بيروت كما يكتبها السوريون/ علي العائد
عبثاً يبحث السوري عن بيروت ما قبل 2011. تغيّرت نحو الأسوأ، والأحسن، معاً.
هي ستجده حين تريد.
بيروت، الآن، أكثر بعداً من دمشق حتى من فترة ما قبل إخراج جيش بشار الأسد من لبنان في آذار 2005.
بين 2005 و2011، بحثت بيروت عن دمشق الناس، فلم تجدها. الآن كلتاهما تكدان بحثاً عن أثر طريق واحدة تؤدي إليهما.
جئتها قادماً من اسطنبول، لكنني انتظرت أن أصلها من معبر المصنع، كالعادة.
ليست اسطنبول منطلقي، بل دمشق، أنا السوري الرقّي (من الرقة) الذي عشت في المدينتين الكبيرتين ضيفاً على عتباتهما، دون أن أحاول أن أكون بيروتياً، أو دمشقياً. لعلي أدركت استحالة ذلك، فاقتنعت بالعتبة، مكتفياً بدفء الأصدقاء هناك، وهنالك. هذا ما أقنعني دائماً أني لست صغير الحجم ما دمت أحبهما بكل عيوبهما التي أدعي أني أدركها تماماً.
الرحلة من اسطنبول كانت سريعة ومريحة. لم أفكر أثناءها بتفاصيل ما سأفعله في بيروتي بعد غياب 5 سنوات. دفء مطار رفيق الحريري، وقلة اتساع آفاقه غير المفتوحة أمام السوريين، جعلت أربعة سوريين، وثلاثة أجانب يحملون جوازات بلون الكرز، ينتظرون ساعة كاملة ريثما يتأكد الأمن العام اللبناني من عدم خطورة القادمين إليها. بضع نساء سوريات مررن من غير صعوبة، وبقي الرجال في الانتظار. غير ذلك، كان التعامل لطيفاً.
شارع الحمراء الذي لم يكن ينام حتى في عز أيام الحرب اللبنانية كان نائماً تماماً قبيل الرابعة فجراً.
صالحٌ واحد في مكان ما كثير، غير أن الصالحين البيروتيين، واللبنانيين عموماً، أكثر من يعدوا. والصالح اللبناني أحب للسوري من كل صالحي الأرض مجتمعين.
اسألوا السوريين واللبنانيين معاً عن ذلك.
فحين كان السوري متهماً بالنظام الذي وزع ظلمه بـ «عدل» على الشعبين، كان يلتبس على «اللبناني» إن كان يجب أن يميز بين السوريين كأفراد بخيارات مختلفة، وبين النظام.
الآن، لبنان يستقبل حوالى مليوني سوري، أي نصف عدد اللبنانيين. في تركيا مليونا سوري. هل يمكن لتركيا استقبال أربعين مليون سوري!
صديق يحاول إقناع مدير الفندق السبعيني أن سنغافورة مشاركة في المؤامرة الكونية على بشار الأسد، لكن المدير أصر على أن سوريا «أم الفقير»، دون أن يدرك أن هذا «الفقير» مات أكثر من مئتي ألف مرة منذ عام 2011 حتى يتخلص من هذا اللقب.
ثانٍ ينظر بحنين إلى علبة برازق دمشقية وصلته للتو بكامل حلاوتها.
صالح لبناني يضع على جدار مكتبه صورة الـ «بيتلز». على يسارها، وبحجم أصغر كثيراً من الأولى، صورة السلطان عبدالحميد الثاني. جامعاً، يدري أو لا يدري، كل تناقضات ممثلي الصورتين مع عصريهما، وتناقضاتهما في ما بينهما في كل زمان ومكان.
لم تكن بيروت يوماً بهذا التجهم. لها أسبابها الداخلية بالطبع، فهي عاصمة لبنان المكرس للندى والانفجار. لكن، بالرغم من حب اللبنانيين الظاهر والمميز للحياة، مقارنة بكل الشعوب العربية، فأهل بيروت يمارسون الندِّية في ما بينهم كأفراد وطوائف. المخيف بعد انطلاق الثورة السورية ظهور من يحب الدار الآخرة أكثر مما تحتمل الحياة الإنسانية، وأكثر مما تحتمل الأيديولوجيات، وأكثر مما يكره الله للبشر.
بيروت الآن هي مجموع أناس متعبين. دمشق تنفض عنها التعب بضريبة الدم، والقاهرة تحب أن تفعل. تونس تسعى، وطرابلس، وصنعاء. أما الآخرون فمنهم من ينتظر…!
صالحو بيروت يراهنون على حرية ستنطلق من بوابة دمشق، بعد أن خاب أمل اللبنانيين بالسوريين في 2005. قد يصدق الشاعر ويكون «العز أوله دمشق». لكن دمشق تشهد الآن قيامتها على صليب.
كلاهما، بيروت، ودمشق، تستعدان لتكونا مطهران للمشرق يتناوبان اجترار العذابات كي ينعم الشرق كله بالحرية. تنتظران الشرق الجديد نكاية برأي إدوارد سعيد الملتبس عن دمشق، وشرقاً أكثر فتنة لمحمود درويش من رف حمام على حائط جامع تزاحمت على حجارته أصوات صليل سيوف، وضبيح معذين (صوت أنفاس الخيل عند العدو)، وتهطال دموع أثقلتها الخطايا.
بيروت الآن على بوابات دمشق تنتظر.
بيروت التي تغيرت مرات كثيرة، تساندها قوة الحياة، عانت من تراجعات عن فترة تألقها ونضوجها في عقد الستينيات. لم تكن حتى الحرب المديدة لتفت من عضد حرية أعطت للبنان تلك الميزة التي يحلم بها الشرق كله.
آلة حرب النظام السوري، وأجهزة مخابراته، أثرتا في نفوس لبنانيين كثيرين يقف على رأسهم قادة الإقطاع السياسي الذين تخاذلوا في معظمهم عن نصرة وطنهم وشعبهم أمام احتلال رعته القوى الكبرى في الإقليم والعالم.
بيروت الآن على بوابات دمشق تنتظر.
ودمشق مستعدة بالهدايا من مشمش دوما، وعنب داريا، وتوت القزازين؛ خبز تنور جزراوي ودرعاوي مغمس بزيت زيتون كردي، وسلة تين من مصياف، ونبيذ حمص وسلمية والسويداء، وباميا ديرية. أطفالها يحملون الهدايا بعيون مشمسة دهشة من شمس لا شرقية ولا غربية تتألق بين بيروت ودمشق فتتعبد الدروب بين مستقبلين يلتقيان دون برزخ شعراء، أو لاهوتيين، أو محاربين.
إنها هدية فقراء لنبي.
فأية نبية تستحق ذلك سوى توأم عذابات دمشق، وأية يد ندية غير دمشق الناس تزجي هداياها لبيروت الناس.
النساء والمدينة عملة واحدة.
فتش عن المرأة، وفتش عن المدينة، فكل منهما تدل على الأخرى.
نساء بيروت لسن أقل جمالاً من المعتاد، سوى أن خطواتهن صارت أسرع مما أتذكر. أما الرجال المجهولون في الشارع فأبطأ. وحدهم الأصدقاء من رجال ونساء ممن يحاولون فهم تقدمنا المتراجع تبدو حركاتهم أليفة، ولم يطبع الزمن طابعه عليها.
تكتمل صورة المدينتين معاً، مفروقتين ومجموعتين، بصورة المرأة فيهما. وتتنافس المدينتان، دون حسم، في تقديم أجمل صور المرأة بالرغم مما تقوله مسابقات الجمال العالمية.
صحيح أن للبنان تجربة عملية هنا، غير أن للمرأة الدمشقية، والسورية عموماً، كلمة لم تقلها بعد.
تقول لي سيدة لبنانية: تعبنا. وتشرد في خيالها، دون إضافة. وتجلس سيدة سورية على رصيف في شارع الحمراء تنتظر من يعطيها من دون سؤال. في الحالتين، تنهال أجوبة لا تحتاج إلى سؤال. والحال أن المرأتين تعّبران بطريقتين عن خيبة واحدة مما آل إليه حال البلدين. الأولى تغص بآهات ثورتين، في سوريا ولبنان، أعادتا لبنان إلى الوراء من دون أن تعالجا مشاكل نظامه السياسي البنيوية، والثانية تتجرع ذلاً بطيئاً من دون لسان حال حتى.
سائق السرفيس يسبّ البلد (أخو الـ….)، ولا يتحرج من اغتياب صبية كان منذ لحظات يرجوها أن يوصلها إلى بيتها في شارع فرعي في عائشة بكار. ليست غريبة هذه التلقائية اللبنانية، التي لا يسيء فهمها حتى غريب غير ذي خبرة. فقسم لابأس به من سائقي الأجرة في لبنان يعبرون عن مزاحهم وغضبهم بكلمات تستهدف عباراتها القسم السفلي من جسم المرأة، رغم أنه يعرف أنها سكنه في آخر يومه المتعب من سبابها. هو كلام لغو على كل حال.
كانت لهجة الصبية تدل على لبنانيتها، وإلا كان قاموس السائق استهدف الراكبين السوريين الاثنين، اللذين لزما الصمت أمام حرية السائق في التعبير عن لغوه اليومي الأثير.
بيروت بطريقة ما تعيش هدوءها. هي ليست هادئة عادة. ليست مدينة تستكين للأمر الواقع والقهر. فأي هدوء ذاك!
السياسي فيها لاعب أكروبات.
لبنان في معظمه، وبيروت، مثل معظم المدن الساحلية، يشرع الصدر والعقل لتأثيرات البحر المفتوح على الأفق. لا شيء يحد من ذلك سوى «تعهد» السياسي لرياح البحر المشاع.
بيروت، الآن، تنتظر مدَّها، بعد جزْرٍ طويل.
كاتب وصحافي سوري.
اسطنبول (تركيا)
المستقبل