بينَ القضيّة الطّائفيّة والعلمانيّة/ د. مازن أكثم سليمان
تشهدُ مواقع التواصل الاجتماعي السورية سجالاً حادّاً ولا سيما بين جُمهور الثورة حولَ مسألة فتح الملفّات المَسكوت عنها والمُتعلِّقة بقضايا لطالما وُصِفَتْ بأنَّها قضايا حسّاسة، وفي مُقدِّمتها مسألة الأكثريّة والأقلّيّات بما تنطوي عليه من هواجس طائفيّة ومَخاوِف بالِغة وصُوَر نمطيّة مُسَبَّقة، وكنتُ من بين الدّاعين منذُ سنوات إلى مُناقشة مثل هذِهِ هذا الموضوعات بشجاعة وصراحة ومسؤوليّة تاريخيّة، وذلكَ انطلاقاً من جُملة مُحدِّدات ومَفاهيم أعرضها في هذهِ المَقالة، وهيَ:
أوَّلاً: الوعاء السِّياسيّ بينَ الأصل والفرع:
يبدو (الأصل) السِّياسيّ لملفّ الطائفيّة في سورية والعالم العربي محورياً، فالصراع الذي انفتح على مصراعيه وانفجَرَ بعدَ طول احتقان إثر ثورات الربيع العربي هو صراع (سياسي) في أصله، والمستوى (الديني/الطائفي) وحتّى (الإثني) لهذا الصراع هو أحد الأبعاد الجزئيّة الأساسية للجذر السياسي المُهيمِن؛ بمَعنى أنَّ المَسألة الطّائفيّة هيَ (فرع) يُساعِدُ تفكيكه وفهمه على تفكيك المستوى السياسي وفهمِهِ، إذ يُساهِمُ هذا المُستوى الفرعيّ عموديّاً في ذلكَ التفكيك الأصليّ الأشمَل، ويصبُّ في مجراه ويتكامَل معه، بحيث يتبادَل المُستويان النَّقديّان دعم بعضهما في مسار الوصول إلى دول وطنية حديثة.
فإذا كان الطُّموح العربي بوجهٍ عام، والسّوري بوجهٍ خاصّ، يكمن في السَّعي إلى تخليق دول مُؤسَّساتيّة علمانيّة ديمقراطيّة، فإنَّ هذا التَّخليق بوصفِهِ بِنية فوقيّة ترفضُ مبدأ المُحاصَصة الطّائفيّة أو الإثنيّة، وتؤكِّدُ مبدأ التَّعدُّديّة المَدَنيّة والنّقابيّة والحزبيّة العابرة للطَّوائِف والإثنيات، تتطلَّبُ هذِهِ البِنية الفوقيّة اشتغالاً عميقاً ومُوازياً على مُستوى فعل التَّنوير النَّهضويّ بما يخصُّ البِنية التَّحتيّة، وذلكَ كي لا يُكرِّرَ الفعلُ السِّياسيُّ ما شهدناهُ في مُعظَم الدول العربيّة في القرن العشرين من أخطاء وخطايا كُبرى، حيثُ رفعَتْ هذِهِ الدُّوَل لواء التَّقدُّميّة والحداثة، لنكتشِفَ في نهاية المَطاف أنَّ كُلّ تلكَ الشِّعارات لم تكُنْ إلّا تحليقاً عبثيّاً في الفراغ، أو بقولٍ أدقّ: لم تكُن سوى قشرة موَّهَتِ البِنى الدينية والطّائفيّة والإثنيّة، وعمَّقت المسكوت عنهُ والمُحتقِن في قاع المُجتمعات حتّى انفجَرَ أخيراً، ولا سيما أنَّ السُّلطات القائِمة طوال عُقود عمِلَتْ على بناء تحالُفات جوهرانيّة حوَّلَتْ الطوائف والإثنيات إلى بِنى كُلِّيّة تعميميّة تنفي الخُصوصيّة وتطرُدُ الفرديّة النَّوعيّة للإنسان، وتنتهي بالعلمانيّة الحاكِمة إلى قناع يتلاعَب بالمُكوِّنات الاجتماعيّة المُختلِفة تبعاً لمصلحة استبداد السُّلطات السّياسيّة والدّينيّة على حدٍّ سواء.
ثانياً: اختلال الميزان:
ما من شكّ أنَّ نقد الإسلام (السُّنِّيّ) _وهوَ ما نجدُهُ في مئات الكُتُب ولدى عشرات المُفكِّرين في القرن العشرين_ يتكامَلُ سياسيّاً ودينيّاً عبرَ نقدٍ مُوازٍ لبِنى الأقلِّيّات الطّائفيّة الإسلاميّة الأُخرى، وهوَ الأمر الذي لا نجِدُ لهُ تأسيساً حقيقيّاً أصيلاً في عالمنا العربيّ، وفي سورية تحديداً، بغضّ النَّظَر عن نقدنا للكتابات الصّادرة من موقع عقائديّ إيديولوجيّ أكثريّ يقومُ على التَّكفير والتَّعميم السَّطحيّ المُسَبَّق ضدَّ الأقلِّيّات.
وفي هذا الإطار، يتحمَّلُ مثقفو الأقلِّيّات، وفي مُقدِّمتِهِم العلمانيونَ منهُم مسؤوليّة تاريخيّة فادِحة في هذا التَّقصير، ولا سيما في هذهِ الحقبة الخطيرة، فتجاهُلِهِم لفتح ملفّات طوائفِهِم ونقدِها إنْ لم يكُن على المُستوى العقائديّ البحت؛ فعلى الأقلّ على المُستوى الثقافيّ والوظيفيّ الاجتماعيّ، هوَ أمْرٌ يتركُ السّاحة خاويةً لإسقاط هذِهِ الطّوائِف في براثن مَخاوِف جمَّة تتلاعَبُ بمصيرِهِم سياسيّاً، في حين كانَ يُنتظَر من المُثقفين أنْ يقوموا بفعل تأسيسيّ مُوازٍ لنقد الدّين الأكثريّ، ومُلاقٍ لهُ في إعداد الجميع لاستحقاقات الانتقال السياسيّ نحوَ المُواطَنة وبناء عقد وطنيّ جامِع، بدَلاً من الدَّوران المُستمرّ في حلقة مُفرَغة، وإعادة إنتاج نفايات الماضي الفكريّة.
من المُؤلِم أنْ يسقُطَ عددٌ كبير من علمانيِّي الأقلِّيّات الموصوفين بـ (المُثقَّفين) بعدَ ثورات الرَّبيع العربيّ في نكوص هُوِيّاتيّ مُخجِل، أو في ادِّعاءات ازدواجيّة تنهَضُ على التَّركيز على (الخطَر الإسلاميّ الأكثَريّ التَّكفيريّ)، مُتجاهِلينَ أنَّ الجميع في سفينة واحِدة، وأنَّ الحديث الببَّغائيّ الذي يرتدونَ عبرَهُ قناع (التَّعقيم) الوطنيّ و(الحِكمة) الطُّهرانيّة المُتعالية عن الخوض في موضوعة الطائفيّة والأكثريّة والأقلِّيّات، هو تزييف مُتهافِت للوعي الوجوديّ القديم والرّاهِن، وهوَ تعقيم (مُلوَّث) لا يُعفيهِم من تخاذُلِهِم، بل يُدينهُم أكثَر وهُم أصلاً (لم ولا) يُوفِّرونَ فرصةً لنقد الإسلام الأكثريّ تحت يافطة العلمانيّة، وتجاهُل (الأصل) السِّياسيّ الاستبداديّ للأحداث من دون التَّقليل من الإشكاليّة التَّكفيريّة طبعاً!!.
ثالِثاً: البُؤرة (العصبيّة) المُبطَّنة:
إنَّ أخطَر ما يُزيِّف دعوى العلمانيّة هوَ ادِّعاء عدم التَّديُّن بوصفِهِ شهادة حسن سلوك للعلمانيّ العربيّ يُشهِرُها باستمرار ليؤكِّد انتماءَهُ لجَنّة التَّحضُّر، ومُغادَرَتَهُ لظلاميّة الدّين!
لعلَّ المَسألة أعقد من هذا التَّبسيط؛ فالعلمانيّة أوَّلاً لا تعني الإلحاد، أو عدم التَّديُّن على أقلّ تقدير، وفي الوقت نفسِهِ لا ننفي وجود نسبة غالِبة عربيّاً من العلمانيِّين الذين اختاروا عدم التَّديُّن؛ لكنَّ مَفهوم العلمانيّة الدَّقيق يكمُن في فصل الدّينيّ المُطلَق عن الزَّمنيّ المُتحوِّل في الدُّوَل، والمرء يستطيع أنْ يكونَ مُتديِّناً مثلاً تبعاً لعقيدة أو مذهب مُعيَّن، وعلمانيّاً في توجهاتِهِ السياسيّة في الوقت نفسِهِ.
والأمر الثاني المُتهافِت يكمن في أنَّ دعوى عدم التَّديُّن لدى معظَم العلمانيِّين العرب، وأنَّهُم قد خرجوا عن رُؤى طوائفِهِم في النَّظرة الدّينيّة إلى العالم، لا تنفي مَسألة (العصبيّة) في معناها الخلدونيّ لديهِم، فخُروج مُعظَم علمانيِّي الأقلِّيّات على سبيل التَّحديد عن عقائد طوائفِهِم وعدم الالتزام بالتَّديُّن على طُرُقِها، لا يعني أنَّهُم تخلَّصوا من عصبيّة الانتماء إلى هذه الطَّوائِف بوصفِه انتماءً إلى (إيديولوجيا طائفيّة) مَسكوت عنها أو مُموَّهة في أعماقهِم وفي خطاباتِهِم المُتدثِّرة بغطاء العلمانيّة.
رابِعاً: الإسلاموفوبيا والعلمانوفوبيا:
هكذا، وعلى نحوٍ ما، تقزَّمَ دور مُعظَم علمانيِّي الأقلِّيّات ليكتفيَ بصراع أقرَب إلى الحالة الدّونكيشوتيّة الشَّعبويّة مع المركزيّة البطريركيّة الإسلاميّة الأكثريّة، ومن موقِع العداء الإيديولوجيّ الطّائفيّ، ومن دون مُقارَبة شامِلة تنطلِقُ من العُمق السِّياسيّ الجامِع، ولا تُهمِل إشكاليّات الأقلِّيّات نفسها التي ينتمونَ إليها بدءاً بالسِّرِّيّة الدّينيّة، وانتهاءً بالانعزاليّة، اللتان يُفترَضُ مُواجَهَتُهُما من قِبَل هؤلاء العلمانيِّين بضراوة في سبيل التَّلاقي مع علمانيِّي الأكثريّة، ومع الإسلاميِّين حتّى، ضمن مشروع وطنيّ جامِع، بدَلاً من تأبيد هاتين الإشكاليتيْن (السِّرِّيّة والانعزاليّة) انطلاقاً من مُسوِّغات أقلَّويّة تنتمي إلى سياقات تاريخيّة ماضية قد انتهَتْ فعالياتها، وينبغي مُجاوَزتُها بطبيعة الحال، ولا سيما فكرة (المَظلوميّة) التي باتت في هذِهِ الحقبة أشبه بفكاهة سمِجة.
وفي المَنحى نفسِهِ، لا تقلُّ مسؤوليّة علمانيِّي الأكثريّة عن علمانيِّي الأقلِّيّات في خَلْق هذا الصِّراع الدّونكيشوتي الشَّعبويّ المُنتزَع من سياقِهِ الكُلِّيّ سياسيّاً، ولا سيما حينما نكتشِف أنَّ هؤلاء العلمانيِّين لا يوفِّرون فرصة لتزييف مَفهوم العلمانيّة عربيّاً عبرَ تقديم براءات ذمّة مُستمرّة بانفصالِهِم عن الإسلام الأكثريّ وعدائِهِم لكُلّ شيء إسلاميّ، حتّى بالمَعنى الثَّقافيّ والحضاريّ لا العقائديّ، وهوَ ما يفتَحْ الباب واسِعاً لتحليل نفْسي ضروريّ قبلَ التَّحليل السِّياسيّ للطَّريقة السَّطحيّة والمُختزَلة التي يفهَمونَ بها العلمانيّة.
في مُقابِل إسلاموفوبيا العلمانيّة العربيّة، نجد ما يُمكِنُ أنْ أصطلح عليه بِ (علمانوفوبيا) الإسلام السِّياسيّ، والمُعمَّم لدى الشّارع المُسلِم بوجهٍ عام، والذي التقى عُضويّاً مع (إسلاموفوبيا) العلمانيِّين بترسيخ الفكرة المُشوَّهة والسّاذجة شعبويّاً أيضاً عن العلمانيّة بوصفِها كُفراً وإلحاداً وعداءً للدِّين.
إنَّ صراعات كثيرة تُخاضُ بينَ الطَّرفيْن منذُ عُقود تحت دعوى الخِلاف بينَ (العلمانيّة) و(الإسلام)، وهيَ ليسَتْ سوى صراعات زائِفة ومُفتعَلة وناجِمة عن العُقم المَعرفيّ والمَخاوِف المرَضيّة لذوات هشّة فاقِدة الثِّقة بهُوِيَّتِها، إلى جانب نُضوب المُخيِّلة السِّياسيّة لدى جميع الأطراف، حتّى أكادُ أشكُّ أحياناً أنَّ العَرَبَ (علمانيّون وإسلاميّون) قد فهِموا ماركس مثلاً وتحليلِهِ للدّين، أو فهِموا كبار السوسيولوجيِّين الغربيِّين الذين نفوا إمكانيّة محو الدِّين بوصفِهِ حاجة طبيعيّة وحقّ ديمقراطيّ للإنسان في طرح سؤال الوجود والغيْب وحُرِّيّة تّفسير العالَم واختلاف الاعتقاد من جانب أوَّل، وأشكّ من جانبٍ ثانٍ _ولا سيما في حمأة هُجوم هيستيريّ من العلمانيِّين العَرَب والسّوريِّين تحديداً وشتمِهِم المُستمرّ للعُروبة والإسلام (طبعاً مع زيْف هذِهِ المُطابَقة بينَ العُروبة والإسلام أيضاً) أنَّهُم قد اطَّلعوا وتمثَّلوا بتمعُّن العارِف والواعي أدبيّات مُفكِّرين كبار كياسين الحافظ والياس مرقص وقسطنطين زريق على سبيل المثال لا الحصر، والذينَ استطاعوا أنْ يفهَموا العلمانيّة بوصفِها مدخلاً محوريّاً إلى الدّيمقراطيّة، من دون أنْ يُناقِضَ ذلكَ الحاجة العُضويّة للدُّول العربيّة إلى حامِل هُوِيّاتيّ ثقافيّ وحضاريّ ينهَضُ على العُروبة والإسلام في علاقتِهِما الجدَليّة المُركَّبة والمُتراكِّبة (وغير المُتطابِقة كما أسلَفْتُ)، فضلاً عن ضرورة التَّذكير في هذا السِّياق أنَّ علمانيّة الغرب قد نشأتْ بطبيعة الحال في سِياق دينيّ مسيحيّ انبثَقَ من داخِلِهِ الصِّراع السِّياسيّ، واحتفَظَ الغرب ببلوغِهِ مرحلة العلمنة بالمُحتوى الثقافيّ المسيحيّ لدولِهِ وحضارتِهِ، ويُمكِن لأيّ منّا أنْ يطَّلِع على دستور الاتّحاد الأوروبّي الذي يقول إنَّ أوربّا ذات هُوِيّة ثقافيّة مسيحيّة!
خامساً: حِلْفُ (الأكثليّات):
يُقدِّمُ لنا السَّطح البصَريّ الظّاهريّ صورة مُموَّهة عن صراع عميق بينَ (الأكثريّة) و(الأقلِّيّات)، لكنَّ هذا الفَهم يبدو مُتهافتِاً إذا فكَّكْناهُ في ضوء تأويليّة السَّطح البصَريّ العميق، حيثُ يمكنُ للمُتمعِّن أنْ يضَعَ يدَهُ على حلفٍ استراتيجيٍّ بعيد المدى بين بِنية (الأكثريّة) وبِنى (الأقلِّيّات).
وبمَعنىً أوضَح أقول: ثمَّةَ تحالُف ضمني بين ما أصطلِح عليه بـِ (الأكثليّات) بوصفِهِ اصطلاحاً يدلُّ على تحوُّل الأكثريّة والأقلِّيّات إلى وَحدة وظيفيّة تحت عباءة السُّلطات السِّياسيّة ورعايتِها، ذلكَ أنَّ العداء الزّائِف بينَ هذِهِ المذاهِب يُؤسَّسُ على هَواجِس ومَخاوِف ودعايات وإشاعات مُوجَّهة لتكتيل المُستوى الجمعيّ (القطيعيّ) غرائِزيّاً، في حين تتحالَفُ المركزيّاتُ الفوقيّة البطريركيّة للأكثريّة والأقلِّيّات برعاية المركزيّة الفوقيّة السِّياسيّة الأعلى في هرم السُّلطة حِفاظاً على مَصالِح جميع هذِهِ السُّلطات من ناحية، وتأبيداً للُعبة التَّدجين الشَّعبيّة للجُموع التي يتمُّ تحريكَها غرائِزيّاً، حتَّى لو استدعى الأمر تكرار تاريخ النفي والتَّكفير والذّبح والصِّراع العِدائيّ التَّحتيّ أو الظّاهريّ تقليديّاً.
لطالَما ردَّدْتُ أنَّ الأقلِّيّات هُم (سلفيّات مَقلوبة) عن الأكثريّة، ونقدُ هذا الطَّرح بمَقولة إنَّ الأقلِّيّات ليسَتْ تبشيريّة كالأكثريّة من قِبَل البعض، نقدٌ مُتهافِتٌ ما دامَتْ هذِهِ الأقلِّيّات تختلِفُ عن الأكثريّة في الشَّكل، لا في الوظيفة؛ إذ تتلاقى وظيفيّاً (الأكثليّات) تحتَ رعاية المركزيّة البطريركيّة للسُّلطة السِّياسيّة، ويتمُّ إنتاج بِنية سُلطويّة أقلَّويّة لا تختلف عمّا عهدناهُ عندَ الأكثريّة، وهذا ما لمسناهُ في تجارب سياسيّة وظَّفَتْ إيديولوجيا الأقلِّيّات في سورية والعراق ولبنان واليمن، فالأكثليّات جميعُها تتلاقى في البُعد الجوهرانيّ السُّكونيّ النّافي للآخَر بنيويّاً، والذي يتمدَّد عندَ الانقضاض على السُّلطة على حامِل إيديولوجيّ تكفيريّ ثابت ومُتشابه من جانبٍ أوَّل، ومُعادٍ وظيفيّاً من جانبٍ ثانٍ للبُعد الزَّمنيّ المُتحرِّك والمُتحوِّل للعلمانيّة.
لعلَّ حلف (الأكثليّات) المُشار إليه هُنا يُقدِّم لنا أمثلة كثيرة عن كيفيّة إدامة صراع البِنى التَّحتيّة الشَّعبويّة عبرَ إنتاج مُنظَّم سياسيّاً لسرديّات شفويّة تنهَضُ على أنماط تشويهيّة مُختزَلة ومُبتسرة لصورة كُلّ طائِفة عندَ الطّوائِف الأخرى، ونستطيع أنْ نسمَعَ بعُمق ما الذي يُقال في سورية مثلاً وراء أبواب البُيوت المُغلَقة عن الطّوائِف الأُخرى، ولعلَّ التَّزييف المَدروس للوعي الوجوديّ قد أنتَجَ صُوَراً نمطيّة مُتهافِتة ومُضحِكة، كأنْ يظُنّ مُعظَم مثقفي الأقلِّيّات في سورية _كما كتبَتْ إحدى صديقاتي على الفيس بوك_ وطوال عُقود طويلة أنَّ الأكثريّة مُتخلِّفة ومُحافِظة وبدويّة، في حين أنَّ طريقة الحياة والمَلبس والانفتاح الظّاهريّ يجعَلُ الأقلّويِّين حامِلِي التَّنوير والثَّقافة والحُرِّيّة في تفكيرٍ ليسَ سوى تفكير تدجينيّ شعبويّ يعود في جُذورِهِ إلى البِنية المُموَّهة سياسيّاً لحلف (الأكثلِّيّات).
سادساً: الفُرصة الكُبرى:
إنَّنا في هذِهِ الحقبة المُزلزِلة، وعقب قيام ثورات الرَّبيع العربيّ، أمامَ فرصة تاريخيّة نادِرة وكُبرى، وعلينا أنْ نستثمرَها في فتحِ جميع الملفّات المَسكوت عنها أو غير المُفكَّر فيها، ومن السَّذاجة أو الانسحاب من مُمارَسة الدَّور المَنوط بالمُثقَّفين القول إنَّ هذا الموضوع أو هذِهِ المَسألة ينبغي إرجاؤُها لخُطورة المَرحلة، لأنَّ ذلكَ ليسَ إلّا تكراراً مَعكوساً لأكذوبة: (لا صوت يعلو فوقَ صوت المعركة) من ناحية أُولى، ولأنَّ مكر التّاريخ من ناحية ثانية أقوى من رغبات الأفراد، ومن المُستحيل العودة إلى ما قبل عام 2011، لذلكَ فالأَوْلى بنا أنْ نتصدَّى لدورِنا التَّنويريّ النَّهضويّ خارِجَ كيديّة و (وَلْدَنة) بعض من يُسمّون خطأً بـ (المُثقفين)، وهُم ما زالوا يدورونَ في فلكِ موروثاتِهِم الجوهرانيّة أو العصبيّة الضَّيِّقة، ويُعيدونَ إنتاجَ الفخّ الطّائِفِيّ من حيثُ يدَّعونَ أو يعتقدونَ (إذا أحسنّا الظَّنّ) أنَّهُم يسعونَ إلى العلمانيّة، من دون أدنى فَهم لفلسفة التّاريخ التي تُؤكِّد في حالة مثل حالتنا العربيّة أنَّ الاحتقان الذي أدَّى إلى هذا الانفجار الثَّوريّ العظيم سيُخرِج كُلّ ما هوَ مُتقيِّح وعَفِن كما أخرَجَ كُلّ ما هوَ جميل وطَموح ومُختلِف.
شاعر وناقد سوريّ