بين ماء السلطة وحجار الدولة
ماجد الشيخ
لن نكون معنيين بعد اليوم، باستبدال سلطة بسلطة، نظام بنظام، قدر ما نحن أحوج ما نكون، ووفق مفاهيم الضرورات والحاجات الثقافية التاريخية؛ بإقامة حكم الدولة؛ الدولة التي صودرت، استملكت؛ أو سُرقت وهُمّشت من قبل «أرباب» السلطة و«أصحاب» القوة والغلبة والإكراه، حتى باتت السلطة أمنية بامتياز؛ وحين هيمنت على الاقتصاد الوطني، جعلته ملكيتها الخاصة، وحين هيمنت على الدولة استملكت المجتمع والوطن؛ فأصبح كل ما امتلكت واستملكت في خدمة السلطة الأمنية البوليسية. أما هذه الأخيرة فوضعت في خدمة «أرباب» هيمنوا على الدولة، فصارت صنيعتهم، وسيطروا على الاقتصاد فصار ملكيتهم، وامتهنوا (من فعل الإهانة) الوطن والمجتمع، حتى صار الإنسان في هذه البلاد المسماة أوطاناً، عبداً للذي «غلب»، وعبداً لأصحاب العرض والطلب، الذين حوّلوا أوطاننا إلى أسواق نخاسة يُباع فيها الإنسان ويُشترى.
هذا هو حالنا في هذه البلاد التي هيمنت فيها كذلك قوة استعمارية، يدعمها الاقتصاد العالمي والرأسمال الدولي الرمزي والفعلي لـ«المجتمع الدولي»، كما ويدعمها التديّن التوراتي، الخرافي «المُصادق» عليه والمتبوع من قبل تديّن «مشيخي» و«كهنوتي»، كان قد أمسى أكثر مزايدة وإيغالا في الخرافة، حين لجأ إلى المصادقة على أساطيرها وخرافاتها. هذه الأساطير أسست لوجود لها في التاريخ وفي الجغرافيا، وها هي تمتد وتستطيل وتتمدّد حتى قضمت وتقضم من تاريخنا ومن جغرافيتنا الكثير، وأكثر مما هي فلسطين الأرض والوطن والشعب، حتى بتنا تلك «الأندلس الجديدة»، نتغنى بها من دون أن نمتلك القدرة على حمايتها، لننسَ أو لنتناسَ أن ليس من حقنا أن يكون لنا تلك «الأندلس القديمة» التي سيطرنا عليها بالغلبة والإكراه الديني، بينما تواصل «عقدتنا الأندلسية» فعلها في التاريخ وفي الجغرافيا، حين لم نستطع أن نحميهما، فما كان من الصهيونية إلا أن سيطرت على بلادنا؛ كـ«أندلس جديدة» بالغلبة والإكراه الديني وغير الديني كذلك.
من هنا ضرورة أن نستمد قوتنا الجديدة من تحويل غلبتنا و«غُلبنا» إلى قوة بناءة، نستعيد من خلالها كشعوب مقهورة ومسلوبة في هذه البلاد؛ دولة تحكم فينا ونحتكم، وتحتكم إليها حتى السلطة، كل سلطة مكابرة، أهانت كرامات الناس وصادرت حرياتهم باسم هذه أو تلك من القيم الزائفة؛ دينية كانت أو دنيوية، سياسية أو ثقافية؛ تستمد من الماضي أيديولوجياها القاتلة للهوية.
لهذا لا ترنو ثورات شعوبنا في هذه البلاد، نحو استبدال السلطة القائمة بسلطة مماثلة أخرى، تتراكب من أوجه «جديدة» هي مرآة للقديمة، كي تماري في سلوكها الخارج عن نواظم العلاقة الإنسانية، فضلا عن نواظم العلاقة المواطنية. لم نجرب هذه الأخيرة بعد، ولم نقترب من تلك الإنسانية، الدولة المدنية العلمانية بدستورها وقوانينها وعقودها الاجتماعية والسياسية، وحدها الضمانة التي تهيئ لقانون المواطنة، لحقوقها الكاملة، لكل مواطنيها، من دون محاصصات، ومن دون إكراهات الخوف والصمت، ومن دون الخوض في العدد أو في النوع أو في الجنس أو في اللون، أو في الحديث عن «عرب عاربة» أصيلة و«عرب مستعربة» (ذمية)!.
المواطنة هي الكل، وليست التي تتكون من جزئيات وتجزيئات السلطة التي ترنو نحو تأبيد حكمها على الجميع؛ بتقسيماتها الجائرة، وتذريراتها المفتعلة، وتفتيتاتها العامدة إلى التقليل من شأن الكل الأكثري والأقلوي، والنفخ في رماد «الأقلية النخبوية» التي «استحقت» أو «تستحق» أن نسيّدها الحكم والسلطة، حتى وهي تسحق في سياق استبدادها السلطوي؛ كل مشروع لإقامة الأسس الكفيلة ببزوغ فجر الدولة؛ كدولة لكل مواطنيها، لا كدولة استعمالية يقوم عبيد المفاهيم الأمنية بهندستها، وبرمجتها واستخدامها مطية لأقلية نخبوية، لم تجد من يردها إلى حيث تقف حدود السلطات والدول.
هكذا كانت السلطة في بلادنا، تؤسس لسلطنات استملاكية خاصة بالعائلة أو الأسرة أو القبيلة أو العشيرة باسم الحزب والطائفة والمذهب، ولممالك الأسر الحاكمة باسم أي شيء، إلاّ أن تكون السلطة الحاكمة خطوة نحو خدمة للدولة وللشعب وللمجتمع وللوطن، لقد صادرت السلطة الطغيانية كل المفاهيم وتلاعبت بها، وصيّرتها رهينة لغلبتها وإكراهاتها، حتى باتت قضايا الإصلاح والتغيير والديموقراطية، كما قضايا التنوير والحداثة؛ عصيّة أو مستعصية على العيش في فضاءات السلطة التي تتشدق بها، وهي في كل الأحوال لن يكون بالإمكان تأسيسها إلاّ توازيا في فضاءات دولة، تتأسس على أنقاض سلطة الطغيان الاستبدادية، وعلى حساب «دولتها الأمنية» التي لا يمكنها مطلقا أن تتحول من عصا قمعية، إلى سلطة خليقة بقيادة تحوّل تاريخي نحو الديموقراطية.. تلك مهمة مواطنين أحرار، تتشكل أوطاننا اليوم ويُعاد إنتاجها وتأسيسها، على وقع معاناتهم وصيحاتهم وشعاراتهم وصرخاتهم وتضحياتهم من أجل الحرية المُصادرة والكرامة المهدورة، ومن أجل استعادة إنسانية الإنسان، ومواطنية المواطن في دولة لا تتشخصن، أو يجري خصخصتها لمصلحة الشخص أو الأسرة أو العائلة أو القبيلة أو الطائفة، ومن أجل دولنة السلطة لا سلطنة الدولة، وكي لا تتحول السلطة أو الدولة إلى استبداد مقيم أو مستديم، يطغى على كل أسلوب في الحكم لم نجرّبه بعد.
نحن في هذه البلاد لم نجرّب حكم الدولة بعد، وآن لنا أن نخوض غمار التجربة حتى الرمق الأخير من نهاية روح الاستبداد الطغياني، وهي تقبض وتتلاشى مثل غبار السنين، فلا يبقى في الوادي غير حجاره. ولذلك فإن علمانية الدولة ومدنيتها هي الحل لكل ذاك الفوات التاريخي الذي تعاني منه مجتمعاتنا.
السفير