صفحات الرأي

بين النقد البنّاء والتلزيم الهدّام/ ماجد الشيخ

 

 

يأخذ ترذيل النقد، لدى أيديولوجيات الجهالة التعصبية، مرتبة “التقديس”، في الوقت الذي يجري اعتباره أقرب إلى التكفير والتخوين، في حين أن هناك من بات يحرّم النقد، استناداً إلى ذاك الخلط الفاضح بين الدين والسياسة، وخصوصا لجهة “نقد السلاح”، وليس الأفكار أو السياسات وحدها، فيما هو يحلل لنفسه ولغيره من طينته نفسها ما يحرّمه على غيره، وتلك مأساة من لا يتعلّم، ولا يريد أن يتعلم أن كل ما يمت للتفكير وللسلوك البشري، ينبغي أن يكون خاضعاً لثقافة النقد، بلا موانع أو محرمات.

حتى التديّن بطبائعه البشرية، لا ينبغي استثناؤه من العملية النقدية، فمثل هذا التديّن لا ينتمي إلى مجال المقدس، إلا في نظر الذين أدمنوا ويدمنون على التحريم والتكفير، ورمي الآخرين بما يكمن في أعماقه من مزايا ورزايا، هي نتاج الرهاب المرضي الدائم، مما رافق ويرافق انحرافات النفس البشرية، على امتداد مسيرة الحياة بتعرجاتها وتحولاتها، وآليات انتقالها من حال إلى حال.

الأسوياء، وإنْ بشكل نسبي، وحدهم من يتقبّلون النقد. وهم وحدهم من يذهبون إلى المراجعة النقدية والنقد الذاتي والموضوعي البنّاء. وهم وحدهم بالذات من يقيّمون أعمالهم وسلوكياتهم، مثلما يقيّمون أعمال الآخرين وسلوكياتهم، وفي ذلك فعل لا يستثني الذات أو الآخر من النقد، والدعوة إلى التقويم.

في المقابل، هناك من يستحرم النقد أو يحرّمه، ولا يتورع عن تحليل القتل أو استحلال التقتيل بدعاوى التكفير، أو بدعاوى التفكير أو الاختلاف مع تفاسير المؤسسة الدينية، رسميةً كانت أو أهلية، ولا يتوانى عن استجرار الإجرام إلى حيث يجب أن يسود الحوار والنقاش والإقناع، وإذ به يغرق في مجاري الاستنقاع، فلا يعود هناك مجال للجدل، أو رؤية الآخر بموضوعية أو بنية أو بنيات صافية.

من هنا، نشأت وتنشأ تلك الرؤى التعصبية في تمذهبها وتمترستها خلف حالات من الفصام، والعصاب والتذهين الطقوسي، والتخليق الأسطوري والخرافي لسردياتٍ موازيةٍ لنصوص ومرجعيات التديّن والسياسات الاستبدادية، وهو منطق أضاع الدين، ولم يكسب السياسة، كما خسر السياسة، ولم يكسب الدين.

وهذا هو حال التمذهب الديني، كما التدين المذهبي بوجوهه الأكثر تطرفاً، على ما صاره “دواعش” الفتنة على جانبي التديّن الإسلاموي، في إيغالهم بمسائل التسفيه والتتفيه، كل طرف بحق الآخر، وحتى داخل الطرف الواحد، بحق تيارات وأحزاب وفرق متنافسة، بل ومتعادية تضاد واحدتها الأخرى. فأين يمكن لثقافة النقد التنويرية والمراجعة والإصلاح أن تعيش، أو تتعايش، وسط هذا “الصراع الأبدي”؟

صراع ضد الآدمية في منظورها الإنساني، ذاك الذي بات متطرفو عصرنا وإرهابيوه يجبروننا على العيش في ظله، يحرّمون ما لا يستوي مع أفهامهم، وما لا يستقيم وسلطتهم وتسلّطهم وسلطانهم، ويستحلّون ما طاب لهم الهوى “الداعشي” في سلوك دروب التوحّش، لإحياء سردياتٍ قديمة، لم تكن لتخضع للمراقبة أو للمحاسبة أو للقصاص والعقاب.

في وقت تحولت فيه بعض الدول إلى ما يشبه “ثكنات وأوكار المافيا”، وهي تخرّج مزيداً من

“النقد بنّاءٌ بطبعه وطبيعته، والاستبداد هدّام بطبعه ومدمر بطبيعته” المليشيات متعددة الجنسيات للقتال، أو لنشر الإرهاب هنا أو هناك، وتشريد شعوبٍ من أراضيها واستباحة أملاكها وممتلكاتها، وإعادة استملاكها وتوزيعها مكاسب ومغانم لهذه الفئة أو تلك، على ما يجري اليوم في سورية وفي اليمن، ومن قبل كما في أفغانستان والشيشان، وربما في الغد إن أتيحت لهم الظروف في بلدان ومناطق أخرى، يمكن ضمها لممتلكات الحلم الإمبراطوري الكهنوتي/ القوموي.

النقد بنّاءٌ بطبعه وطبيعته، والاستبداد هدّام بطبعه ومدمر بطبيعته. ولهذا، لا يمكن السكوت على الاستبداد، وهو يمارس جزّ الرؤوس وتدمير البيوت على ساكنيها بالكيماوي وبالبراميل المتفجرة، وقتل الناس بشبهة المعارضة والاختلاف المذهبي. ومنذ متى والطيران الروسي ونظام بوتين يميّز بين الطوائف والمذاهب، في بلد مثل سورية، عاشت على مزاعم تعلمنها ردحاً طويلاً من الزمن، حتى انكشفت طائفية النظام مع تقلبات وانقلابات عسكره والقومجيين في حزبه الأسري والعائلي، وقد تاجروا بالقومية، حتى صارت قومويتهم تجارتهم الرابحة من أجل الاستمرار في السلطة، والفوز بها في كل آن وحين.

السكوت عن ممارساتٍ كهذه قرين التهديم الذي يمارسه النظام، والتلزيم الذي تقوم به، إلى جانب قوة النظام والمليشيات المدعومة من النظام الإيراني والقوة التدخلية للعسكرية الروسية، وأخيراً الصمت الأميركي والأوروبي، حيث تغيّرت الحسابات، لتنتقل من حيّز النقد إلى حيزات من الصمت والتواطؤ، والهروب من التزامات الدولة العظمى أو الكبرى، وترك الميدان للاعب الروسي – الإيراني، ومليشيات الأخير الطائفية تلعب على هواها، وبدفع من “برفيسور الفتنة” لعبة الطائفية، كما تبدّت في أول أزمنة الفتنة، وكأنها لم تزل طريّةً بعد أكثر من 1400 عام؛ صقل الزمان خلالها، وبتوجهات مقصودة، أيديولوجيات الفتنة المذهبية وطقوسها، لتتلقفها اليوم دول وجماعات ومليشيات يعزّ عليها أن تكون سيدة السلطة المضاعة، وسط غياب مجتمع دولي لم يعد يبالي إلا بلعبة مصالح النفوذ والهيمنة الذاتية وتقاسمها حصصاً، جرّاء التلزيم الهدّام، وغياب النقد البنّاء، والحضور القوي لعقائد وأيديولوجيات الكراهية والعنف، وتشجيع الحروب وتبنيها من أجل إنعاش مصانع السلاح، وإنماء مصالح الرأسمال المتوحش، وهو لا يرى حوله من ينافسه في مجاله، طالما أن الدولة الرأسمالية باتت هي الحامية، والدافعة نحو الاحتكار؛ احتكار السياسة واحتكار العنف والقوة، وهذا نوع من التلزيم الهدّام لبنى الدولة من داخلها، كما ولبنى الدول الأخرى، على ما يجري اليوم في سورية، كأسطع مثال يجسّد غياب مشروع عالمي موحّد، على الرغم من ظاهر الوحدة، وما يعتمل في الخفاء من بواطن صراع، بل صراعات طويلة.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى