صفحات العالم

بين شاه طهران وشاه دمشق


محمد الرميحي

الحيرة التي تنتاب البعض، وأنا منهم، كيف يستطيع متخذ القرار الإيراني تبرير ما يحدث في سوريا أمام شعبه من قتل واستهتار بالأرواح! الإيرانيون، وخاصة أبناء المدن والمثقفين منهم وقادة السياسة والرأي، ليسوا بهذه السذاجة حتى لا تستحضر ذاكرتهم ما حدث قبل نيف وثلاثين عاما في مدن إيران، ومقارنتها بما يحدث اليوم في المدن السورية. صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن الصحيح أيضا أن الشعوب تعيد تجارب بعضها دون أن يتعظ أحد.

خلال سنة بين يناير (كانون الثاني) عام 1978 ويناير (كانون الثاني) 1979 قتل في مظاهرات طهران والمدن الإيرانية الأخرى جراء الاحتجاجات الشعبية على حكم الشاه ما عدده أكثر قليلا من مائتي شخص، وقتها – أي قبل ثلاثة عقود – انتفض العالم ضد تلك الوحشية، وأنا هنا قد عدت من خلال الإحصاءات شبه الرسمية إلى من قتل جراء الوحشية العسكرية الإيرانية، لست معنيا بمن قتل في المصادمات، ومنها أربعمائة شخص من الشيعة العرب في عبدان في سينما روكسي في شهر أغسطس (آب) 1978، حسب قناعاتي، فإن قتل شخص دون جريرة أو مائة شخص سيان فهو عمل إجرامي واحد يتساوى في فيه القاتل مع المجرم. إنما العودة اليوم إلى الأرقام، فإن نسبة من قتل في سوريا في العام الماضي إلى من قتل في إيران تبلغ 1 إلى 10 على الأقل، حسب الإحصاءات المؤكدة التي جاءت بها لجان التحقيق بعد نجاح الثورة الإيرانية. صحيح أن الثورة بعد ذلك قتلت في الإعدامات (الرسمية) الآلاف التي علقت على أعواد المشانق أو بثلة الإعدام بالرصاص. إلا أن ما أشير إليه هو أن سجل الرئيس السوري في «حقوق الإنسان» أكثر سوادا – نسبيا – بمراحل من سجل محمد رضا شاه، وهو أمر يعرفه جيدا القابضون على السلطة اليوم في طهران، ومع ذلك فإن تأييدهم لا يلين لمثل هذا الاختراق الشائن لحقوق الإنسان السوري، وقتها اختار الشاه أن يوقف آلة القتل ويخرج من البلد، في وقت لم تتطور فيه وسائل الاتصال كمثل يومنا هذا الذي تصفعنا فيه يوميا جثث القتلى السوريين ونشاط حفاري القبور التي تتسع من أجل مزيد من الجثث.

المقارنة لا تنتهي هنا، فقد ثارت الشعوب الإيرانية على بلاد يحكمها حزب واحد هو راستخير وبالعربية البعث، ولا يرى من يحكم إيران الآن، غضاضة، أن تحكم سوريا بحزب واحد راستخيري أيضا أي بعثي، شعب تعددي يريد الحرية في وقت تمتعت فيه بها شعوب كثيرة، في الوقت نفسه لا يتبين للمبعوثين الإيرانيين الذي يغشون دمشق في الأشهر الأخيرة أن هناك «هدوءا ساخطا» في المدن السورية، منعه من السخط الحقيقي والعلني قنابل ورصاص القوات الموالية للنظام لا غير!

هل اختلفت الأقيسة لدى كبار النظام الإيراني ليروا أن ملكا قد تخلى عن حكمه لأنه يرغب ألا يقتل المزيد من شعبه، ويروا في نفس الوقت جمهوريا من المفروض أنه أتى إلى الحكم من خلال انتخاب شعبي، تتخلى عنه الكتلة الشعبية الأكبر، ومع ذلك يريد إخضاعهم بالنار والحديد والقتل لحكم قد ملوه!

المحطة الأخيرة للأماني السورية أن يحصل الشعب على حرية تتيح له الحديث بما يعتقده والحكم بمن يختاره، وتأمين عيشه، وأن يكون له مؤسسات أمنية همها الأول والأخير الحفاظ على أرواح الشعب وممتلكاته، لا كل همها تأمين الحاكم وتكميم أفواه معارضيه، وهي أمان ليست خارجة عن السياق لا الإقليمي ولا الدولي، كما أنها ليست بعيدة عن رغبة الجماهير الإيرانية في تلك الأيام الخوالي التي خرج فيها الشارع الإيراني في عامي 1978 و1979 ليطالب بنفس مطالب السوريين اليوم. المؤسف أن الظاهر الإيراني اليوم على مسافة كبيرة من الباطن، فلا هو بمضار الدماء التي تراق يوميا ويضج لها العالم ما دام يرى أن النظام القائم يحقق له تبعية غير مسبوقة ويتيح له الإطلالة على البحر المتوسط بأقل الأثمان حتى على حساب نهر من الدماء السورية!

الوطن مودات ولقد سقطت المودة بين الحاكم والمحكوم في سوريا، فتلك الفجوة التي تتسع يوما بعد يوم، لن يملأها كلام معسول أو وعود لا تتحقق، لم يبق من الوطن السوري ما يتيح أو يبيح عقلا بقاء النظام القائم بعد أكثر من عام من الذبح والتصفية والملاحقة والتسويف والكذب. لقد أنهك الاقتصاد السوري وتفرق معظم الأصدقاء القدماء وتبرأ الأقربون، وانتشرت قوائم المقاطعة لشخوص القيادة في سوريا عالميا، كمثل انتشار اللحود في الأرض السورية للشهداء، في هذا الجو من الأفضل أن يفكر الجميع في البديل، فشاه إيران كان أرحم نسبيا من شاه دمشق الذي ما زال يختار مشترياته من المخازن الكبرى وكأن شيئا لم يحدث، لقد حدث أيها الشاه الجديد ولا مفر من الاعتراف بأن ما حدث عميق ومهلك ولا عودة بعده إلى ما كان بل إلى ما سوف يكون! بقي تفسير الموقف الإيراني، فهو إما هجرة دون رجعة عما دافع عنه شهداء الثورة الإيرانية في الأيام الخوالي الذين طالبوا بالحرية، وبذلك إنتاج نفس النظام الشاهنشاهي في ثياب جديدة أو هو شيء من الانتهازية السياسية التي لا يهمها كم من الجثث تلقى في الشوارع السورية ما دامت مصالحها مؤمنة، وكلاهما بعد عن ما يتوق إليه المواطن الإيراني!

آخر الكلام:

الحديث المتطاير من بعض الإخوة السوريين في المحطات الفضائية ليس هذا وقته أو مكانه، فالنقد الموجه للمعارضة يصب في النهاية – مهما حسنت النيات – في خانة النظام، خاصة إن كان غير موضوعي.. حلوا خلافاتكم بعد تحرير الوطن وعلى أرضه لا في الفضائيات أمام مرأى ومسمع العدو والصاحب!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى