تأثيرات الثورة السورية على المخيمات الفلسطينية
ماجد كيالي
لم يكن يخطر في بال أيّ من العائلات الفلسطينية التي تقطن حارة “الجاعونة” في مخيم اليرموك، أن مائدة الإفطار التي يتجمّعون حولها بانتظار أذان المغرب، ستتحوّل إلى كارثة يذهب ضحيتها 21 شخصاً منهم، مع عشرات الجرحى.
وفي الواقع فإن قذائف الهاون التي دكّت بشكل غادر هذا الحي الآمن، لم تكن مفاجئة تماماً، لاسيما بعدما بات المخيم -وجواره- مستباحاً من قبل قوات النظام وعصابات “الشبيحة”، والقناصة الذين يعتلون بعض البنايات العالية ويأخذون أرواح المارة بدم بارد، بين وقت وآخر. وكانت الذروة مع مصرع 11 فلسطينياً قضوا برصاص الأمن السوري (يوم 13/7)، إبان خروجهم في مظاهرة سلمية عادية استنكارا للمجازر التي تحدث في سوريا.
كانت المخيمات الفلسطينية قد تعمّدت عدم الدخول على خط الثورة السورية منذ اندلاعها قبل 16 شهراً، لأسباب عديدة: أولها أن الفلسطينيين اللاجئين لا يشكّلون قوة بشرية كبيرة (3% من عدد السكان)، لاسيما أنهم يقطنون في 12 مخيماً تتوزع على عديد من المدن. وثانيها ينبع من إدراكهم لمكانتهم كلاجئين، أي باعتبارهم خارج المواطنة السورية. وثالثها يتعلق بعدم انخراطهم في الحياة السياسية السورية وبقائهم على هامشها طوال 64 عاماً. ورابعها ناجم عن خبرتهم التاريخية المستمدة من التجارب المأساوية لأقرانهم اللاجئين في الأردن ولبنان والعراق والكويت، والتي تثقل عليهم وتنمي مشاعر الحذر عندهم من أي مداخلات قد تهدد وجودهم واستقرارهم.
وخامسها يتأتّى من غياب مرجعية وطنية لهم، مع حالة الانقسام الحاصلة في حركتهم الوطنية، وهو وضع ينمّي عندهم سلوكيات سلبية أو انكفائية في التعاطي مع أي حراكات سياسية. وسادسها وهو نتاج رؤية مفادها أن النظام السوري استهلك القضية الفلسطينية في تثبيت شرعيته وتبرير سياساته لا أكثر، وأن كل حديثه عن اعتبارها القضية المركزية للأمة العربية إنما هي مجرد ادعاءات.
والجدير ذكره هنا أن مكوّنات الثورة السورية عبّرت عن تفهّمها لهذا الواقع الخاص للمخيمات، إذ لم يصدر عن أي منها أي مطالبات خاصّة من الفلسطينيين، بل إنها فوق ذلك تحاشت نقل فعالياتها إليها (المظاهرات والاعتصامات والتجمعات). مثال ذلك أن المظاهرات التي تنظم في أحياء الحجر الأسود والتقدم والتضامن المجاورة لمخيم اليرموك، كانت تتوقف عند حدود المخيم.
لكن ما الذي حصل؟ وكيف باتت المخيمات في خضم الثورة السورية؟ وما هي القصة الحقيقية لصلة المخيمات بهذه الثورة؟ في الإجابة على هذه الأسئلة يجب أن نميّز بين مشاركة المخيمات كمخيمات -أي كحالة جمعية- في الثورة السورية، وبين مشاركة الفلسطينيين كأفراد فيها، بناء على خياراتهم الشخصية والخاصة، كما ينبغي أيضاً أن نميّز خصوصية كل مخيم عن آخر.
فبالنسبة إلى المشاركة الجمعية يمكننا بسهولة ملاحظة أن مخيمات اللاجئين في المدن الساخنة اندمجت بالحراكات الجارية في جوارها رغمًا عنها، أي بحكم الواقع المحيط بها. وهذا حصل في المخيمات الموجودة في مدن درعا واللاذقية وحمص وحماة وفي وقت مبكر.
وبالمقابل فإن مخيمات دمشق وحلب تطبّعت بطابع هاتين المدينتين اللتين ظلّت الحراكات الثورية فيهما تسير بصعوبة بالغة وبطريقة بطيئة. ومعنى ذلك أن ما يصحّ على الأحياء الشعبية في هاتين المدينتين يصحّ على المخيمات فيها، دون أن يلغي ذلك أن ثمة فلسطينيين في مخيمات دمشق وحلب -كما في غيرهما- أسهموا في الثورة بطريقة أو بأخرى، وهو أمر سنعود إليه لاحقاً.
أما بشأن كيفية دخول المخيمات على خط الثورة السورية، فثمة عدة عوامل أسهمت في ذلك، أهمها:
أولا- أن الحل الأمني الذي تبناه النظام السوري لقمع الثورة لم يميز بين المخيمات وجوارها، وهكذا فقد استهدف القصف الصاروخي المدمر مخيمات اللاجئين في اللاذقية ودرعا وحمص (بدرجة أقل)، وهو ما حصل مؤخرا في مخيم اليرموك بدمشق، تماماً مثلما استهدف المناطق السورية الثائرة المجاورة لها. وفضلا عن ذلك لم تخل المخيمات من محاولات النظام إرهابها بعصابات الشبيحة، التي حاولت فرض وجودها في أكثر من مخيم بهدف زرع الفتن فيه، وأيضا بينه وبين جواره السوري.
ثانياً- ما كان بإمكان الفلسطينيين أن يكونوا سلبيين إزاء معاناة جوارهم السوري، فهذه عشرة عمر، وثمة عيش مشترك، مع كل ما يتضمن ذلك من نشوء أحاسيس وإدراكات مشتركة، من الشعور بالحرمان والامتهان والقهر والغضب. وقد تفاقم ذلك مع رؤية الفلسطينيين لهذا التدمير الأعمى والقتل الوحشي الذي يتعرض له السوريون والمناطق التي يقطنون فيها.
ومن هنا لم يكن بإمكان الفلسطينيين اللاجئين التنكّر لكل ما يعانيه إخوانهم، فحاولوا بكل إمكانياتهم التخفيف عنهم، عبر تحويل المخيمات إلى أماكن آمنة لإيواء أهالي المناطق المنكوبة، وقدموا لهم ما يمكن من إغاثة طبية وتموينية. وبديهي أن هذه التفاعلات عمقت المشاعر المشتركة التي صيّرت من الشعبين شعبا واحدا، وهو ما تم تلخيصه في شعار “واحد واحد واحد.. سوري وفلسطيني واحد”.
ثالثاً- لقد اضطلعت “الاستطالات” الفلسطينية التابعة للنظام السوري بدور سلبي في المخيمات، من خلال بثّ الإشاعات، واختلاق المشكلات، واستغلال أحداث مريبة وغامضة، في محاولتها قلب المزاج الفلسطيني من مناصر للثورة إلى معادٍ لها. وقد ترافق كل ذلك مع محاولة توزيع السلاح على الشباب الموالين في بعض المخيمات، ومع إطلاق بعض قادة الفصائل -المرتبطة بالنظام- لتصريحات غير مسؤولة، مفادها اعتبار التحالف مع النظام السوري بمثابة تحالف مصيري، مع نظرة معادية لثورة السوريين، باعتبارها مجرد مؤامرة، وتعبيراً عن تدخلات خارجية. وعلى العموم فإن مثل هذه المواقف والسلوكيات أنتجت ردة فعل عكسية، إذ إنها حرّضت الشباب الفلسطينيين وشجّعتهم على تطوير تفاعلاتهم مع الثورة السورية.
ويستنتج من ذلك أن تفاعل المخيمات مع الثورة السورية لم يكن واحداً، وأن ثمة عوامل معينة أسهمت في تحديد ذلك، فبينما باتت مخيمات درعا واللاذقية وحمص في معمعان الثورة السورية، ظلت مخيمات في منأى عن ذلك بسبب بعدها عن مراكز الحراكات الثورية، وهذا ينطبق على مخيمي اللاجئين في حلب (النيرب وحندرات) وعلى مخيمات مدينة دمشق (السبينة، ذا النون، خان الشيح، جرمانا، الست زينب)، في حين أن مخيم اليرموك اختبر الحالتين طوال الفترة الماضية، والى منتصف تموز/يوليو الماضي، إذ بات منذ تلك الفترة واحداً من المناطق الساخنة في خريطة الثورة السورية، بحكم جواره لأحياء التقدم والتضامن ويلدا والحجر الأسود.
أما على الصعيد الفردي، فبغض النظر عن درجة صلة هذا المخيم أو ذاك بالثورة السورية، فثمة شباب فلسطينيون من كل المخيمات وجدوا في الثورة السورية ضالتهم للتعبير عن ذاتهم، واعتبروها بمثابة فرصة سانحة لهم لإثبات رؤيتهم عن وحدة المصير المشترك بين الفلسطينيين والسوريين، كما وجدوا فيها مجالا للتعبير عن محاكاتهم للشباب العربي الذي فجر ثورات “الربيع العربي”.
ومن وجهة نظر هؤلاء فإنه لا حياد في معركة الحرية التي يخوضها أقرانهم من الشباب السوريين، الذين عاشوا معهم ورافقوهم في المدارس والجامعات وفي أماكن العمل، وشاركوهم الهموم والأحلام كما الآمال والآمال.
إذن.. في معمعان الثورة السورية ثمة فلسطينيون من كل المخيمات انخرطوا في كل فعاليات الثورة السورية -المدنية والسلمية- التي كانت تجري خارج المخيمات، في المظاهرات والاعتصامات والتجمعات، وفي المعركة على الرأي العام، وفي العمل الإغاثي.
وبديهي أنه في غضون ذلك ثمة منهم من استشهد ومن اعتقل ومن عذّب ومن اختطف، بحكم ميوله وعواطفه السياسية، مثلهم مثل الشباب السوريين، حتى أن بعض مواقع الثورة السورية التي ترصد حجم الخسائر البشرية، تفيد باستشهاد نحو 180 من الفلسطينيين -في المخيمات وخارجها، منذ اندلاع الثورة السورية وحتى الآن.
طبعاً لابد لنا هنا من تفحّص مواقف الكيانات السياسية الفلسطينية العاملة في سوريا، والتي بدت حائرة ومترددة في الموقف الذي ينبغي اتخاذه. فهذه القيادة الرسمية -وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح- مثلاً، التي اتّخذت موقفاً حذراً وبارداً من ثورات تونس ومصر واليمن وليبيا، تماهياً منها مع النظام الرسمي العربي، وبالنظر إلى التجارب المريرة السابقة، اتخذت الأمر ذاته بالنسبة إلى الثورة في سوريا رغم العلاقة الفاترة بينها وبين النظام فيها، بسبب مناهضته لسياساتها ودعمه معارضتها، ورغم المزاج “الفتحاوي” المعروف بتبرّمه من النظام السوري. وقد وصل الأمر بهذه القيادة حد إدانة المجزرة الحاصلة في مخيم اليرموك، دون تحديد هوية مرتكب المجزرة.
أما فصائل “اليسار” فلم يكن موقفها أحسن حالاً رغم أنها تتحدّث بلغة مزدوجة، بمسايرتها النظام في اعتبار ما يجري مجرد مؤامرة وتدخلات خارجية حيناً، وبمسايرتها المطالب الشعبية المتعلقة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية حيناً آخر. ولعل حركة “حماس” كانت الفصيل الأكثر تأثّراً وتفاعلاً إزاء ما يجري في سوريا، رغم أن سياساتها في البداية اتسمت بالتردد، إذ أيّدت ثورات “الربيع العربي”، بخاصّةٍ مع رؤيتها لصعود التيارات الإسلامية في تلك الثورات، لكنها بدت حائرة إزاء الثورة السورية، وإن حسمت أمرها بعد حين بإخراج قيادييها، وبنقل مقرات قيادتها من دمشق إلى القاهرة وقطر، بطريقة هادئة.
يبقى دور الفصائل الفلسطينية الموجودة حصراً في سوريا، فهذه وجدت نفسها في مواجهة تحدٍ كبير إزاء احتمال تغيّر الأوضاع في هذا البلد، بواقع معارضتها قيادة المنظمة والسلطة، وبحكم أنها تدين بوجودها وبمكانتها وحتى بشرعيتها للنظام السوري. وربما أن هذا الوضع نمّى عند بعض هذه الفصائل قناعة مفادها أن مصيرها بات وثيق الصلة بمصير النظام، ما يفسّر المواقف والسلوكيات المتوتّرة التي باتت تعتمدها، وضمن ذلك محاولاتها إقحام المخيمات في الشأن السوري، بطريقة أو بأخرى.
وبديهي أن ذلك انعكس سلبا على وضع المخيمات التي عانت من التوتر على خلفية ذلك، وعلى خلفية محاولات هذه الفصائل إثارة الفتن بين بعض المخيمات وجوارها السوري، ومحاولاتها تكوين جماعات مسلحة في المخيمات ذاتها بدعوى الحماية الذاتية.
على ذلك يتبيّن أن الموقف الفلسطيني الرسمي مما يجري في سوريا موقف جبان من الناحية السياسية، وتفسير ذلك يكمن في أن القيادة الرسمية الفلسطينية -وبقية الفصائل- باتت بمثابة نظام من الأنظمة، وأنها تشعر بأن رياح “الربيع العربي” لابد أن تأخذها في طريقها آجلا أم عاجلا، وهو ما يفسر موقفها الحائر، علما بأنه ليس مطلوبا منها أي شيء على الصعيد العملي، عدا موقف أخلاقي وموقف سياسي إزاء مناصرة الشعب السوري في طلبه للحرية.
وقصارى القول، فإن الضحايا يتعاطفون مع الضحايا الذين يتوقون إلى الحرية والكرامة والعدالة، وهذه هي -على الأغلب- حال اللاجئين الفلسطينيين مع السوريين. وبالتأكيد فإن الفلسطينيين في إدراكهم العفوي هذا، يدركون أن ما هو جيد للسوريين لابد أن يكون جيدا لهم، وأن قضية الحرية لا تتجزأ، وأن قيام دولة المواطنين ودولة المؤسسات والقانون التي تصون الحريات والكرامات في سوريا، ستكون أفضل لهم، على مستوى شؤونهم المعيشية، وعلى مستوى تمكينهم من العمل من أجل استعادة حقوقهم الوطنية.
الجزيرة نت