بيروقراطية «داعش» وشبكة القَتَلَة والانتحاريين المعولمة/ روكميني كاليماشي
غادر هاري سارفو منزله في مدينة بريمن العمالية الألمانية السنة الماضية، وقاد سيارته أربعة أيام ليبلغ أراضي «داعش» في سورية. وإثر وصوله، أبلغه أعضاء ملثمون من الاستخبارات السرية في التنظيم بأن لا حاجة لهم بعد اليوم بمجيء الأوروبيين إلى سورية، وأنهم يحتاجون إليهم في مسقط رأسهم ليساعدوا في شن هجمات في أنحاء المعمورة. هذه الحادثة وقعت قبل هجمات باريس وبروكسيل. وقال ملثمو التنظيم إنه مستقر في بعض الدول الأوروبية ويبحث عن مهاجمين في ألمانيا وبريطانيا، وطلبوا من سارفو العودة إلى ألمانيا، ودار كلامهم على أنهم يرغبون في شن هجمات متزامنة في إنكلترا وألمانيا وفرنسا. ووحدة الاستخبارات هذه تعرف بـ «أمني»، وهي شرطة داخلية وقوة عملانية خارجية تسعى إلى تصدير الإرهاب إلى الخارج، وفق آلاف من صفحات الاستخبارات الفرنسية والبلجيكية والألمانية والنمسوية ووثائق حصلت عليها الصحيفة. وهجمات باريس في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي سلّطت الضوء على شبكة التنظيم الإرهابية الخارجية التي بدأت عملها في الخارج قبـــل عامين. ويروي سارفو وغيره من المعتقلين أن «أمني» هو جهاز متعدد المستوى بقيادة أبو محمد العدناني، يعاونه ملازمون يخططون لهجمات في العالم. وثمّة جهاز استخبارات سرية (داعشي) مخصص للشؤون الأوروبية الخارجية، وثان للشؤون الآسيوية وثالث للشؤون العربية، فـ «أمني» هو من أركان عمليات «داعش»، ويملك الجهاز هذا صلاحية تجنيد وإعادة توجيه العملاء ومنفذي العمليات، سواء كانوا من الآتين الجدد إلى ميدان القتال أو من قوات «داعش» الخاصة أو وحدة المغاوير. وينتخب الجهاز منفذي العمليات وفق جنسياتهم، ويجمعهم في وحدات صغيرة وسرية تشمل الذين يتحدثون بلغة واحدة. وقد يلتقي أعضاء الوحدة لقاء يتيماً عشية مغادرتهم إلى الخارج.
وجهاز «أمني» هو وحدة تحكُّم أساسية بآلة عمل التنظيم الإرهابية، والمتدربون فيه قادوا هجمات باريس وصنعوا حقائب المتفجرات التي استخدمت في مطار بروكسيل وقطار الأنفاق في المدينة. وأُرسل جنود التنظيم إلى النمسا وألمانيا وإسبانيا ولبنان وتونس وبنغلادش وأندونيسيا وماليزيا.
يقول سارفو إن عملاء «داعش» السريين في أوروبا يستخدمون المتحولين الجدد (إلى الإسلام) كوسطاء سجلهم ناصع يساهمون في الربط بين أشخاص سينفذون الهجمات مع عملاء يعطون التوجيهات حول كل شيء، من كيفية صنع سترة التفجير إلى سبل نسب عملياتهم إلى التنظيم. وأرسل «داعش» مئات العملاء إلى الاتحاد الأوروبي، ومئات إلى تركيا، كما يقول مسؤول بارز في وزارة الدفاع الأميركية.
وفي مهاجع على الحدود السورية مع تركيا، يجند التنظيم الآتين الجدد، ويستجوبهم ويسجل معلوماتهم. فعلى سبيل المثل، أخذ الجهاز بصمات سارفو وفحصه طبيب وأخذ عينة من دمه، ثم أجرى معه رجل يحمل جهاز كومبيوتر نقّالاً مقابلة، وسأله عن اسمه واسم عائلته، وعن اسم أمه ومسقط رأسها، وعن دراسته والشهادة التي يحملها وعن طموحاته وما يريد أن يبلغه. واهتم المستجوبون بخلفية سارفو، فهو كان من مرتادي جامع بريمن، ومنه توجه عشرون شخصاً إلى سورية، وقتل أربعة منهم في المعارك. وسبق لسارفو أن سجن عاماً بتهمة اقتحام خزانة متجر وسرقة 23 ألف يورو. وعلى رغم أن جزاء السرقة في أراضي التنظيم هو بتر اليد، ينظر إلى ماضي الملتحق بـ «داعش» الإجرامي نظرة إيجابية. «فهذا الماضي وازن، تحديداً إذا كانت للمرء علاقات بالجريمة المنظمة ويعرف سبل الحصول على هوية مزورة، أو إذا كان يعرف من يسعه تهريب الرجال إلى دول الاتحاد الأوروبي».
وإجــــراءات جمـــع معلومات العملاء بيروقراطيـــة. ووضع سارفــــو علامة الإيجاب على كل مربعات الأسئلة، وفـــي اليـــوم التالي لوصوله إلى سورية، جاء أعضاء «أمني» لرؤيته وأبلغوه تعذر قبــــول طلبـــه القتال في سورية والعراق. ويـروي سارفو قولهم إنهم لا يمــــلكون عمـــلاء فــــي ألمانيا يرغبــــون في إنجاز المطلوب، وإنهم جنّـــدوا في البداية عدداً من الأشخاص، لكنهم تراجعوا وخافــوا. ووصفـــوهم بأصحاب الأرجل الباردة. وهذه حال المجنــــدين في إنكلترا». وعلى خلاف الحال في ألمانيا وإنكلترا، جنـــد التنظيـــم كثيريـــن من المتطوعين في فرنسا، وعــددهم يفوق الحاجــة. و«حيـــن سألهم صديقي (الألماني) ماذا عن فرنسا؟ بدأوا بالضـــحك، واغرورقــــت عيونهــم بالدموع. وقالوا لا تقلق، لا مشكلة هناك». هذه الحادثة تعود إلى نيسان (أبريل) 2015، قبل سبعة أشهر من عمليات تشرين الثاني الماضي.
ومنذ ظهور «داعش» قبل عامين، جمعت الاستخبارات (الغربية) معلومات عن «أمني». وكان الجهاز في مرحلة أولى جهاز شرطة داخلية، لكنه في 2014 و2015، صار كذلك جهازاً لنشر الإرهاب في الخارج، وفق فرنسيين اعتقلوا لدى عودتهم. ونيكولا مورو فرنسي في الثانية والثلاثين أدار مطعماً في الرقة، عاصمة التنظيم الإرهابي، حيث قدم الوجبات لأعضاء بارزين في «أمني»، منهم عبدالحميد أباعود، قائد هجمات باريس الذي قتل بعد أيام على شنّها.
وخلصت التحقيقات إلى أن «أمني» كذلك مسؤول عن تدريب المسلحين الذين أطلقوا النار على شاطئ سوسة التونسي في حزيران (يونيو) 2015، والذين أعدوا متفجرات بروكسيل. ويروي سارفو أنه سمع عن سعي التنظيم إلى إرساء بنية تحتية في بنغلادش حيث أردى مقاتلوه الشهر الماضي 20 رهينة في مقهى، وأن التنظيم يبحث في آسيا عن مقاتلين عملوا مع «القاعدة» في المنطقة. فثمة مجندون من بنغلادش وماليزيا وأندونيسيا، ويسألهم «أمني» عن خبراتهم مع «القاعدة» وعن صلاتهم. وعملاء «داعش» في أوروبا مثل حلقات أو عقد تفعّل من بُعد الانتحاريين الذين استمالتهم البروباغندا. وصلة الربط بين حلقات العقد والانتحاريين هي مَنْ يسمّيهم سارفو بـ «أصحاب الأيدي النظيفة» من المتحولين الجدد إلى الإسلام. ويتولى هؤلاء إبلاغ العملاء بالرسائل والعمليات.
ويقول سارفو إن «أمني» أخفق في إرسال مهاجمين إلى شمال أميركا، على رغم أن عشرات من الأميركيين التحقوا بجناح العمليات الخارجية، فمن العسير عودة أميركيين إلى الولايات المتحدة بعد سفرهم إلى سورية. «ومن الأيسر تجنيد المهاجمين في أميركا وكندا على شبكات التواصل الاجتماعي. فالأميركيون أغبياء، ولا قيود على حيازة السلاح… ويقول عملاء «أمني» إن من اليسير بث التطرف لدى الأميركيين، وإذا لم يكونوا من أصحاب السوابق يسعهم شراء الأسلحة ولا يحتاجون إلى من يزودهم بها». وبنية سارفو قوية، لذا جنده «داعش» في القوات الخاصة. وحين صار مقرباً من أمير المخيم التدريبي، وهو مغربي، أسرّ له بأن العدناني هو وراء استراتيجيات التنظيم وطموحاته، فهو قائد القوات الخاصة ومدير «أمني»، وأنه ليس ناطقاً باسم «داعش» فحسب.
ولد العدناني في بنش شمال سورية، وثمة جائزة أميركية قيمتها 5 ملايين دولار لمن يسلمه. وهو مَنْ يوافق على العمليات الخارجية أو يرفضها، ومن يقر مخطط الهجوم.
وحيـــــن كان سارفو في سورية، اتصل به مقاتلون ألمان طلبوا منه التمثيل في فيلم بروباغندا «داعشي» يتوجه إلى الناطقين بالألمـــانية. فتوـــجهوا إلى تدمـــر حيث طلب من سارفو حمل رايـــــة سوداء والمشي رواحاً ومجيئـــاً أمام الكاميرا، وأُجبر أسرى سوريون على الركوع وأطلق عليهم مقاتلون ألمان النار غير آبهين بموتهم. فشاغلهم كان الأثر السينمائي للفيلم. أحدهم التفت إلى سارفو بعد تصفية أسير، وسأله: كيف أبدو؟ هل كان مظهري حسناً؟ كيف كان إطلاقي النار؟». والعدناني يشرف على اختيار الأفلام. ويُعقد شهرياً مجلس شورى – برئاسته – تُعرَض فيه أفلام الفيديو ويبحث في كل ما هو مهم. ويقول سارفو إنه بدأ يشك في ولائه لـ «داعش» أثناء التدريبات حين شاهد قسوة التنظيم مع من يعجز عن اللحاق بركب التدريب، فتُقيّد يداه ورجلاه ويترك في العراء لمصيره. ومشاركته في فيلم البروباغندا بدّدت كل أوهامه، فهو رأى بأم العين عدد المرات الكثيرة التي يسجلون فيها كل مشهد من فيلم مدته خمس دقائق، فهو حسِب قبل توجهه إلى سورية أن هذه الأفلام ليست «معدّة» بل تظهر مشاهد حقيقية وحية.
* مراسلة، عن «نيويورك تايمز» الأميركية، 4/8/2016، إعداد منال نحاس
الحياة