بيروت السورية
يوسف بزي
رستم، الكردي السوري، اضطر أن يهرب إلى بيروت في الأشهر الأولى للثورة. فالمطاردة الضارية له من قبل المخبرين والشبيحة ورجال المخابرات، وضعته أمام خيار وحيد: الخروج من بلده. لم يطل الإقامة هنا، ليسافر بعدها إلى باريس لمتابعة دراسته وتأمين حياة لائقة وآمنة. ففي ذلك الحين، كان “الشبيحة” اللبنانيون و”أمن حزب الله” يطاردون بدورهم الناشطين السوريين، ترهيباً أو مراقبة أو خطفاً، وفي أحيان كثيرة يتم تسليمهم تحت جنح الظلام إلى سفارة النظام السوري، التي تتكفل ب”تأمينهم” وصولاً إلى زنزانات التعذيب والموت في سوريا.
بعد نحو سنة من العيش الباريسي، عاد رستم بحنين إلى بيروت، باشتياق للإلفة وللصداقات ولإيقاع الحياة اليومية، الذي اختبره في هذه المدينة، وللإنتماء الذي شعر به للمجتمع الصحافي والفني والثقافي وأماكن اللقاء والسهر وتداول الكلام والتعارف.
في الاشهر الأولى للثورة، كان عدد الناشطين السوريين في بيروت قليلاً جداً، وعاشوا متخفين ومتخوفين، بالكاد يستطيعون التجول بحرية أو الظهور العلني، حتى أنهم عانوا من مضايقات الأجهزة الأمنية الرسمية: أمن الدولة، الأمن العام، مخابرات الجيش.. الخ.. بل إن اللبنانيين المؤيدين للثورة السورية لم يجدوا، في تلك الفترة، فندقاً واحداً في كل بيروت يتجرأ على تأجيرهم قاعة فيه ليعقدوا لقاء تضامنياً. أما الإعتصام في مكان عام فكان يقدم عليه بضعة عشرات من الشجعان الذين كانوا يعرفون إنهم قد يتعرضون لغدر الشبيحة (وهو ما حدث مرات عدة).
كان مبدأ “النأي بالنفس” الذي اعتمدته الحكومة اللبنانية لا يقتصر فقط على ممالأة النظام السوري، بل هو كان نأياً عن الواجب الأخلاقي والإنساني وعن المسؤولية القانونية تجاه اللاجئين، الهاربين من الموت، أكانوا أفراداً ونشطاء سياسيين، أو جموعاً كثيفة من العائلات التي تشردت بعد تدمير قراها ومدنها، حتى بات أمر الحكومة اللبنانية فضيحة عالمية.
في أقل من سنة، وبموازاة ضعف النظام السوري، أفلحت الضغوط التي مارستها القوى السياسية المعارضة في الداخل اللبناني، والضغوط الهائلة الدولية والعربية، في إجبار الحكومة اللبنانية على الخضوع للصواب الأخلاقي والحقوقي، كما خضعت قوى “الممانعة”، المتلحفة بعباءة “حزب الله” حليف نظام الأسد، للحقيقة الساطعة: المعارضون للنظام ليسوا حفنة من الضالين، إنهم شعب بأكمله.
هكذا باتت بيروت أكثر ترحيباً بالهاربين من آلة القتل البعثية، خصوصاً بعدما اكتشف اللبنانيون ان اقتصادهم السياحي نفسه بات خالياً من السياح إلا من أولئك السوريين الذين يتدفقون بالآلاف يومياً. اكتشفوا ان الاتين هم أيضاً رجال أعمال وتجار وصناعيون ومصرفيون وطلاب جامعات وأثرياء وأطباء ومهندسون وخبراء وصحافيون ومثقفون ومقاولون.. وليسوا فقط عائلات فقيرة أو مجرد عمال مياومين وشبان متبطلين، وهؤلاء لهم الحق الكامل بأن يشاركونا فرصة البحث عن المأوى والغذاء والعمل.
من فرن الشباك وعين الرمانة إلى الأشرفية ورأس النبع والطريق الجديدة وتلة الخياط وعائشة بكار وكليمنصو وفردان إلى وسط بيروت (الداون تاون) وصولاً إلى الحمرا ورأس بيروت وشارع بلس.. تبدو بيروت مدينة أكثر رحابة وترحيباً بالمواطنين السوريين، انهم الآن يقطنون في أفخم الشقق والفنادق، ويذهب طلابهم إلى أرقى المدارس، ويرتادون المقاهي والمطاعم ويستأجرون مكاتب العمل، ويستأنفون مشاريعهم التجارية والمالية، ويتدبرون حياة يومية إنفاقاً واستهلاكاً وعلاقات اجتماعية وأشغالاً وعلماً. ويخالطون مجتمعاً لبنانياً نفحته عقود “العلاقات المميزة”، التي أرساها نظام الوصاية السوري البغيض، روحاً عنصرية، وكرست فيه صورة نمطية عن الإنسان السوري، مختصرة بإما العامل الرخيص الأمّي والمعدم، وإما رجل المخابرات القذر والفاسد والمتسلط.
لويس، الذي يدير مطعماً في الأشرفية، الذي اعتاد أن يكون زبائنه، منذ زمن بشير الجميل الشاب، هم تلك الطبقة البرجوازية الفرنكوفونية من نخبة أهل الأشرفية وجوارها، بات يعرف عشرات النشطاء والمثقفين ورجال الأعمال السوريين، محتضناً رستم عند عودته إلى بيروت كصديق قديم.
بات لويس يسألني عن أخبار ذاك الذي جاء ذات سهرة خارجاً للتو من زنزانات النظام ولا تزال آثار التعذيب على جسمه.
لا يختلف الأمر عن مقاهي الحمرا وأرصفتها، وكذلك في باحات الجامعات وفي أسواق وسط بيروت. الاختلاط اللبناني السوري يتم لأول مرة على نحو طبيعي وفعلي، بعد انقطاع دام منذ السبعينات وحتى اليوم، وتلك هي المفارقة التي نتجت عن الشعار الأجوف “وحدة المسار والمصير” الذي فرضه نظام الأسد الاب والإبن على الشعبين اللبناني والسوري، ولم يفعل سوى التنابذ والكراهية والعنصرية والبغضاء.
في أواخر الخمسينات، في زمن الإنقلابات بسوريا وسياسات التأميم والتسلط والديكتاتوريات، وفد إلى لبنان الكثير من نخبة أهل سوريا، وهؤلاء كان لهم السهم الكبير في إعمار بيروت وازدهارها، بل وفي نقلها إلى طور مديني كوزموبوليتي، وفي جعلها عاصمة “الحداثة” الثقافية العربية، عدا عن الخبرات الصناعية والتجارية والثروات التي جاؤوا بها خصوصاً من حلب ودمشق. كان لبنان الانفتاح والحريات والرحابة مثالاً للسوريين وملجأ لهم، ولم تقع القطيعة إلا بعد دخول جيش حافظ الأسد الذي خنق سوريا ودمر لبنان وأرسى التباعد.
بيروت اليوم، بسورييها، تستعيد شرف أن تكون ملجأ ورصيفاً ووطناً لطلاب الحرية والحياة الأفضل، وشرف أن تكون مدينة الانفتاح والإختلاط والتعارف والتداول. ذاك هو شرط ازدهارها المأمول.
وهذا هو واحد من أهم إنجازات الثورة السورية: المصير الحر المشترك لشعبين في دولتين متجاورتين مستقلتين.. إنه إنجاز عودة العلاقات اللبنانية ـ السورية
المستقبل