بورخيس قارئاً للمحمدية.. من اللوح إلى المكتبة/ أيوب المزين
“لا أحد يقوى على قراءة ألفي كتاب. أعيش منذ أربعة عشر قرنا
ولن أكون قد قرأت منها أكثر من ستة. ثم إنّ القراءة ليست الأهم
وإنما إعادة القراءة. لقد كانت الطباعة، المندثرة الآن، واحدة من
أسوأ مضرّات الإنسانية لأنها نحت حدّ الدُوار نحو مضاعفة نصوص تافهة”.
طوباوية رجل متعب، خ.ل. بورخيس.
لعلّ خورخي لويس بورخيس (1899-1986) الأديبَ المعاصر الوحيد الذي طرق باب الثقافة العربية الإسلامية ودخل، من خلال السرد والتخييل، في حوار مستمر مع التراث المحمدي، سواء عبر استهلالاته واستعاراته واقتباساته أو تعليقاته الهادئة على الخلافات اللاهوتية والفلسفية التي سادت العالم الإسلامي، من قرطبة إلى بغداد، مرورا بمراكش، إبّان القرن الثاني عشر للميلاد. لقد انبرى بورخيس، في أكثر من نص ومحاضرة، لمسائل ميتافيزيقية ودينية وتاريخية بين عالمين متناحرين، بل اقتحم سجالات الشرق والغرب بـ”حياد” إيديولوجي انتصر للغة واستراتيجياتها ومجّد الأدب الرباني حيث تولد المفارقات الإنسانية: من اللوح القرآني المحفوظ إلى الكوميديا الإلهية لدانتي، جعل الكهل البصير من صحرائه الممتدة، من المكتبة الوطنية في بوينس آيرس وحتى الأبراج الأسطورية في بابل، فضاءً خصبا لتجريب علائقه الوجدانية بالكون والألسن والأسماء. يُنطق اسمه في الفرنسية بالجيم عوض الخاء: بورجيس. نسمع هنا كلمتيّ بُرج وجَسّ، عُلُوٌّ يحنو ويترقّب. وحينما كان صاحبنا طالبا في سويسرا كانوا ينادونه: بُرج، دون التلفظ بالحرفين الأخيرين.
ومع ذلك، أي على الرغم من ذلك الشموخ الإسميّ والرّسمي المثبت، فإنّ النص البورخيسي لا يخلو من إشكاليات خطابية قد تأخذ تأويلات حادّة تُساءل مصداقية مقولة الفن من أجل الفن وتشكك في استقلالية الأدب عن السياسة، حتى إن هناك من يذهب إلى اتهام مشروع بورخيس في جوهره بالتطابق مع المركزية المسيحية للاستشراق، من حيث اعتماده على اختلاق جغرافية متخيلة تحكمها تراتبية معرفية، يبقى التفوق فيها للقيم الأفلاطونية المسيحية على محمدّيين يرفضون التصوير ويجهلون المسرح. من اليسير إيجاد عناصر تدعم هذه الفرضية المزعومة، ومن اليسير أيضا إيجاد ما يدحضها، إلاّ أن الأعسر هو مرافقة الرجل، يدا في يد، صاحبا بالجنب، إلى حيث نتعرّى جميعاً أمام مرايا الأدب المتناظرة، بعيدا عن هوس الدراسات الثقافية ومابعد الكولونيالية. لماذا أهدى بورخيس “مكائد سانجاكومو” إلى محمّد الرسول؟ هل أخفى بين ثنايا تلك المقابسات الممتعة شكلا من أشكال الاستشراق النّاعم والملتوي؟ وإلى أي مدى كان خورخي الموسوعيّ معنيّاً بمحدّدات الحقيقة وصرامتها؟
متاهات الانتماء
لم يُشيّد صاحب “الألِف” سلطته وصيته على خلط المحلي بالعالمي ولا على هدم جدار الثقافة الوطنية عبر تشعيب مسالك العبور إلى التخييل وتسفيه الواقع، وإنّما عدّل تماما جغرافية الكتابة وأحلاف النص: نبي عربي، راهب من أوركادا، وقاض في الأندلس، إلخ. فمراجعه مرتلة ومبلبلة في آن، وأصدقاؤه كثيرون، حقيقيون ووهميون، ومن كل الحضارات. كان ذلك قبل ويكيبيديا وفيسبوك. إنّ عمل بورخيس، حسب عدد من المثقفين الأرجنتينيين، “ليس أرجنتينيا بما يكفي”. وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، ما يكون بورخيس حقا؟ من أجل الرد على أضلولة الانتماء في الأدب، يستقي بورخيس مثالاً خاطئاً عن غياب ذكر الإبل في المصحف من إدوارد جيبون، وبعدما يُذكّر ببشرية النص القرآني، يقول: “… لكن محمدا، باعتباره عربياً، لم يكن معنيّا بالأمر، فقد كان يعلم بكينونته العربية دون الإبل. أعتقد أننا كأرجنتينيين يمكننا الاقتداء بمحمد، أي يمكننا الاعتقاد في أن نكون أرجنتينيين دون الاستغراق في اللون المحلي”.
هكذا يتحالف بورخيس مع الصّحراء المحمدية للاستدلال على دونية سياسات الهوية أمام كونية النص. والسماء ذات البروج. قد يكون بورجيس، وهو يعبر المحيط الأطلسي باتجاه الحجاز، مجرد حالم ساذج ومفتون بالرحلة، توّاق لركوب البحر وخائض فيه، كما قد يكون مخادعا، قاطع طريق في زي عابر سبيل، لكن السفر مهما طال يُسفر عن أقنعة الممثلين. هل جعل بورخيس “الظاهر” باطناً، مقايضا الواحد بالمتعدد والإسطرلاب بالماء، مغرقا الواقع في الغرابة والترميز؟
أثناء محاضرة ألقاها سنة 1978 في مسرح الكوليزيه في بوينس آيرس، وتطرق فيها لقضية الشرق والغرب، يقول بورخيس: “… سنعالج لاحقاً كلمتيّ شرق وغرب، اللتين لا نقدر على تحديدهما، بيد أنهما حقيقيتان. إنهما تذكراني بما قاله القديس أوغسطينوس عن الزمن: ما هو الزمن؟ إذا لم تسألني فإني أعلم، ولكنك إذا سألتني فإني لا أعلم. ما هو الشرق والغرب؟ إذا سألتني فإني لا أعلم”. يظهر بورخيس متوجّساً، حذراً ومراوغاً، فالأمر لم يعد مقتصرا على ناقة في خلاء أو إبرة في قش أو حرف في برج، كذلك يُهرّب مكانية السجال إلى استحالته الزمنية حتى يُشوش على أي اختطاف سياسي راهن لخطابه. يضيف: “هنالك شيء ما نشعر به باعتباره الشرق، شيء لم أشعر به في إسرائيل ولكني شعرت به في غرناطة وفي قرطبة.
لقد شعرت بحضور الشرق، ولا أدري إن كنت قادراً على تحديده؛ ربما ليس من داع لتحديد شيء نشعر به غريزيا”. يعلق أحد الدارسين على اقتباسيّ بورخيس السابقين، اعتماداً على أطروحة إدوارد سعيد، بإن التمييز الذي يقيمه مُؤلِّف “المرايا والمتاهات” بين الشرق والغرب على اعتبارهما بنيتين باطنيتين بالأساس وتشديده على اللغز الإكزوتيكي لـ”شرق” يبرهن على أن بورخيس كاتب استشراقي نموذجيّ يشتغل داخل إطار الشبكة الإيديولوجية للصور الاستشراقية. بورخيس إذن، حسب الدّارس، مستعينا ببراديغم سعيد، كاتب استشراقي، لأنه غير ملتزم ولا منسجم مع سياقه الثقافي والتاريخي وفار من قضية موطنه ويُعدي الفكر بلوثة قراءة/كتابة حالمة، مثل تميمة غامضة، تُمجّد السّحر والوحي.
شريعة القراءة
ليست القراءة مجرد إجراء ثقافي أو تكتيك جمالي وسياسي أو زاد أرستقراطي يتزيّن به دفين جنيف لفتنة الناس والعالم، إنّها علة اللغة الأولى وسبب إيجادها، وبها يثبت الإنسان كينونته ويقرُنها بالكون. إنّ القراءة بالتالي سابقة على تأويلية الواقع، وهي بذلك مناقضة لإيديولوجية الالتزام، تقابل النفوس بالكتب عند نهر الخرافة السحيقة. لكن في أي الكُتب نقرأ؟ هل نفتح الحديث نفسه؟ في نص تحت عنوان “شعيرة الكُتُب” يَخُطّ بورخيس: “بالنسبة للمسلمين، القرآن، الذي يسمونه أيضا الكتاب، ليس فقط واحدا من إبداعات الله، مثل الروح البشرية أو الكون، لكنه صفة من صفات الله مثل أبديته أو غضبه. في السورة 13، نقرأ أن النص الأصلي أو أم الكتاب محفوظ في السماء”. يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب. تبدو فكرة “أم الكتاب”، إلى جانب مسألة التوحيد، مثيرة للاهتمام بالنسبة لبورخيس، تذكره بالـarchetypon عند أفلاطون، وتغريه أكثر حتى من مجلدات ألف ليلة وليلة التي أخفى المتقاعد مؤلفه العجيب خلفها في “كتاب الرّمل”. يُصدّر بورخيس قصّتين اثنتين بآيتين من المصحف، ولا داعي للتذكير بما يترتب عن التصدير عنده داخل متن الحكاية. يبدأ “ابن الحسن البخاري ميتا في متاهته” بجزء من الآية 13 من سورة العنكبوت حيث يتخذ الحيوان بيتاً، ويفتتح “المعجزة الخفيّة” بالآية 259 من سورة البقرة التي تلخص حوار النبي النائم مع الله بعد البعث. يؤكد ذلك، مرّة أخرى، إقبال بورخيس المسهب على معالجة تيمات الحُلم والخلق والخلود والفناء، متلاعبا على الدوام باستعارات لانهائية عثر عليها ككنز منسي في كتاب المسلمين.
يقدم بورخيس شريعة القراءة، وإعادة القراءة، على شعيرة التأليف. فالكتابة نافلة الفريضة، والفريضة هي تقليب صفحات ما لم نكتبه. وكما اختلق أصحابه وخرائطه وتخوم معاركه، فإنه “ناظر” النصوص والرجال، من محمد التاريخي والشعراء الفرس إلى ابن خلدون وابن رشد. لكن بعض الدارسين، متشبثين باستشراق بورخيس، يحرصون على الإشارة إلى احتياجه لوسيط من أجل التوغل إلى تلك المراجع العربية والفارسية لجهله لغتها. فقد صدّق جيبون في نقله عن المصحف، وقرأ ابنَ رشد من خلال إرنست رينان، وابن خلدون من خلال رتشارد برتون، وعمر الخيام من خلال إدوارد فتزجيرالد، وهو لا يخفي الأمر البتة. طبعا، قد يُذكي ذلك ريبة طالبي التحقيق، لكن خزانة خورخي لا تهاب الخطأ، وما دامت مكونة من متون سردية مسكونة بالاختلاق والتحريف، فهي لا تبتغي الحقيقة دائما. كما أن بورخيس نفسه مكتبيّ مهووس بالأرشيف وكاتب قصص منتحِل، بالمعنى الجاحظي للكلمة، وليس محققا أو مؤرخا قرأ كل شيء وارتاح في اليوم السابع. على هذا النحو، لا يمكن اتهامه، وهو يعيد كتابة حكاية ابن رشد مع أرسطو مثلا، بالتحامل على صاحب “تهافت التهافت” أو السخرية منه، ومن المسلمين من خلاله، لأنهم مجرد بدو غابت عنهم الفنون (كما ادعى البعض)، ولا يمكن اعتبار إعجابه الشديد بدانتي اتفاقا لاهوتيا ودينيا مع شاعر وضع الرسول داخل جهنم، على مقربة من إبليس، في كوميدياه الإلهية.
المعرفة ضد الحقيقة
يبدو بورخيس غير آبه للحقيقة، مديرا ظهره لها، مقبلا على عجائبية العرفان في أعداد الكابالا وفي رؤى المتصوفة وفي المعادلات الرياضية هندسة وجبرا. لا يُجبرنا الأرجنتيني العجوز على تصديقه، وإنما يضعنا أمام هول المعرفة ومتعة الأدب، منذ هوميروس وحتى الآن. فالله، الذي عنده أم الكتاب، لا يمكن أن يكون إلا مكتبة في تصور بورخيس. بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ. في إجابة على سؤال لماريو فارغاس يوسا بخصوص خمس مجلدات مفترضة يختارها لإمضاء بقية حياته على جزيرة قاحلة، يتحدث بورخيس عن بعض العناوين، من بينها مقدمة برتراند راسل إلى فلسفة الرياضيات والكتاب المقدس، ويزيد “في جميع الأحوال، ذاكرتي مأهولة بالأبيات لدرجة الاعتقاد أني بغير حاجة للكتب. أنا بذاتي نوع من أنطولوجيا لآدب متعددة، أنا الذي لا أتذكر جيدا مجريات حياتي، يمكنني أن أستظهر عليك لانهائيا وحتى الملل أبياتا باللاتينية والإسبانية والإنكليزية والإنكليزية القديمة والفرنسية والإيطالية والبرتغالية. فهل أجبت عن سؤالك؟”. ههنا، في إجابة بورخيس، يتجلى تحقق خلاص القراءة في اللانهائي، في الأسفار والأرقام والأشعار، فالرجل دائم التواضع يصير بنفسه مكتبة خالدة تزدرد الكلام وتبلبله، ولا يتردد في استعراض معارفه لأنها ذخيرته الوحيدة في مواجهة عزلة العمى ووحدة الجزيرة البعيدة التي افترضها يوسا في الاستفسار. فهل على الأديب الانشغال بشؤون اللغة والتفكير أم بقضايا الحس والمتعة؟ وما يكون الأدب غير الاحتيال على الحقيقة؟
في نص قصير ولاذع عن بورخيس يكتب موريس بلانشو: “أظن أن بورخيس قد تلقى اللانهائي من الأدب، ليس ذلك للقول بأن له فقط معرفة رصينة مستخلصة من أعمال أدبية، ولكن للتأكيد على أن التجربة الأدبية هي ربما قريبة أساساً من المفارقات والسفسطائيات، مما أسماه هيغل، بغرض عزله، اللانهائي السيئ. قد توجد حقيقة الأدب في أضلولة اللانهائي، فالعالم حيث نعيش وكما نعيشه هو لحسن الحظ محدود. لا نحتاج سوى بضع خطوات للخروج من غرفتنا، وبضع سنين للخروج من العالم. لكن لنفترض، داخل هذا الفضاء الضيق، المعتم بغتة، عميانا بغتة، أننا نضيع. لنفترض أن الصحراء الجغرافية تؤول إلى صحراء كتابية biblique: ليست أربع خطوات ولا سبعة أيام هي ما يلزمنا لعبورها، وإنما زمن جيلين، بل جميع تاريخ كل البشرية، وربما أكثر”. بالنسبة لبلانشو، لا يعدو أن يكون بورخيس رجلا ضلله اللانهائي، طيف أم الكتاب، في الفيافي البعيدة، وأوهمته المتاهات الصحراوية والليالي العربية بأن الغرفة غير الغرفة والعالم غير العالم. فنحن، بالنسبة لبلانشو، قادرون على الرجاء حيثما وجد المتناهي المغلق؛ بيد أن الشساعة اللانهائية هي السجن، على حد قوله. بهذا الشكل، بالعودة إلى عدوى العرب في نصه، تكون المحمدية قد جعلت من بورخيس، سواء في “الدنو من المعتصم” أوفي “حجرة التماثيل” أو في “Tlön Uqbar Orbis Tertius” أو في “الظاهر” وغيرها، مغامرا ضيّعه الحبر على باب القيامة.
ثمة قصتان حقيقيتان لبورخيس مع العرب، قصة فضيلة الصداقة، صداقة اللغة وحنين المكان. تروي أرملته، ماريا كوداما، للصحافي هيكتور داميكو، أن زوجها كان قد قرّر دراسة العربية في نهاية حياته. أسابيع قبل الوفاة، وقع الاختيار على أستاذ مصري من الإسكندرية. بكى المُعلم لمّا فتحت المرأة البابور أي الرجل العجوز. كان قد قرأ، على ما يبدو، مؤلفات بورخيس ولم يجد صعوبة في التعرف عليه، لكن حتمية الرحيل أوصدت الأبجدية. لم تسمح لخورخي أن يفتح معنا الكتاب نفسه ليتلو رفقتنا آية النور. كذلك زار مراكش مرتين، رفقة زوجته، وفي ذاكرته شيء من بطش المرابطين ووجع جثة الشارح الأكبر، وتلك القصة الثانية. لاحقا، عام 1942، زار فاس. لا أحد يعرف عن هذه الزيارة شيئا، ولا مرجع يذكرها، غير هذا النص.
المدن