بين بوكر أبوظبي وكتارا الدوحة/ عبده وازن
كانت أعين معظم الروائيين العرب، لا سيما الجدد منهم، موجَّهة الى ابوظبي التي تمنح جائزة البوكر العربية، لكنها اليوم، بعد اعلان جوائز كتارا للرواية العربية باتت ترنو الى الدوحة ايضاً. بات هؤلاء الروائيون يكتبون، وأحد همومهم الملحّة ان يفوزوا بجائزة ما، تضعهم في الواجهة، واجهة الاعلام والمبيع، عطفاً على المكافأة المالية التي نادراً ما يحصلون عليها. وغدوا يشترطون على انفسهم مراعاة المعايير التي تفترضها الجوائز من غير ان تعلنها، ولو على حساب الإبداع نفسه. وهي معايير تدفعهم في احيان الى مراقبة نصوصهم ولجم عنان مخيلتهم الجامحة وطمس غرائزهم الخفية.
الآن بعد اعلان جوائز كتارا للرواية العربية، اصبحت الدوحة في حال من التنافس مع ابوظبي مانحة البوكر، وبات قدر الرواية العربية الجديدة معلقاً بين هاتين العاصمتين الاسخى، بخاصة ان كتارا تكافئ خمس روايات في آن واحد، والخامسة تنال مبلغاً كبيراً هو مئتا الف دولار، والمعيار ان تكون صالحة للتحول الى مسلسل تلفزيوني. اما الجوائز الاخرى فقيمة الواحدة منها تعادل قيمة البوكر، أي خمسين ألف دولار. ولعل الرقم المفاجئ كان عدد المرشحين الى جوائز كتارا في دورتها الاولى، فهو تخطى السبعمئة رواية (700)، منها مئتان وثلاث وستون (263) منشورة وأربعمئة وخمس وسبعون (475 ) مخطوطة، ومعظم هذه الروايات، منشورةً ومخطوطةً، صدرت وكُتبت خلال العام 2014 ما خلا قلة تعود الى العام 2013. اما الطريف فهو مشاركة روائيين من دول غير عربية في كتارا، وهم أصابتهم عدوى الجوائز، مثل ايران وتشاد وإريتريا، وغالبيتهم مستشرقون يجيدون العربية.
هذا الإقبال على كتابة الرواية ظاهرة لم تعرفها الحركة الروائية العربية من قبل. كان الناشرون يستميتون في العثور على رواية ينشرونها مقابل ما ينشرون من دواوين شعرية. أما اليوم فهم يتلقون من مخطوطات الروايات ما يتجاوز قدرتهم على النشر. لكنهم يرحبون بها كل ترحاب ويُقبلون على نشرها من غير تردد وفي حسبانهم أنّ حصول روائييهم على الجوائز يمنحهم مزيداً من الشهرة والحظوة وفرص البيع.
هل كان على الرواية العربية ان تنتظر صعود موجة الجوائز لتشهد حال الازدهار «الشكلي» والظاهر والكمّي الذي تشهده اليوم؟ هل كان على قراء الرواية العرب ان ينتظروا ايضاً هذه الجوائز ليقبلوا على شراء الروايات متكئين على ذائقة لجان التحكيم؟
تشهد الرواية العربية اليوم ما يمكن ان يُسمى «فورة» في أكثر من وجهة: في الكتابة كما في النشر والمبيع والترجمة الى لغات عالمية. لكنّ علامات هذه «الفورة» كانت بدأت تظهر قبل الجوائز. راحت الرواية تحتل حيّزاً مهمّاً في المشهد الابداعي بصفتها النوع الادبي الأرحب والأقدر على استيعاب اسئلة العصر المضطرب وعلى اشتمال الهموم الجديدة التي عصفت بحياة الفرد والجماعة، وهي هموم سياسية واقتصادية وأيديولوجية… جاءت الجوائز لاحقاً لتزيد من قوة «الفورة» وتوسّع مداها وتشرّع ابوابها امام الجميع. وليس مستغرباً ان تصبح الجوائز الآن سبباً رئيساً في رواج الحركة الروائية. وهذا ما تستهجنه قلة من نقاد وروائيين لم يأبهوا يوماً للجوائز ولم يعيروها ادنى اهتمام.
أكثر من تسعمئة رواية إذاً مرشحة هذا العام الى جوائز البوكر وكتارا، ومعظمها كتب خلال العام 2014. هذا رقم يدعو الى التفاؤل مقدار ما يدعو الى الشك والظن. لم يسبق ان «انتج» العالم العربي هذا الكم من الروايات. ولم يسبق ان شهدت الرواية العربية نفسها هذا الرواج وهذا «الانعتاق» من قيود العمل الابداعي وهذا «التفلت» من رهبة الكتابة وشروطها وأعبائها. اصبحت الرواية خبز الكتّاب والمطابع والقراء. لكنّ هذا الخبز ليس طازجاً دوماً ولا سليماً وخلواً من الزؤان والقش. روايات تهطل من كل حدب وصوب. احياناً تأتيك من حيث لم تنتظر. حتى النقاد ما عاد عددهم يكفي لقراءة – وتقويم – هذا الكم من الروايات. باتت الساحة النقدية ضئيلة جداً حيال هذا التراكم الذي لا يني يتراكم. ما أحوج الساحة الآن الى مزيد من النقاد. البضائع جمة والنقاد قلة قليلة.
كان لا بد للرواية العربية من ان تزدهر أخيراً وتصبح بمثابة البوصلة والخريطة. لم يبق الشعر (ديوان العرب) ولا القصة القصيرة قادرين على احتواء ازمة الحضارة الحديثة وعلى مرافقة ما يحصل من تحولات راهنة تفوق الوصف. حلت الرواية في صدارة المشهد الادبي، ولكن من غير ان تلغي الاجناس الاخرى، ولعلها أفادت منها كثيراً. حتى الشعراء التحقوا بصفوف الروائيين بحثاً عن فضاءات اخرى تتيح لهم الخروج من حصار الشعر، الفن الأنقى والأشد التصاقا بـ «الذات» والمتعالي عن بشاعات العالم وآثامه.
لم يبق مهمّاً ان يكون زمننا «زمن الرواية»، المهم هو زمن اي رواية، هذا الزمن؟
الحياة