقشتالية، بعنوان “قصائد الحب” يأتي بمثابة جولة في رصيد بورخيس العشقي. يرى الكتاب الصادر لدى دار “غاليمار” النور في موازاة حلول الأرجنتين، مربط خيل بورخيس، ضيفة شرف على معرض الكتاب الباريسي. يجيء كمحاولة لملاحقة بورخيس في تبدلاته الشعورية هائماً في دوامة أحاسيس استبدت به لتنتشله من توازن آثره.
عكست أعمال بورخيس التخييلية شخصية أدبية مركبة وتهكمية في حين بدت قصائده، ولا سيما تلك المتأخرة، على نقيض ذلك، شفافة الى حدّ بعيد، تسمح للقارئ الفضولي بأن يصل الى الطبقة الأكثر كثافة في شخصية بورخيس، إلى الإنسان في خلوة حديقته الشخصية. تشير سيلفيا بارون سوبرفيال في إحاطتها ببورخيس الذي أضاءت عليه على نحو غير مستهلك، الى انه دأب يسقط في شرك الحب. تقول انه كان يسهل عليه أن يصاب بسهام كوبيدون في حين ظلّت أحاسيسه فرديّة وغير متبادلة، في حالات كثيرة. ليس مفاجئا تاليا أن يؤدّي هذا الطراز من الصدّ الى حال من الوحدة العميقة، التي تبدّلت حين التقى بزوجته الثانية ومساعدته الشخصيّة ماريا كوداما. لطالما انجذب الأرجنتيني لاستحالة السعادة، ربما لأن الحبّ ظلّ عنده مثالياً على نحو شبه كامل، يبتعد عن المفهوم الجنسي والرغبة لينبثق في الشيخوخة “سعادة جديدة وبسيطة”. والحال انه كتب في الشيخوخة في قصيدة “الغبطة”: “من يعانق المرأة هو آدم. المرأة هي حواء. يحصل كل شيء للمرة الأولى. رأيتُ شيئاً أبيض في السماء. يخبرونني انه القمر، لكن ما الذي تستطيعه الكلمة أو الميثولوجيا؟”.
ذكَر بورخيس مرة انه منذ مستهل ذكرياته وعى غرامه بإمرأة معينة. قال: “هذه المرأة سيدات مختلفات، غير ان كل واحدة كانت فريدة. شكّل الحب نوعاً من أنواع التجلي”. في القسط الأول من “قصائد الحب”، تتمهل الكاتبة عند قصيدة “المُهدَّد” وتترجم عنوانها في الفرنسية “الرجل المُهدَّد” حيث نقرأ الحب متخفّياً خلف شتى المبررات. في هذه القصيدة يحلّ الحب من طريق قدرته العاصفة، كتمرين يكسح من يقف أمامه. حين يُستحضر الحب، لا تستطيع الحياة ولا التعلّم ولا التجارب سوى تقديم فائدة جزئية، يؤكد بورخيس. يراه متقدما ويقرّ بسطوته لكن لا يلبث أن يشعر بضرورة الفرار. نقرأ في هذه القصيدة: “إنه الحبّ. ينبغي لي الاختفاء أو الفرار. تنمو جدران سجنه، كمثل حلم فظيع. تبدّل القناع البديع، لكنه الوحيد، كما في كل مرّة. كيف تخدمني تعويذاتي: تمرين الحروف، والمعرفة المبهمة وتعلّم الكلمات”. يضيف: “أن أكون معك أو أن لا أكون معك. إنه مقياس زمني”. يعاين بورخيس الحبّ في القصيدة مزيجا من القلق والإرتياح للإصغاء الى صوت الحبيبة ناهيك بالإنتظار المعطوف على الذكريات. يعاين “الحبّ في أساطيره” في ألعابه السحرية الصغيرة وغير المفيدة. يشبّهه بركن حيث لا يتجاسر على المرور. لا يلبث أن يلخص حالة ضياعه معلناً: “يكشِفني اسم امرأة. تؤلمني امرأة في جسدي كله”. الحبّ صيغة أكيدة عن القلق والخشية يغزوان بورخيس ويحتلان جميع الأمكنة.
تعرّفت الكاتبة والمترجمة والشاعرة والباحثة سيلفيا بارون سوبرفيال الى بورخيس في شبابها في بوينوس ايريس، لتستعيد الدنو منه في مدينتي باريس وجنيف حيث قرأت له صوب نهاية أيامه، ترجمة أنجزتها من آخر دواوينه “طاردو الأرواح”. تضمّنت تلك المجموعة الشعرية الأخيرة خلاصة لغز الحياة وفق ما كرّسها بورخيس في تجربته الأدبية. لكن لغز الحبّ عنده ظل يؤرق بارون سوبرفيال لأعوام عدة، فاهتمت بجمع القصائد المتمحورة عليه. نسيتها لفترة طويلة الى حين عادت لتحييها هذه السنة.
أفصح بورخيس مرّة أنه يترقّب الموت بينما يحدوه الأمل، ليردف ان السبب خشيته من ان يصير خالدا. جاء كلامه أواخر السبعينات من القرن المنصرم ولم يلبث أن تمهل عند لحظة الفراق. كتَب في قصيدة “وداع” الواردة في مجموعة “قصائد الحب” أيضا: “سترتفع بين حبّي وبيني، ثلاثمئة ليلة وثلاثمئة جدار أيضا. سيصير البحر بيننا سحرا. لن يكون هناك سوى الذكريات. ليال مستحقة بفضل التعاسة. ليال على أمل رؤيتِك. حقول طريقي، سماءٌ. أراها وأضيّعها… غيابك النهائي كمثل الرخام سيُحزن ليالي أخرى”.
لم تكن خشية بورخيس على ما يبدو أن يعرف الخلود، وإنما أن يعرفه وحيدا.
النهار