صفحات الثقافة

تأملات جادة في زنود الست/ غطفان غنوم

 

تشغلني الآن قضية ملحة نظراً لغلاء المعدات السينمائية، وعجزي عن شراء أي قطعة منها لمساعدة نفسي على البدء بتصوير فيلم وثائقي، يتناول قضية الشباب العربي اللاجئ للدول الأوروبية “الكافرة” ـ كما يسميها الكثيرون منهم ـ عن طريق التهريب، خاصة بعد اندلاع أحداث الربيع العربي.

القضية ببساطة تنحصر في رغبتي بتصنيع القطع بنفسي، وبالاعتماد على زنودي التي لطالما قال والدي عنها: أريد لك أن تحظى بزنود “عنترة” لا بزنود “الست”.

أما عن عنترة فقد عرفت لاحقاً أنه الشاعر العربي الشجاع، صاحب المعلقة ذات المطلع: “هل غادر الشعراء من متردم/ أم هل عرفت الدار بعد توهم؟”، الذي عرفتُ أنه مات “كافراً”، ولم يلحق الإسلام كما أخبرني مدرّس مادة التاريخ الذي يكرهه لذلك السبب، ثم قرأت، لاحقاً أيضاً، أن النبي محمد (ص) تمنى لو أنه رآه لشدة إعجابه بشجاعته.

أما عن “زنود الست” فهي عبارة عن حلويات عربية تقدّم باردة للضيوف، ولكن لم يجبني أحد عن هوية الست صاحبة الزنود الجميلة التي نسبت إليها تلك الحلويات الطيبة. ربما تكون أم علي، زوجة الملك المملوكي عز الدين أيبك، فهي أول من أضافت للرز بالحليب حبوب الزبيب، وذلك بعد مقتل ضرّتها شجرة الدر على يد الجواري في الحمام. ولهذا سمّي الرز بالحليب في مصر بـ”أم علي”.

بين “زنود عنترة” و”زنود الست” لا بد لأي شاب يعتز بنفسه أن يختار الأولى، خاصة وأنني قد سئمتُ بعد مرور 35 سنة من عمري على شراء كل وأي شيء كالعاجزين. فتساءلتُ بيني وبين نفسي هل “كوجلو كيراتا”، الياباني مخترع أكبر روبوت، أحسن مني؟ وأجبتها بصوت مسموع: “كوجولو ليس بأحسن مني أبداً”، وذكّرتها بأنه من اليابان “الكافرة”، كما وضّح لنا مدرّس التاريخ نفسه بعد أن عرّفنا إلى قصة هيروشيما والقنبلة النووية التي ألقيت عليها.

المخيلة فقط هي ما ينقصني، وسأثبت ذلك للعالم كله، ولي أسوة حسنة بجدّي أبي القاسم عباس بن فرناس بن فرداس الذي ضحى بحياته في سبيل أن يطير، فطارت روحه على مرأى من الناس. لكن قسماً من القمر سمّي باسمه حتى الآن تكريماً له ويعرف بـ”ابن فرناس لونر كورتر”.

المشكلة الوحيدة، بالنسبة لي، في الاحتذاء به أن بعض الشيوخ في زمنه اعتبره “كافراً” بسبب اختراعاته، وحوكم علناً ثم بُرّئ، واختفت المشكلة لتعاود الظهور بعد موته، حين اعتبره بعضهم منتحراً، لا شهيداً في سبيل العلم. ولم ينفعه بعد موته لا الساعة المائية التي اخترعها، ولا النظارات الطبية التي صنعها، ولا الزجاج الشفاف الذي أوجده من الحجارة، ولا براعته في الفلك والكيمياء، ولا حتى افتتاح جسر باسمه في قرطبة عام 2011 على نهر الوادي الكبير، وفي منتصفه تمثال له فيه جناحان يمتدان إلى نهايتي الجسر، وهو من تصميم المهندس الإسباني الإفرنجي “الكافر” خوسيه لويس مانثاناريس خابون.

لكن لا بد من الاعتماد على زنودي، دون التأسّي بأحد. سيبدو ذلك في بادئ الأمر صعباً لكنني سأستفيد من الإنترنت في تعلّم السبل اللازمة. ولذا لجأت إلى صديقي الحاج “يوتيوب”، كما يحلو لصديق لي تسميته، وطلبت مساعدته في تزويدي بالمعلومات اللازمة لي، ولكن ما إن كتبت كلمة “كيف” في محرك البحث اليوتيوبي، وكنت أريد إتمام السؤال على هذا النحو “كيف نصنع الأدوات السينمائية يدوياً”، حتى انهالت الأسئلة المتوقعة لما أريد البحث عنه، وبسرعة لم تتح لي إلا أن أتأمل مشدوهاً، علماً أن هذه الأسئلة تقترح عادة بناء على كثرة طالبي الإجابة عنها، بينهم وبين أنفسهم وبين “يوتيوب” الفضيحة، وهي على التوالي:

كيف تحمل المرأة من الرجل؟

كيف يتم الاتصال الجنسي بالفيديو؟

كيفية اختراق حساب الفيسبوك بدون برامج؟

كيف تجعل الفتاة تحبك بجنون؟

كيم كارديشان..

تأملت الأسئلة بهدوء، واحمرّت شاشتي خجلاً، ثم احمرّت الطاولة والجدران، ثم احمرّت الحديقة والشارع والحارة، ثم ملأ اللون الأحمر المدينة كلها.

تساءلت بيني وبين نفسي: “هل هذه حقاً أهم الأسئلة الملحة على الشباب العربي غير الكافر؟ وأجبتها بصوتٍ غير مسموع هذه المرة، لأن الخجل ربط لساني: لا أحد يعرف اللغة العربية ليطلب بها هذه المعلومات أكثر من العرب أنفسهم.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى