بيع الوهم للشعب السوري
حسين العودات
طوال العام ونصف العام الماضيين، والشعب السوري يتلقى الوهم من أطراف عديدة، منها المحلي ، ومنها العربي والدولي، والكل يبيعه الوهم، ويعده بالمن والسلوى وبالخلاص من نظامه القمعي المستبد، ويؤكد أن المساعدات (النوعية) السياسية والعسكرية والإنسانية على الطريق، وهي قاب قوسين أو أدنى من الوصول. ومازال الشعب السوري (في سرر التخدير ينام.. والعام يمر وراء العام وراء العام ) دون أن تصل المساعدات، أو تتحقق الوعود، أو يقترب من آخر النفق حيث الضوء والفضاء الرحب.
بدأت موجة الوهم الأولى بوعود رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان، الذي أعلن بالفم الملآن أن مدينة حماة خط أحمر، وكانت قوات السلطة السورية في ذلك الوقت بدأت توسيع استخدام السلاح وضرب المتظاهرين بلا رحمة وتهديم البيوت والمنشآت (واحتلال المدن)، وأطلق أردوغان تصريحه في لحظة تحرك الشعب في حماه ودخوله الحراك السوري دخولاً واسعاً، بعد ما تردد في الأشهر الأولى، وخشي الجميع في ذلك الوقت، أن يحل بحماه ما حل بها عام 1982، وقد اجتاح الجيش حماه ودمر ما دمر وقتل من قتل واستباح المدينة وأهلها، فلا حرك أردوغان ساكناً ولا قدم مساعدات، وذهبت وعوده أدراج الرياح، وكانت بالفعل دفعة الوهم الأولى التي تجرعها الشعب السوري، ودفع ثمنها غالياً في وقت لاحق.
ساهم المجلس الوطني السوري بدوره في تجارة الوهم هذه، ودخلها من أوسع أبوابها إلى درجة اللامعقول، فقد حرض الشعب السوري على تبني أقصى درجات التطرف، وأفهمه أن لديه وعوداً جدية بالتدخل الأجنبي السياسي والعسكري، وأن النظام، نتيجة ذلك، على وشك السقوط خلال أسابيع، وأخذ ناشطو المجلس يتبارون في المزايدة والتصريحات غير المسؤولة التي كانت تنم عن جهل سياسي فاضح وعدم خبرة أو شعور بالمسؤولية، واستناداً إلى هذه الوعود لاقى المجلس تأييداً ساحقاً من الشعب السوري، ويبدو أن التأييد هو ما كان يهدف إليه وليس خلاص سورية وشعبها.
ساهم الغرب الأوروبي والأميركي بدوره في بيع الوهم للشعب السوري، فوعده بشكل غير مباشر من خلال وسائل الإعلام والإشاعات وتصريحات بعض المسؤولين الثانويين بأنه سوف يؤسس مناطق آمنة في سورية، يلجأ إليها المتضررون والنازحون والثائرون والمعارضون، وتحمي سكانها من قصف الطيران والمدفعية السورية، وتكون على شكل مناطق محررة بحماية غربية، واستأنف الغرب بيع الوهم، فوعد بالطريقة نفسها، أن يحظر الطيران فوق سورية، وبالتالي يهيئ المناخ للمعارضة المسلحة كي تنتصر على جيش السلطة، بعد أن بدأ سيل الانشقاق عنه يتعاظم ويزداد، ولم يحقق الغرب أياً من وعوده هذه، وإنما على العكس من ذلك ، كانت هذه الوعود محرضاً للجيش كي يزيد هجماته ويزيد تدميره ويتصدى للحراك الشعبي بعنف وهمجية لا حدود لهما، بل وانتقل إلى مداهمة البلدات والمدن ونهب بيوتها وتخريب ما لا يستطيع نهبه أو إحراقه، كرد فعل على التصريحات والوعود التي تبين كذبها ومبالغاتها.
بعد أن تشرد ملايين السوريين، ولجأ مئات الألوف منهم إلى خارج البلاد، انطلق سيل الوعود العربية والغربية بتقديم المساعدات الإنسانية لهم، ولكن الوقائع تشير بل تؤكد أن من لجأوا أو نزحوا عن ديارهم لا يجدون مأوى أو فراشاً أو ألبسة أو لقمة خبز، وبالتالي أصبحوا مشردين فعلاً دون أن يصلهم شيء مما وعدوا به، وتيقنوا أخيراً أن كل هذه الوعود هي من ضروب بيع الوهم والأكاذيب و الكلام المعسول الذي لم يفدهم بشيء، ولن يفيدهم بشيء لا حالياً ولا مستقبلاً.
عُقد مؤتمران دوليان لأصدقاء سورية، أحدهما في تونس والآخر في اسطنبول، ووعد المؤتمران بفتح أبواب أنهار السمن والعسل لتتدفق على الشعب السوري، سواءً فيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية أو بالمساعدات السياسية والعسكرية، ومازالت قرارات المؤتمرين في الأدراج طي النسيان، والطريف أنه سيعقد مؤتمر ثالث في المغرب بعد أسبوعين من الآن، وسيجدد هذه الوعود ويزيد عليها، وكأن هذه المؤتمرات في الواقع هي مؤتمرات سياحية للمشاركين، ودعاية سياحية للبلدان التي عقدت فيها. أما الشعب السوري فمازال ينتظر، بل في الواقع (لم يعد ينتظر شيئاً) من مثل هذه الوعود الكاذبة.
برر الغرب الأوروبي والأميركي كما برر الأتراك وغيرهم أسباب تحول قراراتهم إلى وعود ووعودهم إلى وهم، أي برروا تقصيرهم، بأن المعارضة السورية مبعثرة ولم تستطع أن تتحد، كما أن المسلحة منها تضم جناحاً متطرفاً وأصولياً، وبناءً على ذلك تباطأوا بالمساعدات بانتظار توحيد المعارضة والخلاص من المتطرفين.وقد توحدت معظم فصائل المعارضة السورية تقريباً في ائتلاف سمته (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية) على أمل أن تسد ذرائع الغرب وتمهد الطريق للمساعدات الإنسانية والسياسية والعسكرية، وقبيل عقد مؤتمر الدوحة في الأسبوع الماضي والوصول إلى هذا الائتلاف، تلقت المعارضة السورية وعوداً قاطعة من الولايات المتحدة والغرب الأوروبي بأنها ستفي بكل التزاماتها إذا تحققت وحدة المعارضة، وأنها ستعترف بهذا الائتلاف كممثل وحيد للشعب السوري، وتسلمه السفارات السورية في الخارج، وربما الأموال السورية، وتتفاوض معه على أن لديه صلاحيات الحكومة، وصولاً إلى إسقاط النظام السوري وإقامة نظام ديمقراطي تعددي تداولي. وقد نفذت المعارضة السورية جميع هذه الطلبات، لكن الغرب لم ينفذ شيئاً جدياً، وعلى الغالب لن ينفذه وسيبيع الوهم من جديد للشعب السوري.
المشكلة أن بيع الوهم هذا نقل الأزمة السورية إلى خارج الحدود، وأصبحت المناقشات حولها ومقترحات حلها تجري في الخارج بمعزل عن الشعب السوري وآرائه ومشاركته، وكل من هذه الجهات يعلم أنه إذا لم يكن الحل في سورية فلن يكون حل أبداً (فالشمس شيء خارج الحدود والشمس شيء آخر في داخل الحدود).
“البيان” الإماراتية