بيننا وبينكم الجنائز: يقول الشعب السوري لنظام الحكم
د. بشير موسى نافع
كان يوم الجمعة الماضي، 13 ايار/مايو، يوماً تاريخياً في مسيرة الشعب السوري من أجل الحرية والكرامة، التي انطلقت منذ منتصف آذار/مارس. خلال الأيام القليلة السابقة ليوم الجمعة الماضي، أعلنت السيدة بثينة شعبان، مستشارة الرئيس، في مقابلة صحافية ناردة لأي مسؤول سوري طوال شهري الانتفاضة الشعبية، أن سورية تجاوزت الأسوأ في أزمة العلاقة المتفجرة بين النظام وشعبه.
ما أرادت المستشارة قوله في مقابلتها مع نيويورك تايمز الأمريكية أن النظام قد نجح أخيراً في إخماد الحركة الشعبية. لنظام اعتاد العنف في التعامل مع خصومه ومعارضيه، سوريين كانوا أو غير سوريين، اعتقد قادة النظام أن عنف الدولة لن يلبث أن يكسر إرادة الشعب. ولكن الشعب عاد إلى الخروج من جديد يوم جمعة الحرائر، خرج كما لم يخرج من قبل منذ بداية الانتفاضة، متحدياً قوات الجيش والأمن الخاصة المنتشرة في أنحاء البلاد، خرج في حمص وجوارها، في إدلب وجشر الشغور، في أحياء دمشق وريفها، في البوكمال ودير الزور وحماة، في بانياس وجوارها، وفي درعا نفسها، التي أريد بها تعليم السوريين درساً لا يقل عن درس حماة 1980. إن كان النظام لم يزل يظن أن ‘خيار حماة’ هو السبيل الأنجع للاستجابة لمطالب الحرية والكرامة، فقد أعلن الشعب السوري يوم الجمعة 13 آيار/مايو أنه ليس بصدد التراجع أو الانكسار.
لم يكن غريباً أن تصل السيدة شعبان لاستنتاجها بأن النظام الذي تخدمه قد نجح في احتواء الحركة الشعبية وإخمادها؛ فمنذ الأسبوع الأخير للشهر السابق، نيسان/إبريل، كان النظام قد أطلق حملة أمنية عسكرية لإخضاع المدن والبلدات التي حسب أنها باتت تشكل مراكز رئيسية للانتفاضة الشعبية. عاثت القوى الأمنية، وعصابات مرتبطة بها من المسلحين الموالين للنظام، ووحدات عسكرية من فرق الجيش محل ثقة النظام وقادته، فساداً في المدن والبلدات التي اقتحمتها بالعربات المدرعة والرشاشات الثقيلة، بداية من درعا. وبالرغم من أن الحقوقيين السوريين يقولون بأن هناك 800 سوري قتلوا على أيدي قوات النظام حتى منتصف ايار/مايو، فالواضح أن الرقم لا بد أن يكون أعلى من ذلك بكثير؛ أولاً، لأن تجربتي الثورتين التونسية والمصرية أظهرتا أن الأرقام الأولية لضحايا عنف الأنظمة العربية هي دائماً أقل من الحقيقة، وثانياً، لأن ما بدأ يتكشف في مدن مثل درعا وقراها من مقابر جماعية يشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى وحشية واسعة النطاق، مارستها وتمارسها الوحدات الأمنية العسكرية للنظام السوري.
بيد أن القتل ليس إلا وجهاً واحداً لحملة القمع التي أطلقها الرئيس الأسد. ثمة دمار لا يميز أوقع بالمدن والبلدات التي تعرضت لهجمات قوات النظام؛ واستهداف غير تمييزي، عن سبق تصميم وتصور، لممتلكات الأهالي؛ وإذلال بالغ يستهدف كسر الروح السورية، مثل التحرش بالنساء، بما في ذلك روايات اغتصاب متعددة، وضرب الرجال وإهانتهم أمام أسرهم، وإجبار البعض على الركوع لصورة الرئيس. وقد تعهدت قوات النظام حملات اعتقال فردية وجماعية، اعتقالات تستهدف ناشطين وشخصيات محددة، لإيقاع الرعب في صدورهم أو منعهم من التواصل مع شعبهم، وتلك التي يقصد بها معاقبة مدن وأحياء وبلدات بأكملها. وفي النهاية، وفي سلوك لا يجب أن تقوم به دولة تحكم شعباً مسلماً، أو حتى أية دولة أخرى، قامت قوات النظام في أكثر من مكان بإيقاع الدمار بالمساجد، أو احتلالها وتحويلها إلى ثكنات، وكأن الانطلاق المتكرر للتظاهرات الشعبية من المساجد بعد صلاة الجمعة جعل من هذه المساجد هدفاً لحملة القمع السورية. لا أحد يعرف على وجه اليقين عدد الضحايا الذي أوقعته آلة النظام خلال الشهرين الماضيين، سواء من قتل أو من أصيب، وربما لن يعرف أحد مطلقاً عدد الذين تم اعتقالهم، وما هو مصير كل واحد من هؤلاء المعتقلين، لأن ثمة تقليداً وضعه النظام وعرفه السوريون من قبل في قتل المعتقلين أو اختفاء أثرهم لزمن طويل.
المدهش، أن السيدة شعبان أخبرت أحد المثقفين السوريين المعارضين قبل أيام من الجمعة الماضية أن الرئيس أصدر أمراً لقواته بحظر إطلاق النار على المحتجين، ربما في محاولة من السيدة توكيد الثقة الجديدة بالذات وأن النظام بات مطمئناً لقدرته على مغالبة شعبه والانتصار عليه. ولكن مظاهرات الجمعة لم تكن خلواً من القتل كما توقع البعض؛ فمع حلول المساء كان هناك عشرة سوريين على الاقل قد فقدوا حياتهم برصاص قوات النظام. ولم تكن حملات القمع ضد درعا وحمص وبانياس وبلدات ريف دمشق هي النهاية؛ إذ سرعان ما اتجهت آلة القمع البربرية إلى مدن وبلدات أخرى، كانت تلكلخ والعريضة على الحدود البنانية أبرزها في الأيام القليلة الماضية.
لا يتصرف النظام في مواجهة الحركة الجماهيرية، حتى وهو يلجأ إلى نشر أقصى ما يستطيع من وسائل العنف التي يمتلكها، من رؤية سياسية للأزمة، كما يفترض في أية منظومة حكم لدولة حديثة أن تتعامل مع تشظي العلاقة بينها والشعب الذي تحكمه. ما يعتقده النظام، أنه يواجه معركة وجود، معركة حياة أو موت، بالمعنى الحرفي للوجود والحياة والموت، ويتصرف على هذا الاساس.
إما نحن أو الشعب السوري، هكذا يرى قادة النظام وأعضاء العائلة النافذون في المؤسستين الأمنية والعسكرية الانتفاضة الشعبية السورية، وهذه هي المرجعية الوحيدة التي تنطلق منها سياسة المواجهة مع الشعب. وإن كان ثمة من شك في تقدير سلوك النظام السوري، فربما كانت مقابلة رامي مخلوف، أسطورة الاقتصاد السوري الجديد، ابن خال الرئيس، وأحد الشخصيات النافذة في العائلة الحاكمة، مع النيويورك تايمز، كافية للتدليل على حقيقة رؤية النظام للأمور. قال مخلوف بلا تلعثم، ‘لدينا العديد من المقاتلين، وسنقاتل حتى النهاية.’ هذه ليست أزمة سياسية، ليست حركة احتجاج وانتفاضة شعبية من أجل الحرية والكرامة، لا تنفصل عن حركة الثورة العربية الشاملة المستمرة منذ نهاية العام الماضي. هذه معركة حياة أو موت، يقول النظام ويعتقد. ليس هذا خطاب رجال دولة، ولا هي عقلية دولة؛ هذا خطاب صغير لفئة حاكمة صغيرة، تستشعر الآن عزلتها المتزايدة عن شعبها، وانهيار أحد الأسس الكبرى لبقاء أنظمة الحكم: قبول المحكومين بشرعية خطاب الحكم واستمراره.
والحقيقة، أن كلاً من الرئيس السابق حافظ الأسد، والحالي بشار الأسد، حاول في أكثر من منعطف ترميم ما تبقى من بنية الدولة السورية، والتصرف وكأن الحكم السوري يستند إلى دولة حديثة راسخة. ولكن التماهي المستمر منذ عقود بين نظام حكم الفئة الصغيرة وأجهزة الدولة، المدنية والعسكرية والأمنية، انتهى بتلك المحاولات إلى الإخفاق. وما إن انفجرت الحركة الشعبية، حتى تكشفت حقيقة نظام الحكم، محدودية القاعدة التي يرتكز إليها، وحجم الخراب الذي أوقعه بما ينبغي أن يكون دولة سورية حديثة. السؤال الآن، هو إن كانت عقلية المغالبة هي التي تقود النظام، إن كانت وسائل القمع الأمني العسكري هي الاستجابة الحقيقة والوحيدة لمطالب الشعب، فاين تمضي مواجهة الشعب السوري مع نظامه من هنا؟
إحدى وسائل المواجهة هي الاستعانة بالرأي العام العالمي والمؤسسات الدولية، التي تتمتع فيها العواصم الغربية بنفوذ كبير.
وقد ارتفعت خلال الاسبوعين الأولين من هذا الشهر، وبعد أن تصاعدت انتقادات الرأي العام لفعالية العقوبات التي أعلنتها كل من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، حدة الانتقادات التي وجهها مسؤولون أمريكيون وأوروبيون لسياسة القمع الدموي التي يتبناها النظام السوري. ولكن، وبالرغم من تداول تقارير حول عزم الدول الغربية إعلان فقدان الرئيس السوري الشرعية، فإن مثل هذه الخطوة قد تأخذ بعض الوقت. وعلى كل الأحوال، فإن مصير سورية لا تحدده ولا يجب أن تحدده القوى الغربية.
الوسيلة الاخرى هي الاستعانة بالرأي العام العربي، الذي تحدث المستوى الشعبي فيه قليلاً حتى الآن، ولم يتحدث بعد على المستوى الرسمي. وهنا لا بد أن يبذل جهد أكبر، ليس من النشطين السوريين وحسب، ولكن أيضاً من النشطين العرب، سيما أولئك الذين لعبوا أدواراً رئيسية في حركة الثورة العربية في تونس ومصر، وأولئك الذين اعتادوا الوقوف مع سورية والسياسة السورية في مواجهة الضغوط الخارجية خلال العقد الأخير. على هؤلاء أن يدركوا أن من غير المسوغ اتخاذ مواقف مبهمة وغير محددة عندما يرتكب نظام حكم ما، أي نظام حكم، مثل الجرائم التي يرتكبها النظام السوري ضد شعبه. ليس ثمة شك في أهمية سورية، ولا في دورها وموقعها، ولكن لهذه الأسباب بالتحديد ينبغي العمل الآن على عزل النظام عربياً والوقوف إلى جانب الشعب السوري، من أجل أن لا تطول هذه المواجهة أكثر مما يجب، وأن لا تأخذ منحى لا يريده أحد داخل سورية وفي المجال العربي ككل.
بيد أن العامل الرئيسي في النهاية هو الشعب السوري، تصميمه على خوض معركة الحرية والكرامة إلى نهايتها، ووعيه بحقيقة الفرصة التاريخية المتاحة أمامه اليوم، ومخاطر تفويتها على مستقبل سورية وحريتها، كما على وعيها بذاتها ودورها العربي.
يوم الجمعة 22 نيسان/أبريل، خرج السوريون إلى الشارع ليعلنوا رفضهم وعود الإصلاح الغامضة واستهتار الرئيس الأسد بمطالبهم وضحاياهم؛ وكان النظام يعتقد أن تغيير الحكومة وتعليمات الرئيس البلاغية للوزراء الجدد ستنجح في احتواء الحركة الجماهيرية. ويوم الجمعة 13 ايار/مايو، خرج السوريون ليعلنوا أن ثلاثة أسابيع من الموت والاعتقالات والتدمير لن تثني عزمهم أو تكسر إرادتهم.
وإن لم يكن النظام قد وعى الدرس بعد، فلعله ينظر إلى مشاهد الجنائز، وإلى السوريين البواسل وهم يودعون شهداءهم ويحتفلون بتضحياتهم. وقديماً قالت العرب: بيننا وبينكم الجنائز.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي