صفحات الثقافة

بين الدكتاتور والشاعر… محمود درويش أنموذجاً


جمال شحيد

نشرت جريدة «أخبار الأدب» في عدد 26 آب / أغسطس ثماني قصائد غير منشورة سابقاً لمحمود درويش، وعنونتها بـ«خطب الدكتاتور الموزونة». وذكرت أن درويش قد استبعدها من النشر في أعماله الكاملة أو في ديوان من دواوينه، من دون أن تذكر السبب، علماً بأن درويش قد انشغل طويلاً بتوصيف الدكتاتور بعامة، والدكتاتور العربي بخاصة. سأتوقف عند هذه النصوص التي تحمل العناوين التالية: خطاب الجلوس، خطاب الضجر، خطاب السلام، خطاب القبر، خطاب الفكرة، خطاب الأمير، خطاب النساء، خطاب الخطاب، محاولاً استجلاء الصورة التي كوّنها محمود درويش عن الدكتاتور العربي، وبخاصة في هذا الربيع العربي الدامي والمديد.

يبدأ الدكتاتور بالقول إنه سيختار شعبه «من سلالة أمي ومن مذهبي» كي يكون هذا الشعب جديراً به. «سأختار شعباً محباً وصلباً وعذباً / سأختار أصلحكم للبقاء / وأنجحكم في الدعاء لطول جلوسي فتيّاً». ويستبعد بالتالي الدهماء والفقراء وينظف بلاده «من كل حافٍ وعارٍ وجائع». «سأختار شعباً من الأذكياء… الودودين / والناجحين./ وتباً لوحل الشوارع». وبعد هذا الفرز الذي انتقاه بيده، يصرّح أنه يكره الطغاة لأنهم «يسوسون شعباً من الجهلة». ذلك أن المواطنة الحقيقية لا يتمتع بها أي مخلوق، لا سيما إذا كان من «الرعاع… اليتامى… الأرامل». ويحدّد وظائف هذا الشعب المنتقى: «أن تخدموني / وأن ترفعوا صوري بين جدرانكم / وأن تشكروني لأني رضيت بكم أمة لي». ومن حق هذا الشعب أن يحلم برضى الدكتاتور وعطفه: «سأبني لكم جنّة فوق أرضي (وضمير التملك هنا واضح بيانه) / كلوا ما تشاؤون من طيباتي / ولا تسمعوا ما يقول ملوك الطوائف عني». ويمنعهم من الدخول في السياسة «إلا إذا صدر الأمر عني». ويسعى بالتالي إلى تأسيس الدولة الفاضلة القائمة على اصطفاء الحاكم شعبَه: «سأختاركم واحداً واحداً مرة كل خمس سنين…/ وأنتم تزكونني مرة كل عشرين عاماً / إذا لزم الأمر/ أو مرة للأبد». ويتمتع هذا الحاكم بصفة التنزيه والألوهية: «فسيروا إلى خدمتي آمنين / أذنت لكم أن تخرّوا على قدميّ ساجدين». صدق الله العظيم!

وفي «خطاب الضجر» يتعجب الحاكم أنه منذ سنة لم يأته خبر واحد عن بلاده، مع أنه المقتدر الذي يختصر الناس: «أسجن ثلثاً / وأطرد ثلثاً / وأبقي من الثلث حاشية للسمر»، و«يوجِد ما لا يوجد». لهذا ينتابه الضجر ويشعر بالوحدة، من دون أن يخفي مآثره: «فمن منكم يستطيع الجلوس ثلاثين / عاماً على مقعد واحد / من دون أن يتخشب؟ من منكم يستطيع /السهر/ ثلاثين عاماً ليمنع شعباً من الذكريات وحب السفر؟ (…) وأي فتى منكم يستطيع الوقوف ثلاثين عاماً على حافة الجمجمة؟» يريد أن يمشي فوق الأرصفة وينام تحت الشجر، ولكن واجب السلطة لا يترك له مزيداً من الوقت فيقرر عندئذ أن يتسلى قليلاً. كيف؟ يريد أن يعيد إلى ساحة الموت أمجادها، «لأقطع كفاً وأجدع أنفاً وأدخل سيفاً بنهد / نهد». يريد أن يسمع عن فتى غضب، أو عن شخص تقاعس في خدمته أو بكى أو كفر، يريد أي خبر. إنه يعيش في حلقة مفرغة: يريد أن تحصل حوادث في بلاده، ولكنه يسيطر على كل شيء: «وحدي أنا أيها الشعب، أعمل وحدي/ ووحدي أسنّ القوانين/ وحدي أحوّل مجرى النهر/ أفكر وحدي أقرر وحدي». يحكم من دون مستشارين ولا نواب: «سلام عليّ، سلام عليكم / سلام على أمة لا تملّ الضجر!».

وفي «خطاب السلام»، يدعو الدكتاتور شعبه إلى التخلص من الذكريات والأوهام، بعد «ثلاث حروب» خاسرة، ويأمره بأن يتصرف خير التصرف مع خطته: «سأجنح للسلم إن جنحوا للحروب / سأجنح للغرب إن جنحوا للغروب / سنجنح للسلم مهما بنوا من حصون / ومهما أقاموا على أرضنا / ليعيش السلام». ويرى أن السيادة وهم، ويقول عن العدو المصاب بداء التوسع: «فليتوسع قليلاً… لماذا نخاف… لماذا نخاف؟/ فهل تستطيع الجرادة أن تأكل الفيل أو تشرب النيل؟/ في الأرض متسع للجميع». وحديث العروبة سراب بسراب. آن أوان الحقيقة: «ماذا يريدون؟ كل فلسطين؟/ أهلاً وسهلاً/ يريدون أطراف سيناء؟ أهلاً وسهلاً/ يريدون رأس أبي؟/ أهلاً وسهلاً / يريدون مرتفعات الهجوم على الشام؟ أهلاً وسهلاً/ يريدون أنهار لبنان؟ أهلاً وسهلاً/ يريدون تعديل قرآن عثمان؟ أهلاً وسهلاً»… وينهي هذه المتوالية قائلاً: «سأعطيهمو ما يشاؤون منا وما لا يشاؤون كي /أحمي السلم/ والسلم أقوى من الأرض، أقوى وأغلى». وبعدئذ يحوّل الجيش من الحدود إلى الداخل ليحارب الرعاع والجياع والمعارضة الآثمة، ويزج في السجون الكثيرة كل من يرفع رأسه: «وفي السجن متسع للجميع / من الشيخ حتى الرضيع / ومن رجل الدين حتى النقابي والخادمة… هنا طاعة وانسجام / ليحيا السلام». ويتنطع الحاكم قائلاً: «سأقضي على الذكريات/ (…) غداً تصبحون على جنتي/ فاستريحوا وناموا / يعيش السلام/ يعيش النظام / شالوم، سلام».

وفي «خطاب القبر» يقول الحاكم: «فمن واجبي أن أعيش/ ومن حقكم أن تموتوا». وبعد أن بلغ وهو على سدّة الحكم عمراً عتيّاً، ينادي بتأبيد حكمه: «وبعد الثمانين تأتي ثمانون أخرى». ويذهب به التبجح إلى تكرار الجملة الأولى من إنجيل يوحنا القائلة «في البدء كان الكلمة»، ولكنه يحرّفها قليلاً فتصبح: «وفي البدء كنت وكوّنت هذا الوطن»، أي أنه وضعَ نفسه موضع اللوغوس من جهة، وأنه احتكر التاريخ منذ أقدم حقباته إلى الآن. الجماهير تعبده: «وأما الذي كان يعبدني / فمن حقه أن يعيش معي فوق هذا التراب/ وتحت التراب. معي للأبد». وينهي محمود درويش خطاب الحاكم بقوله: «ومن كان يعبدني، فإني حيّ وحيّ وحيّ»؛ أي أنه خالد كالله، ان لم يكن أكثر.

ويسخر درويش من تطلّع الحاكم وحزبه إلى استبدال الاقتصاد الزراعي بالاقتصاد الصناعي: «سنلغي الزراعة / وندخل عصر الصناعة / بحزب وشعب وفكرة». ويعلنها ثورة عارمة: «إذا الشعب يوماً أراد / فلا بدّ أن يستجيب الجراد/ فهيّا بنا أيها الكادحون وصناع تاريخنا / (…) لنحرق ما ترك الغرب والشرق فينا من الذكريات». وتصبح هذه الثورة «الشعبية» ثورة شعارات جوفاء: «حطوا الشعار وراء الشعار وراء الشعار/ وهزوا الشعار، ليساقط الوعي فكرة؛ وربّوا الشعارات وادخروها / وإن صدئت طوّروها، وإن جاع / أولادكم فاطبخوها / وفي عيد مايو كلوها/ وصلّوا لها واعبدوها / وإن مسّكم مرض علقوها / على موضع الداء فهي الدواء». وهكذا «سننشئ جنة عمالنا القادمين / من الفكرة المطلقة / إلى الفكرة المطلقة». وتنتهي القصيدة بدعوة إلى الموت الجماعي: «فموتوا، كما لم يمت أحد قبلكم (…) / سلام عليكم/ سلام على فكرةٍ/ سوف تولد من موت شعب وفكرة». ويدل هذا التعارض بين خلود الحاكم وموت شعبه على أن البون شاسع بين الحاكم / الاله وبين الرعية / القطيع.

وفي «خطاب الأمير» تظهر المفارقة المرعبة التالية: «أمير على عرشه / وشعب على نعشه»، أو يظهر الأمير خنجراً من حرير ينبغي على الرعية أن تفتديه بدمها. وأمير كهذا لا يتكلم عن الشعب، وإنما عن الرعية، لأن حقوقه على الناس أكثر من واجب، ولأن مآثره تفوق الحصر: لقد ساوى بين المثقف والمرتزق، وبنى خمسين سجناً جديداً ليحمي اللغة «من الحشرات ومن كل فكر قلق»، وجعل الانتماء الحقيقي يرتبط بشخصه: «فمن يذكر الآن أجداده؟ / ومن يعرف الآن أولاده؟»، ويتّم الملايين من الأطفال، «هاتوا يتامى»، أريد أعداداً وفيرة. ويخاطب الرعية: «فلا تقنطوا من دهاء الأمير ولا تقعوا في الغلط (…) / وأنتم رهائن عندي، فخرّوا وخرّوا». ويجب على السلام المنشود أن يرتبط بشخصه، وكل سلامٍ آخر مستحيل دونه: «ولكننا سنواصل هذا الطريق إلى منتهاه إلى/ منتهاكم»؛ والمنتهى هنا، كما لا يخفى، هو النهاية والموت. لأني «ثمانين حولاً / سأحكمكم لا مفرّ».

ومع أن «خطاب النساء» يبدو وكأنه غير مرتبط ارتباطاً مباشراً بالدكتاتور، إلا أن تدخّل هذا الدكتاتور في حياة النساء ووضعهن الاجتماعي والأخلاقي يظهر في نهاية القصيدة عندما يخاطب الدكتاتورُ الرجالَ قائلاً: «كيف أحرركم من دهاء النساء؟ (…)/ سأعلن حرباً لمدة عام / تكون النساء عليكم حرام / وأبعث غلمان قصري ـ وهم عاجزون ـ إلى كل بيت / ليأتوا إليّ بكل فتاة وبنت/ لأحرث من شئت منهن». إذن لا يكتفي الدكتاتور بسلب البلاد وخيراتها، هو أيضاً يحتكر نساءها، على غرار شهريار في ألف ليلة وليلة. ولا يفعل ذلك حباً بالنساء ـ هو يحتقرهن في صميم قلبه ـ بل ليظهر أنه رب البلاد والعباد. وتتكرر في القصيدة المفارقة التالية: «النساء على كل معصية قادرات» وهنَّ «حبيباتنا من قديم الزمان». وما هذا الحب إلا لغاية في نفس الدكتاتور: «على كل امرأة أن تخون معي زوجها / لأعرف أني أبوكم / وآخذ منكم ومنهن كل الولاء». ولا تكتمل هذه الفكرة البطريركية إلا عن طريق الجنس. أريد أن أعرف «بأن الولي على العهد ابني / وأنيَ ابني»، أي أنه يريد أن يتماهى ـ بعد طول الحكم والعمر ـ مع الدكتاتور القادم.

ويتناول «خطاب الخطاب» موضوع اللغة والبلاغة والمجاز، وهو موضوع لا يبرع فيه الدكتاتور ويظهر عجزه فيه: «ولا تستطيع الحكومة شنق المجاز ونفي / الأسى عن هديل الحمام». ومع أنه يحاول الإمساك بتلابيب القصيدة، إلا أن شرطته تعجز عن إلقاء القبض عليها. ومع ذلك يسعى إلى فرض لغته: «ومن لغتي تعرفون الحقيقة في لفظتين: / حلال، حرام / فلا تبحثوا في القواميس عن لغة لا تليق بهذا المقام». وهي لغة شديدة الاختزال لا تزيد مفرداتها عن ألف كلمة «خطابي حريتي، باب زنزانة من ثلاثين / مفردة لا تصاب / بصدمة واقعها». ويذكّر الدكتاتور رعيته بأن الكلام كان في البدء ( وهذا مرة أخرى اقتباس من إنجيل يوحنا) ـ وبأن الجلوس على العرش كان في البدء، يوم ألقى خطاب التنصيب. اللغة الرسمية التي يريدها هذا الدكتاتور هي لغة الطاعة والانصياع، إذن هي لغة لا تحتاج إلى الكلام الكثير: «فلا تسرفوا في الكلام لئلا تبدَّد سلطةُ هذا الكلام (…)./ ولا تقربوا الشعر، فالشعر يهدم صرح / الثوابت في وطن من وئام / وللشعر تأويله، فاحذروه كما تحذرون الزنى / والربا والحرام». وينهي محمود درويش قصيدته هذه بتذكير الدكتاتور رعيتَه بضرورة شد الحزام اللغوي على البطن: «فإن ثلاثين مفردة تستطيع قيادة شعب يحب السلام./ وإن خطاب النظام/ نظام الخطاب».

يتضح من هذه القصائد الثمان أن الشاعر، الذي لا تظهر صورته إلا في القصيدة الثامنة، هو البديل المرتجى عن الدكتاتور الغاشم الذي يمقت الشعر والشعراء والمثقفين. مما يذكّر بعبارة غوبلز النازي القائل: عندما أسمع كلمة مثقف، أتحسس مسدسي.

(كاتب سوري)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى