راشد عيسىصفحات الناس

بيانو في مخيم اليرموك/ راشد عيسى

كأنك أمام مشهد من فيلم “عازف البيانو” الشهير لرومان بولانسكي، حيث عازف البيانو التائه والمطارد وسط القصف والدمار من دون لقمة أو مكان دافئ يعثر فجأة على بيانو بحاله، فيروح يعزف وسط الدمار، هو الذي لم تمس أصابعه البيانو منذ شرّدته الحرب من منزله. لا يقلّ روعةً مشهد مغنين من مخيم اليرموك في فيديو، نُشر الثلاثاء في “يوتيوب”، عن مشهد البيانو وسط الدمار في فيلم بولانسكي، إن لم يفُقْه تأثيراً بسبب من واقعية كل تفصيل فيه.

عازف البيانو في المخيم ليس وحيداً، إنه يعزف ويغني مع فرقة مؤلفة من خمسة شبان. غير أن اللافت هو أن الفرقة والبيانو يؤدون في ساحة خالية بين المباني المهدّمة، في مشهد ولا أروع لإرداة الحياة، خصوصاً بعد صور الجوع، والشهداء الذين قضوا في مجاعة سببها الحصار الرهيب الذي فرضته قوات النظام السوري على المخيم. كل هذا الجوع والموت، وفي المخيم عازف بيانو ومغنون.

لا يبدو أن عدسة المصور، وتوقيع المصور هنا هو صفحة على فايسبوك بعنوان “مخيم اليرموك بكرا أحلى”، غافلة عن المعنى والرسالة التي يريدها المغني أن تظهر للناس. إذ تدور الكاميرا لتلتقط صور المباني المدمرة، والآليات المحترقة والمعطلة والصدئة الموزعة في المكان، ثم تمضي لتصوّر العازف، والبيانو، لتدور على وجوه المغنين. لا يخطر لك هنا أن تفكر كثيراً في اللحن وحلاوته، إنه بيانو وحسب، لكنه طافح بالجمال. مغنون يؤدون بتأثر لا مثيل له، يمكنك أن تخمّن أنهم لم يجدوا وقتاً كافياً للتدرّب على الأغني. ما همّ؟ فالإيمان الذي في عيونهم وأصواتهم أجمل. حتى أن اللحن والكلمات تفلت منك، وأنت تترقب الوجوه، والمغنين وهم يهزون رؤوسهم تأثراً، والكوفيات الفلسطينية على الأعناق. حتى ذلك الخطأ للشاب الذي طلع في مقطع من الأغنية دون سواه، ثم ابتسم، ستغفره بحب، بل قد يكون هذا الخطأ  بالذات هو ما يجعل الفيديو أقرب إلى التصديق. إنه واقعي تماماً، لم يلفّق، ولم يجر تسجيل الصوت في استديو ولا تم تركيبه فوق الشريط البصري.

لولا أن المرء يعرف أن هؤلاء ليس لديهم الوقت لإخراج عمل بصري متقن إلى هذا الحد، لقلت إن الفيديو مدروس بكل تفصيل فيه، حيث محيط البيانو والفرقة، يعجّ بالإشارات والتفاصيل التي لا تخلو من المعنى. ففي وسط الدمار تطل إشارات الحياة، أعلام فلسطين وراء الفرقة تماماً، ثم سيارة البلدية البيضاء وقد كتب عليها “النظافة مسؤولية الجميع”، وكم بدا حيوياً أن تلقى سترة على شباك حجرة السائق، مرمى كرة السلة، وفي النهاية هم أنفسهم، البشر الذي يصرون على البقاء، وعلى الغناء والعزف.

يسأل المرء من هم هؤلاء، كيف يتابعون حياتهم في المخيم المنكوب؟ أحد الأجوبة يأتي بخصوص عازف البيانو: “هو أيهم أحمد، شاب عشريني من اليرموك، درس الموسيقى ويعمل مع والده الكفيف، عازف الكمان، في صناعة الأعواد وتصليح كافة الآلات الموسيقية في معملهم لصناعة الأعواد في مخيم اليرموك، إضافة إلى تعليم الأطفال الإيقاع والعزف على أكثر من آلة موسيقية”.

نحن إذاً أمام عالم غني بالحكايات، ربما.. ولا في عالم رومان بولانسكي.

أخيراً، لا ندري أي مصادفة أن يبث الثلاثاء، في اليوم نفسه الذي تبث فيه هذه الأغنية رسالة موقعة على أنها من وجهاء مخيم اليرموك تطالب المنظمات الدولية بفتح طريق للفلسطينيين إما إلى فلسطينيين، أو إلى أي مكان آمن يحفظ كرامتهم وإنسانيتهم. أما الأغنية فقد كانت تطالب بوجهة معاكسة لتلك الرسالة حين تقول “يا مهجرين عودوا طال السفر وطوّل/ يرموك إحنا زنوده عنه ما نتحوّل”. لن يخطر لنا أن نسأل من هم الوجهاء الحقيقيون للمخيم، نحن ببساطة أمام منطقين، واحد لكبار المخيم الذين ينظرون إلى الأشياء بعين الحكيم، وواحدة لشبانه المتحمسين المليئين بالاندفاع والأمل والحياة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى