صفحات الثقافة

بيت من كلمات/ ايمان حميدان

لا اعلم اذا كان المطر الذي فاجأنا ليلة الثلاثاء/ الاربعاء انهمر الساعة التي كان أطفال الغوطة الشرقية النائمون يحلمون في أسرّتهم، يعبسون أحيانا للخوف الذي رافقهم طيلة نهارهم، لصوت الموت الذي يطاردهم… يبتسمون حينا لأفكار تزورهم، لحكايات ينتظرونها، لأيام مقبلة فيها حقائب وثياب جديدة وكتب واقلام ملونة، لصباحات كانوا متيقنين انها ستأتي اليهم محملة بوعود سلام وأمل. لا اعلم اذا كان المطر تساقط في اللحظة التي كان فيها اطفال الغوطة يلفظون أنفاسا أخيرة مشبعة بالغاز القاتل، ومعها يلفظون حياة ومستقبل. لا اعلم اذا حمائم باريس لم تزر، كعادتها، شرفتي هي الأخرى لإحساس غريزي ان هناك شيء فظيع يحدث في عالمي الذي أتيت منه.

أعلم أن المطر أتى تلك الليلة، مطر آب خجول، وان رغبة بالبكاء اجتاحتني، رغبة صامتة من دون سبب مباشر. أقول لنفسي في أيام كهذه ليس صعبا أن نستيقظ ورغبة بكاء جارحة تستيقظ معنا، تدلنا على وجودها القوي، وحتى قبل النزول من السرير، هنا جهة القلب وفي قعر الحلق. لكنها رغبة مرفوضة مطرودة بإرادة واعية مرددة «لا ليس الان… ليس الآن…. انه يوم جديد أيها القلب فلا تفقد الأمل».

انه يوم جديد لصفحات الفيسبوك أيضا، الساحة شبه الوحيدة لأخبار طازجة، لإعلان مواقف، لتشكيل تحالفات، لحروب، ولتعداد خسارات. أرى الفيسبوك كهايد بارك عالمي بلغات ثلاث على الأقل، يملك كل شخص فيه لغته ومفتاحه. هناك الحرب بالكلمات، مضادة للحرب الحقيقية التي تبدأ حين ينتهي الكلام. لكنها حرب فيها عسكر وقادة ورجال خطط، فيها أتباع وعدد كبير من المهللين والمناكفين الذين يتحولون إلى ضحايا ويختفون من على صفحاتنا بكبسة زر منا.

انها الحرب من دون دم، من دون بكاء. يغدو البكاء طفوليّاً في الساحة الافتراضية حتى امام الصور الأكثر قسوة. صور لأطفال، يصعب إحصاء عددهم، ممدّدين وعليهم القي غطاء ابيض وقطع ثلج. كأنهم نيام يتابعون أحلامهم، لا آثار دم أو كدمات أو عنف. كأنهم في رحلة جماعية تعبوا منها وناموا قليلا. نوع جديد من الموت، موت زجاجي يأتي ويخرج بصمت كنعاس. موت من دون ضجة. كم ارغب بقوة ان ارفع قطع الثلج والقيها بعيدا عن أجسادهم النضرة. ارمي قطع الثلج بعيدا وانتظر عودتهم للحياة. لكن لن يعودوا، لن تفتح عيونهم على سماء فوقهم، ذلك أننا خذلناهم إلى حد العجز الذي لا عودة عنه، نحن الكبار.

ليست الآلهة التي قتلتهم بل نحن…

صورة الطفل الذي يبدو وكأنه يحاول رفع يده إلى السماء، :انه يريد أن يقول كلمة ما، ربما طلب او سؤال. موت زجاجي بارد. الأطفال يرحلون سريعا أينما كان. أسبوع فقط أو يكاد منذ متفجرة الرويس في الضاحية الجنوبية. هناك حيث لم يبق من أجسادهم هم أيضا سوى أشلاء. لم يبق دليل، نظرة عين او تقاطيع وجه، او يد صغيرة ترتفع لتقول لا! لا أريد أن أموت!

ليس قدرا ولا مصيرا ذلك الذي يفتك بالأطفال… بل سفلة ومجرمون… لهم أسماء وماض ورأس وبطاقة هوية. نتساءل، نحن الذين خسرنا كل شيء ما عدا عقلنا، «أليس هناك من جهة خامسة نهرب إليها من هذا الجنون الذي يصفق له الجميع؟

كثير من الناس يبحثون عن تلك الجهة الخامسة على صفحات الفيسبوك. التوتر السياسي والأمني ينقص عدد الجهات. وفي ظرف متوتر وحاد كوضعنا الحالي، نجد العدد الأكبر من الفيسبوكيين لا يحتاج إلى أكثر من جهتين اثنتين ليعلن حروبه وتحالفاته وانتصاراته.

هكذا هي الحروب لا تحتمل كثيرا من الاحتمالات، ولا أسئلة بعيدة حول «ما بعد». في لحظات مصيرية رهيبة، يغدو السؤال لكثير من الفيسبوكيين موضع شك. التوتر يزداد والحوار ينزوي في خلفية ضيقة. هل هي طبول الحرب تعمي البصيرة؟ أم السبب هو العنف الذي أورثته أنظمة الاستبداد والقتل لشعوبها وألغت من قواميسه جدوى السؤال؟ أم التوتر المتصاعد الذي يحاصرنا بين جهتين اثنتين عدوّتين ويلغي نقاش الاحتمالات… بل يلغينا نحن؟

نُحاصر جميعا على صفحات الفيسبوك بجهتين اثنتين. جهتان فيهما من العداوة والشراسة والكره ما يدمّر جبلا. لكننا كلنا نتشارك في انتظار الجنون. ها نحن هنا ننتظر الجنون القادم، والذي باسم تأديب السفلة سيكون هناك عنف أكثر سفالة. الحرب ستزداد وحشية والغد سيكون اقل احتمالا، والأمهات لن يستعدن أطفالهن، والأطفال لن يستعيدوا حياتهم… ومن خسر يكون قد خسر ولن ينفع البكاء ولن يغير الحداد شيئا… فقط سيحفر الحزن عميقا في الأرواح ويصبح جزءا منها…

إنها الذاكرة تتكلم الآن!

الكثير يحلم أن للحرب نهايات سعيدة. يا للغباء!

الحرب لم ولن تنتهي قريباً.

هي انتهت فقط عند ضحاياها الذين رحلوا.

أما نحن فما زلنا أحياء. هكذا يوحي لنا عالمنا داخل الشاشة. هكذا نقاوم الموت. لنا عنوانان: عنوان السكن والفيسبوك. نعرف، عبر العالم الافتراضي حركة أصدقائنا وأحبائنا. نتابع اختفاء احد المعارضين الذين فضلوا البقاء في سوريا او مُنعوا من السفر. بات عليهم أن يزوروا دائما شعبة المخابرات لتأكيد تواجدهم. أصدقاء لنا بَنَت الثورة في سوريا صداقاتنا ووثقتها أينما كنا. أولئك الذين لم نعرفهم سابقا ولم نسمع عنهم أو منهم باتوا الآن جزءا من حياتنا وأحاديثنا اليومية. جزءاً من أحلامنا وخوفنا على الذي سيأتي ومنه في آن معاً.

ندخل الصفحة في أي وقت نريد، تماما كمن يدخل المرء بيتا له. قد يصح تسميته بيتا ثانيا، أو لنقل بيتاً داخل بيت وبالتالي هو العمق. يغدو البيت التقليدي حجرا وخشباً وجدرانا وأرضاً تؤلف وتحمي بيتنا الفردي. كل واحد منا بنى بيته الفردي بكلمات لا تنتهي.

في البيت العميق تحضر التناقضات من دون عناء.

«إنها الحرب آتية» تكتب لي صديقتي الفيسبوكية من بيروت. هي مثلي عاشت الحرب اللبنانية متنقلة من بيت إلى آخر أكثر أماناً. كتبت انها لن تترك بيتها هذه المرة مهما حصل وان الحرب الآتية لا بد ستغير لبنان أيضا. أضافت أنها فقدت صديقا سوريا آخر. مات في بيته أثناء غارة طيران شنها النظام. تعارفا على صفحات الفيسبوك. «انه الصديق الثاني الذي أفقد خلال أسابيع». الحرب حوّلت عالمهم الافتراضي إلى واقع. «أصدقاء لنا على صفحات الفيسبوك، أوقات يكونون هنا وأوقات يرحلون،» تضيف. نعلم بعد حين أنهم ماتوا بقذيقة او بانفجار او ببساطة رحلوا… لكن صفحاتهم تبقى مفتوحة لنا ندخلها كلما اشتقنا إليهم.

إنها الحرب بالفعل! حرب غير افتراضية تخرج الناس من الافتراض إلى الحقيقة…

إنها الحرب! رغم ذلك «نقرأ» الضحكات…

ضحكات الأصدقاء تتنزه في أروقة الفيسبوك. ضحكات صامتة على صفحتي.

«هههههههه…» يكتبون. ها إني أقرؤها الآن. ضحكات بكماء لا أرى أثرها على وجوه المتحاورين الافتراضيين. نخترع لها صوتا ووتيرة ورنة.

بعد لحظات تغيب الضحكات ولا يبقى سوى الانتظار.

إنها الحرب!

الآن لا شيء في الرأس سوى عالم كارثي بقياسات لامحدودة…

ولا شيء يوحي أن الخيال سينجو من عوارض «ميتامورفوزية» تُحوّل العالم كله إلى افتراض. افتراض موت، افتراض حياة، افتراض ضحكة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى