بولانسكي ومراتب الهولوكوست/ صبحي حديدي
منذ آذار (مارس) 1977، حين انكشفت وقائع فضيحته الكبرى في تخدير قاصر عمرها 13 سنة ومواقعتها، لم يتوقف المخرج السينمائي الفرنسي ـ البولندي رومان بولانسكي عن احتلال مانشيتات الصحف العالمية؛ ليس بسبب أفلامه وما تنال عادة من إطراء وتكريم، بل لأنّ تلك الفضيحة كانت تجرّ عليه عاقبة تلو أخرى، كما تميط اللثام عن فضائح أخرى مماثلة، تتصل جميعها بهوس الرجل في استدراج القاصرات.
أحدث التطورات أنّ القاضي الأمريكي سكوت غوردون رفض طيّ صفحة الملاحقات بحقّ بولانسكي، في تهمة الاعتداء الجنسي على قاصر؛ وذلك رغم أنّ الضحية، سامنثا غايمر، طلبت إغلاق الملفّ لأنها، وهي اليوم في الثالثة والخمسين، تشعر أنّ استمرار فتح القضية يقوّض حياتها، خاصة وقد صفحت عن المعتدي. القاضي، من جانبه، ارتأى أنّ المتهم «شخص فارّ من وجه العدالة، يرفض تنفيذ أوامر المحاكم»؛ وأنه حتى إذا كان إغلاق القضية يخدم الضحية، فإنّ «من مصلحة المجتمع أن يصدر حكم قضائي منصف، وهو أمر لا يمكن حصوله سوى من خلال مواصلة الملاحقات».
والحال أنّ المرء قد يلتمس العذر للقاضي في تشدده، إذا جاز القول إنه يتشدد بالفعل ولا يمارس إلا إحقاق الحقّ؛ من زاويتين: أنّ وقائع مماثلة اقترنت بسلوك المخرج السينمائي الشهير (الممثلة البريطانية شارلوت لويس ادّعت عليه بتهمة معاشرتها جنسياً وهي في السادسة عشرة، وقبل أيام عقدت سيدة تدعى روبن مؤتمراً صحفياً كشفت خلاله أنها تعرضت لاعتداء جنسي من بولانسكي سنة 1973 وهي في السادسة عشرة أيضاً)؛ والزاوية الثانية أنّ تفاصيل الفضيحة الأولى كانت مريعة حقاً، وتستوجب أشدّ العقاب.
تقول الواقعة إنّ بولانسكي اصطحب سامنثا، بنت الـ13 سنة، إلى فيلا في لوس أنجليس يملكها صديقه الممثل جاك نيكلسون، الذي كان غائباً عن البيت والمدينة؛ وذلك لإجراء جولة تصوير فوتوغرافي، يمكن أن تفتح للصبية أبواب العمل في السينما. صوّرها في المسبح أوّلاً، ثمّ سقاها الشمبانيا، ورغم إصابتها بنوبة ربو مفاجئة، فإنه أعطاها حبّة مهدئ (تُعرف شعبياً باسم «عقار الحبّ»، لأنها تحثّ على الاسترخاء)، وعاد إلى تصويرها في حوض الاستحمام، ثمّ واقعها جنسياً؛ ولم تفلت من براثنه إلا حين وصلت إلى الفيلا صديقة نيكلسون، أنجليكا هوستون، وطردتهما. فيما بعد، سوف تروي سامنثا ما جرى معها لصديقها، وكانت أختها تسترق السمع، فأخبرت والدتها، التي اتصلت بالشرطة…
في أروقة المحاكم شهدت القضية تطورات متلاحقة، بينها إقرار بولانسكي بجرمه هذا، ثمّ فراره من الولايات المتحدة إلى فرنسا خشية أن ينزل به القاضي عقوية مشددة، وتوقيفه في مطار زوريخ بعد سنوات طويلة استناداً إلى مذكرة رسمية صادرة عن القضاء الأمريكي. لافت، في جانب آخر خاصّ من هذه القضية، أنّ التضامن مع بولانسكي اتخذ صفة ثقافية أولاً، بوصفه أحد كبار مخرجي الفنّ السابع الأحياء؛ ثمّ تطوّر إلى تضامن أخلاقي (نعم!)، بالنظر إلى أنه «شيخ في السادسة والسبعين»، و»ضحية شهدت الكثير من العذابات»، وهو… أحد الناجين من الهولوكوست! وتلك مسوغات قال بها الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، ثمّ وزير الخارجية برنار كوشنر، فوزير الثقافة فردريك ميتران؛ وهذا الأخير ألمح إلى أنّ صلة بولانسكي بالهولوكوست تكفيه عذاباً، وتعفيه بالتالي من المزيد، في قضية شاء الوزير العتيد أن يعتبرها «قديمة، لا معنى لها على الإطلاق».
كذلك تابع العالم عريضة تطالب السلطات السويسرية بالإفراج الفوري عن بولانسكي، حملت تواقيع جمهرة من مشاهير العاملين والعاملات في صناعة السينما، بينهم عدد من ألمع المخرجين والممثلين: وودي آلن، مارتن سكورسيزي، برناردو برتولوشي، دافيد لينش، أمير كوستوريكا، ماركو بيلوكيو، جوزيبي تورناتوري، فاتح أكين، توني غاتليف، برتران تافرنييه، جيل جاكوب، جان مورو، فاني أردانت، كوستا غافراس، بيدرو ألمادوفار، فيم فندرز، مايكل مان، سام منديس، مونيكا بيلوتشي، كلود لانزمان. كذلك ضمّت اللائحة مؤسسات ومعاهد سينمائية عالمية، وشخصيات أدبية مثل ميلان كونديرا وسلمان رشدي؛ فضلاً عن المتفلسف الفرنسي اليهودي برنار ـ هنري ليفي، غنيّ عن القول!
على المنوال ذاته نشرت «واشنطن بوست» الأمريكية مقالة آن أبلبوم، التي تشاء المصادفة أنها زوجة رادوسلاف سيكورسكي (المنشقّ البولندي السابق، المستشار السابق لملك الإعلام المياردير روبرت مردوخ، وزير خارجية بولندا يوم الواقعة، ومطلِق إشاعة تقول إنّ والد الرئيس الأمريكي باراك أوباما من أكلة لحوم البشر، وفي معدته أحد أعضاء البعثة التبشيرية البولندية في أفريقيا). في تلك المقالة ساجلت أبلبوم بأنّ بولانسكي تعرّض لجرعة من المضايقات القضائية أعلى من المعتاد، والمطلوب مراعاته لأنه سليل عذابات الهولوكوست!
غير أنّ قرار القاضي الأمريكي غوردون، الذي رفض طيّ الملاحقة بحقّ بولانسكي، يقول أولاً إنّ القضية لم تعد تخصّ سامنثا الضحية وحدها، بل تعني المجتمعات المعاصرة بأسرها، ولا تسوية في هذا يجوز لها أن تُسقط العقاب. كذلك يفيد القرار، حتى إذا لم يتقصده القاضي، أنه لا يصحّ تجميل الفعل الشائن، استناداً إلى رفعة مقام الفاعل.
.. حتى إذا كان ناجياً من فظائع الهولوكوست، بل ربما لأنه في هذه المرتبة تحديداً!
القدس العربي