أنور بدرصفحات الثقافة

بين رمادية سعدي يوسف وشجرة الحياة عند الياس خوري


أنور بدر

حين أحرق البوعزيزي نفسه في تونس اندلعت شرارة الربيع العربي التي كان وقودها الشباب المهمشين في مجتمعاتهم، وشكلت الثورة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي أدوات التواصل بين تجمعات الشباب الثائرة وزملائهم في العالم أجمع وفي المنطقة العربية بشكل خاص، كبديل للحامل الطبقي أو الأيديولوجي وتعبيراته الحزبية، وجاء التحرك مطلبيا تحت شعار إسقاط النظام كبديل عن الشعارات الأيديولوجية، بهذا المعنى تميز الربيع العربي وتفرد بالنسبة لكل المعايير الثقافية التي درسناها سابقا عن الثورات، إذ عبر هذا الربيع عن مجموع الحالة المجتمعية ولم يكن تعبيرا عن طبقة أو شريحة اجتماعية فقط، كما أنه استغنى عن القيادة السياسية حيث سعت الأحزاب للحاق به أو معاداته حين عجزت عن قيادته.

هذه الخصوصية التي وسمت ثورة الياسمين في تونس والمنطقة العربية استعصت على فهم وتنظيرات مثقفي العربية، فحين عجز سرير بروكست الأيديولوجي عن استيعابها، لم يكتفوا بقص استطالات القدمين، بل طالبوا بوأد هذه الحالة التي لم تستجب لمعاييرهم. وقد سقط في هذا المستنقع أسماء كبيرة كالناقد كمال أبو ديب والشعراء أدونيس ونزيه أبو عفش…ولكن سقوط شاعر آخر من طراز سعدي يوسف ترك دويا أكبر، ربما لأنه ‘الشيوعي الأخير’ كما وصف نفسه، وربما لأن موقفه يشكل خيانة لسريره الأيديولوجي، أو أن ذلك السرير الذي نام وعاش فيه عقودا يشكل خيانة بالأساس لماركس والماركسية التي تقول بأن ‘شجرة الحياة خضراء دائما’. فهذا الشاعر الذي كتب بنبل المثقف العضوي قصيدته الشهيرة ‘تحت جدارية فائق حسن’ لن يتردد في قصيدته الأخيرة التي نشرها في ‘القدس العربي’ بتاريخ 6 ـ 5 ـ 2011 أن يتساءل أمام قرائه ‘أي ربيع عربي هذا؟’.

وليست الإشكالية في السؤال الذي يضمر المعرفة بل الإشكالية في السؤال الذي يضمر الاستنكار، واستنكار شاعرنا الكبير يقوم في حقل السياسة لا في حقل المعرفة، فهو لا يتردد في الجواب ‘أي ربيع عربي هذا؟ نعرف تماماً أن أمراً صدر من دائرة امريكية معينة’ جواب يحيل الربيع العربي بكامله إلى مجرد لعبة امريكية، لعبة يولدها وعي خرافي ينوء تحت وطأة وثقل الإحساس بالمؤامرة، هي ليست معلومة بل وهم تشكل في ظلّ الخوف القهري،’وهي ليست اجتهاد الشاعر بل احد مخلفات نظريات التحكم عن بعد و’السبرنيتيك’ التي سُحبت قسرا من عالم الفيزياء باتجاه العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع والسياسة وغيرهما، وكان بعض منظري اليسار الديالكتيكي أسرع باتجاه تبنيه، إذ ليس مغالاة أن نقول الآن بأن تاريخ الأحزاب الشيوعية في العالم هو بجزء مهم منه تاريخ مؤامرات، لكننا الآن نرتقي بهذه المؤامرة إلى مصاف كوني، فكل ما يحدث في العالم هو”أمر صدر من دائرة امريكية معينة’، إنه العقل اليساري الموهوم أو الفأري الذي يتغذى على أفلام الخيال العلمي والجاسوسية الامريكية، ليفسر العالم على أساسها، دون الحاجة إلى البرهان على صحة تلك الاستنتاجات، فالمؤامرة وعالم الجاسوسية و’الأمر الذي صدر’ كله يقبع في خانة سرية لا يمكن الوصول إليها، مع ذلك نحن بحاجة ماسة للإيمان بها كي نبرر عجزنا وخيبتنا أمام التاريخ والآخر، وربما أمام ذواتنا أيضا.

المثقف اليساري الذي كان يحلم بإعادة صنع التاريخ فاجأه التاريخ متلبسا بالوهم والمقولات الرمادية، فنكص باتجاه إعادة تفسير العالم على ضوء تلك المؤامرة الامريكية وما تصدره من أوامر لتخريب العالم ومنظوماته المستقرة، متجاهلا أنه بذلك يتخلى عن نظرية تغيير العالم ليصبح مدافعا عن استقراره، رافضا الاعتراف بما أدى إليه ذلك الاستقرار من استنقاع سياسي وأيديولوجي ربما يكون وراء خراب البصرة’والكرملين أيضا.

وهي أيضا المؤامرة ذاتها التي يتحدث عنها الإعلام السوري محاولا تصوير كل ما يبث عبر الفضائيات العربية والدولية بأنه مجرد فبركات وألاعيب أنتجت في استوديوهات الجزيرة القطرية، للتعمية على العصابات السلفية التي تقتل في طول البلاد وعرضها، وتروع السكان الآمنين وتهز عرش استقرار أكبر دولة أمنية في المنطقة. لكن أن يلجأ الإعلام إلى تلك البروباغندا شيء وأن يذهب شاعر بقامة سعدي يوسف في هذه اللعبة شيء آخر، فها هو شاعرنا الذي كتب عن ‘حثالة البروليتاريا’ من العمال المنتظرين ‘تحت جدارية فائق حسن’، يرتد على تاريخه الجميل ليقول لنا هازئا بهذه البروليتاريا: ‘الفيسبوك يقود الثورة في بلدان لا يملك الناس فيها أن يشتروا خبزهم اليومي!/ هذا المدقع حتى التلاشي، الأمي، التقي…/ هذا الذي لا يستطيع أن يذوق وجبة ساخنة في اليوم/ هذا الذي يعيش على الأعشاب والشاي وخبز الحكومة المغشوش/ هل يعرف الانترنيت؟/ ومن هؤلاء القادة الفتيان؟/ عيبٌ والله!’

إنه سعدي يوسف الذي انتمى في شعره إلى قضايا الشعوب والناس البسطاء في عراقه الجميل وفي كل العالم، تذهله المصيبة التي حلت بالعراق، لم يكبر بها كالسياب في مطره، بل غرق في الوحل الذي أنتجه الاحتلال الأميركي للعراق، وفي هذا الوحل فقد الشاعر بوصلته الذكية، وحسه النقدي، فلا شيء غير المؤامرة التي أنتجت الخراب، حتى أنه لم يجد في الجواب على مصير الثقافة العراقية بعيد الاحتلال إلا القمع والرقابة التي يمارسها ذلك الاحتلال لتدمير كل معطى إبداعي، مؤكدا أن الثقافة العراقية بذلك تعاني أكبر نكسة في تاريخ العراق لم تعرف مثيلا لها منذ هولاكو! مع أن سؤالي له في تلك المقابلة التي نشرتها ‘القدس العربي’ بعيد الاحتلال، كان يتقصى عن مصير الثقافة العراقية التي توزعت قبلا ما بين مثقفي الداخل وهم قلة وبين مثقفي الخارج الذين توزعوا في كل المنافي، وأعتقد أن أي متابع أمي لنشرات الأخبار يدرك حينها أن الاحتلال الأميركي للعراق ورغم كل سيئاته التي لا تغتفر، أخرج البلد من أحادية الإعلام الرسمي وهيمنة الثقافة الحزبية الأحادية أيضا، وكأني بشاعرنا يؤكد أن عين المحب عن كل عيب كليلة، لكن بعد عكس الاتجاه.

رُهاب الحالة العراقية امتد مع الشاعر سعدي يوسف إلى الربيع العربي، وبشكل خاص في قلعة الصمود والتصدي، هو الذي خبر الحالة الفلسطينية واللبنانية وتداخلاتها مع الحالة السورية، وأشك أنه لم يقرأ لصديقه الراحل محمود درويش قصيدته ‘تل الزعتر’، لدرجة انه لم ير في الحراك السوري إلا الرواية الرسمية عن عصابات سلفية، هذه الرؤيا التي دفعته للسؤال ‘أي ربيع عربي هذا؟’ تدفعه مجددا إلى سرير بروكست الذي اغتال ماركسيته، فها هو يعيد إنتاج ذات الموقف الرمادي للنظرية متجاهلا قوة الحياة التي تحدث بها المعلم الأول، بل نراه يسعى على طريقة الأشاعرة المسلمين إذ يحتكر تفسير المعلم الأول وتعاليمه، فيكتب في ‘القدس العربي’بتاريخ 2012-03-05 تحت عنوان: ‘يا صديقي إلياس خوري: دعْ ماركس وشأنه!’ معترضا على صديقه إلياس خوري، وكلمته التي ألقاها في الاونيسكو لمناسبة منحه جائزة الثقافة، فهو أولا يبخس تلك الجائزة قيمتها المعنوية حين يقول ‘ربّما قُدِّمتْ بمساعٍ من صديقنا وصديق إلياس، السيد إلياس صنبر مندوب فلسطين الداخلة حديثاً إلى المنظمة الدولية التي تتخذ باريس مقرّاً لها’. بل أعتقد أنه يبخس المنظمة الدولية شأنها بالطريقة التي يفسر فيها آلية منح الجائزة اعتمادا على تقدير بقوله ‘ربما’ التي تفتقد اليقين أو المعلومة، إذا لم يذهب الظن بنا إلى كونه يقلل من شأن قبول فلسطين مؤخرا كعضو في الاونيسكو رغم الاعتراض الأميركي – الإسرائيلي الذي وصل حد قطع المساعدات التي تقدمها واشنطن لتلك المنظمة الدولية! وأعترف أنني لم أجد تفسيرا لتجاهل شاعرنا الكبير ذلك الدور الأمريكي في هذا المقام.

لكن الأهم باعتقادي أن سعدي يوسف يبخس كلمة صديقه حقها أساساً حين يقول: ‘ليس في الكلمة (التي يبدو لي أنها مرتجلة) ما يثير الاهتمام’، ونؤكد على صيغة ‘يبدو لي’ التي تفتقد اليقين أو المعلومة أيضاً، لكن الملفت للانتباه أن هذه الكلمة التي ‘ليس فيها ما يثير الاهتمام’، قد أثارت اهتمام شاعرنا الكبير لدرجة دفعته تجشم عناء الرد عليها، كما أثارت استغرابه بنقطة وحيدة هي ‘إقحام ماركس في مستنقع حمص’ فكانت بذلك محور الرد، ذلك أن إلياس خوري ذهب في كلمته المعنونة ‘الثقافة ابنة الحرية’ إلى ربط الثقافة بالواقع الذي هجره سعدي في هجرته صوب الشمال، ليؤكد في كلمته المنشورة في ‘القدس العربي’ بتاريخ 2012-03-02 ‘وأنا لا اطمح أن أكون أكثر من مجرد كلمة تضيف إلى قاموس ثقافتنا فكرة أن يصنع المثقف مرايا جديدة، تسمح للواقع بأن يرى صورته في أفق التغيير’، رابطا هذا التغيير بحدث أول يتعلق بفلسطين، قائلا: ‘لا أجد ما هو أكثر دلالة من أن يتزامن تكريمكم لي مع دخول فلسطين إلى منظمة الاونيسكو كعضو كامل. فنحن نعلم أن علامات الحرية ترتسم أولا في الثقافة، وحرية فلسطين هي جزء من احتمالات الحرية التي تحولت صوتا يهزّ اليوم العالم العربي’. ويتابع إلياس خوري ربط التغيير بنضالات المثقفين العرب من أجل الحرية بقوله: ‘لقد ناضل جيلي طويلا من أجل قيم الحرية والعدالة، وكانت الكلمة التي تواجه السيف هي سلاحنا في مواجهة السلاح. سقط الكثير من الأصدقاء مضرجين بدمائهم، وذهب آخرون إلى المنافي، وعرف البعض ليالي السجن الطويلة. لكننا كنا على وعد الحرية الذي ارتوى بدماء سمير قصير ورفاقه، وانتظرنا هذا الوعد الذي بدأت ملامحه تتجلى في صرخة الحرية التي انطلقت من سيدي ابوزيد ، ووصلت إلى حمص، حيث يقتحم الناس السماء، ويغسلون بدمائهم مياه العاصي، ويعلنون أنهم ينتصرون على الموت بموتهم الذي يصنع حريتنا’، مستعيرا من ماركس صورة اقتحام السماء التي نعت بها رجال كومونة باريس.

هنا مكمن إثارة ‘الشيوعي الأخير’ الذي وجد في تلك الاستعارة تعديا على ممتلكاته النظرية، أو بالأحرى سرقة تلك الصورة من قاموسه الماركسي الذي شكل غطاءً لسرير بروكست وتفسيرات اليساريين من الأشاعرة العرب، فأين كومونة باريس من صمود الناس في بابا عمر، وأين عمال باريس من رجالات حمص، هذه الاستعارات مرفوضة لأنها تضر بالأصل الذي يدعي ملكيته آخر الشيوعيين في تعبير يضمر انقراض السلالة، وقد فعلها إلياس خوري حين اعتبر الثقافة ابنة الحرية، وحين رسم من الدماء التي سالت في بابا عمر مشهدا للشعوب العربية وهي تمزق أغلالها وتستعيد حريتها، وقد قال: ‘الثقافة هي ابنة الحرية ووردتها، لذا لا أجد أمامي في هذا المحفل الثقافي الكبير سوى أن ادعوكم للتضامن مع الدم الذي يراق اليوم في بابا عمرو، وان انحني للمشهد الذي يرتسم امام عيني، مشهد الشعوب العربية وهي تمزق أغلالها، وتستعيد حريتها وتصنع من نسيج ثوراتها أفقاً ثقافياً جديداً’.

هنا يتقدم الحارس في الهيكل ليعيد ترتيب الأمور، ووضع النقاط على الحروف، فيصرخ ‘الشيوعي الأخير’ في وجهنا:

‘أحقٌّ أن المرتزقة الفرنسيين الذين أرسلهم ساركوزي إلى حمص، يتصدّون للسماء؟

هؤلاء، يا إلياس، ليسوا أحفاداً لأبناء الكومونة الذين قال عنهم ماركس إنهم يتصدّون للسماء.

ويا صديقي إلياس:

الجهاديّون في حمص يقاتلون باسم سماءٍ تعرفُها، باسمِ دينٍ للتجارة، والدعارة السياسية.

إنهم لا يتصدّون للسماء، أكيداً.

هم يعتبرون أنفسهم جنودَ الله.

ثم ما معنى أن تنصرَ فلسطين، يا إلياس، وتهلل لاحتلال سوريا؟

أو لسقوطها بيد مسلّحي الخليج والجزيرة؟

أتريد لسوريا أن تمسي، مثل لبنان، محْميّةً فرنسيةً؟

أو أن تكون مستعمرةً، شأن مشيخات الخليج، والعراق؟’

يحق لشاعرنا أن يعترض على الثورة السورية أو يسجل ملاحظات انتقادية عليها، لكن ليس من حقه الحديث عن مرتزقة فرنسيين أرسلهم ساركوزي إلى حمص، لأن الجميع يعرف من الذي يستجلب المرتزقة، وأي مرتزقة كانوا في ليبيا التي يسارع شاعرنا للدفاع عن رئيسها القذافي، ونحن لن نرضى أن تؤول مواقف سعدي يوسف على فرضية شعراء السلاطين التي ذهب البعض إليها، لكننا لن نمنحه الحق في أن يصف مقاتلي حمص بالتجارة والدعارة، وبأنهم يعتبرون أنفسهم جنود الله، فحزب الله يا صديقي يقف في الخندق الذي تدافع عنه، ومطلوب منك قليل من الانسجام مع ذاتك وتاريخك. وليس للمقايضة بين حرية فلسطين وحرية سوريا أي منطق’رابط، فأن يكون لأمريكا ولفرنسا ولكل دول الخليج أجندتها في المنطقة، لا يلغي حق الشعب السوري بالحرية وتوقه الأصيل للعيش بكرامة.

لكن الشيوعي الأخير يصرّ على حقه في الدفاع عن إرثه المنتهك، فيسارع للقول أخيرا:

‘اخترْ، يا صديقي، إلياس خوري، موضع قدميكَ كما تشاء.

لكنْ، أرجوك …

دعْ ماركس وشأنه!’

مع أن صديقنا لو عاد قليلا لملاحظات ماركس حول انتفاضة القوقاز لقرأ عبارة ‘إنهم عشاق للحرية’ دون أن تؤثر في حكم ماركس أي من منطلقاتهم القومية والقبلية أيضا، لأن النظرية رمادية ياعزيزي سعدي يوسف فيما شجرة الحياة تبقى خضراء وفق مقولة ماركس المعلم العصي على سرير كل الماركسيين وكل الأحزاب الشيوعية التي تجد نفسها وللأسف الشديد في صف جلادي الشعوب وضد الضحية ‘في بلدان لا يملك الناس فيها أن يشتروا خبزهم اليومي!/ هذا المدقع حتى التلاشي، الأمي، التقي…/ هذا الذي لا يستطيع أن يذوق وجبة ساخنة في اليوم./ هذا الذي يعيش على الأعشاب والشاي وخبز الحكومة المغشوش’ ألا يحق له أن ينتفض على حكوماته وحكامه حتى لو لم يمتلك كمبيوتر ولم يفتح صفحة له على الفيس بوك!؟

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى