تأملات في الفن الاسلامي
أهداف سويف
إناء من الخزف الأبيض السمني على قاعدة من الجرانيت، مهيب في بساطته. الخطوط الزرقاء الممتدة من الحافة اليمنى الى المركز تقارب اليابانية في الشكل وقلة الزخرف، إنها كتابة عربية من بغداد القرن الثالث الهجري: ‘ما عُمِل صَلُح’.
وراءه على الجدار، معلَّقة كبرة. أربعة أمتار في مترين ونصف. جميلة. الأشكال الهندسية فيها تُحفُّ بزخارف من الزهور والنباتات، وحول حوافها تدور الجملة: ‘لا غالب إلا الله’ ـ شعار آخر ملوك العرب في الأندلس ـ باعثة الحزن في نفوسنا حتى اليوم.
وفي إحدى تلك المفارقات الدالة، أجد السائق الذي أتى بي الى هنا ـ وهو فيلبيني ـ أجد أن اسمه، الذي سألته عنه وأنا أنزل من السيارة، ‘إدجار بوباديليو’. أتأمل المُعلقة وأحاول أن أستخلص علاقة ما بين السيد ‘بوباديليو’، المتحفظ، المهندم، وسميّه المأساوي: أبو عبد الله محمد الثاني عشر، الذي هُزم أمام ‘فرديناند’ ملك الأراغون و’إيزابيلا’ ملكة كاستيل عام 897 هـ (1492م) فقُسم له أن يُخلَّد في التاريخ باعتباره الملك الذي أضاع غرناطة، آخر ممالك العرب في الأندلس، غادر أبو عبد الله قلعته الحمراء الحبيبة وأزاميل عماله تنقش في حوائطها: ‘لا غالب إلا الله لا غالب إلا الله لا غالب…’.
وبعد عشر سنوات رجع الحكام الجدد عن الشروط التي على أساسها استسلمت المدينة، وصار على أهل غرناطة من مسلمين ويهود أن يتحولوا الى المسيحية أو يغادروا. تناثر المواطنون. اختبأ بعضهم، ورحل بعضهم، ورحلت معهم أغراضهم من سجاد وقناديل ومخطوطات وأوانٍ وأقلام، وكل ما نَعرِفه اليوم على أنه من الفن الإسلامي. بعض هذه القطع موجودة هنا، مشدودة على الحائط، أو متخذة أوضاعاً في صناديق عرض من الزجاج المصقول اللامع الذي يخادع بصري.
في هذه الزيارة الأولى جلست أرقب كل قطعة أثرية تهجر صندوقها، تنتشر انعكاساتها على زجاج الصناديق الأخرى، تُغيّر من لونها ووضعها: فالحصان النافورة (أم هو أيل) ـ من قرطبة القرن الثالث (وها هو اسم آخر يثير الشجن) ـ بزينته من الورد الفرنسي الملوكي، وعُرفه المجدول، يشاكس المبخرة المصرية أو السورية، ثورية التصميم التي صُنعت لـ’العالم، العامل، ناصر الدنيا والدين، السلطان محمد بن قلاوون’. يتوهج الاثنان بضوء أرجواني، ومن فوقهما تطفو ـ على شاشة تلفاز ـ سجادة تدور في شريط لا ينتهي.
أغمض عيني. آخذ نفساً عميقاً. أفتحهما. أمامي، الحصان البرونزي الصغير يتراجع في دهشة مستمرة، ذيله القصير ملتوٍ، أذناه مشرعتان. أمام عينيه، منعكس على زجاج صندوقه وعلى الحائط لصق المعلقة الأندلسية، ومنافس للمعلقة في بزغ هنا في السنوات القليلة الماضية، أفق معماري، مرفأ، وجهه للبحر وظهره للصحراء. وعلى الحد بين الصحراء والبحر، هذا المبنى.
يبدأ ناصر الرباط مقاله في هذا الكتاب بشهادة ‘أي إم بي’ أن ‘فوّارة’ جامع أحمد بن طولون في القاهرة هي التي ألهمته تصميم متحف الفن الإسلامي في الدوحة. إلا أنني، في كل مرة أنظر فيها الى المتحف، أرى من ورائه، كالظل المُنبئ، جامع السلطان حسن ـ في القاهرة أيضا ـ عظيما، وجليلا، وأصيلا، ومبدعا، ومطمئنا ـ منذ لحظة إنشائه ـ لمكانته العالمية كمعمار، وكرمز.
في طريقي من المطار، في نوفمبر 2009، أشار السيد ‘بوباديليو’ (الذي لم أكن أعرف اسمه وقتها)، أشار قائلاً: ‘المتحف!’ تابعت حركة يده، فوقع نظري على الشكل الهندسي الضخم، المتكعّب، المُتجسّم على خلفية الأفق المعتم. قلت: ‘بالطبع’.
سأل: ‘رأيتيه من قبل؟’
في الواقع لم أكن قد رأيته، لكني رأيته دون أن أعرف، دخل شكله، ثقله، خلسة، الى وعيي. وضُح لي، في الأيام القليلة التي قضيتها في المدينة، موطنه، إلى أي مدى يوفر المتحف نقطة مرجعية ومرسى للعين. عند قدومك من المطار، أو من السوق، أو من وسط المدينة، تجد عينيك تبحث عن الشكل المألوف، تلتقيه، فتستقر، ترتاح على صلابته. وحين تزداد ألفة مع المكان تجد متعة أيضاً في مشاركته سراً من أسراره، فهذه الصلابة المكدسة، مثلها كمثل المساجد العظيمة، ثمة احتضان تحتضنه للفضاء يجعل من الدخول اليها تحرراً. منعزلة ومهيبة، هذه المباني، تزداد هيمنة كلما اقتربت منك كتلتها، والتفاصيل تحتل أفقك تماماً، حتى تأتي لحظة التماس، لحظة الدخول، فتطلقك حراً. ثم تقدم لك من كنوزها الهباتت من أشكال، وتراكيب، وأضواء. وتعدك بالمزيد إن أقدمت أكثر، إن عبرت العتبات الغامضة إلى قاعات العرض. ومن المفهوم تماماً تكرر ظهور تلك النافذة الضخمة ـ الحائط الزجاجي لبهو الاستقبال ـ في مقالات هذا الكتاب: رضوان أحمد، وسعاد العامري، وجمال محجوب، الكل يجد فيها محطة للوصول، نقطة للانطلاق، وجهة للنظر.
هناك، في جوار النافذة الكبرى، كانت نقطة لقائنا بعد كل جولة (حرة) بالمتحف، فهكذا اتخذ هذا الكتاب شكله: مجموعة من المشاركين المحتملين، دعوا إلى زيارة الدوحة، اصطُحبوا إلى المتحف، و ـ بِرقة ـ أُطلقوا فيه. وكان المطلوب منهم: أن يقعوا في الغرام.
بعضهم كان قد وقّع: يوسف رخا، وويليام دالرمبل، وناصر الرباط. ثلاثتهم اختاروا مواضيع كتابتهم وهم في ديارهم. رضوى عاشور ايضاً قالت لي على الهاتف إن هناك ‘مقلمة’ تزورها كلما زارت الدوحة. ‘أدور حولها’. قالت: ‘كحج صغير’. وهناك من جاء، مثل جيمس فنتون، وقد سمع عن شيء معين، فجاء يبحث عنه. وآخرون جالوا في المتحف إلى أن جاءت لحظة أن ناداهم شيء ما: إبزيم، أسطرلاب، كتاب، ورقة شجر.
كان مشروعاً محفوفاً بالمخاطر: ماذا لو وقع الجميع في حب قطعة بعينها؟ ماذا لو لم يجد شخص ما يحبه؟ ماذا لو…؟ على الرغمم من هذه المخاطر الافتراضية، قررنا أن نتوكل على الله.
في يوم الأول في المتحف حزنت على الأشياء: على الصحون عُزلت إلى الأبد عن السفرة، القناديل عن النور، النوافير عن المياه الجارية. ثم بدأت ـ كلها ـ تُكلمني، تُعلّمني كيف يجب أن يكون هذا الكتاب: سوف يكون تواصلاً، تجاذباً لأطراف الحديث، منطقة محررة من تعارضات ‘الشرق’ و’الغرب’، من مفاضلات ‘العلم/الفن’ و’الخبير/الإنسان العادي’، منطقة نستمع فيها إلى أعمال الفنانين القدامى تتحادث مع أعمال زملائهم اليوم، منطقة يجرى فيها حوار حميم في تنوع من العصور والأعمار والمواقف السياسية والجنس والجغرافيا. ومثل حال مجموعة المقتنيات سيكون حال مجموعة الشعراء والفنانين والمؤرخين والعلماء والمفكرين والمصممين وكتاب القصة الذين ـ معاً ـ سيكونون هذا الكتاب.
دعّونا سبعة وعشرين ممن تتميز أعمالهم بالأناقة والتجديد، وهم لا يظهرون ـ غالباً ـ معاً في الحيز الثقافي نفسه. ثم اتضح أنهم يتشاركون في حب المغامرة: كانت الدعوة لزيارة المتحف، واختيار قطعة من المعروفات، وكتابة مقال، أو قصيدة، استجابة لها. المتحف، كما كتبت لهم: ‘يتواءم بشكل خاص مع فكرة هذا الكتاب: أتصور أن هناك قطعة معينة ستجذبك، ستتحدث إليك، أو مجموعة من القطع تطلق سلسلة من الأفكار والمشاعر تنتج عندك استجابة في شكل فني أو أدبي. هل تستهويك الفكرة؟’.
واستهوتهم.
كانت الردود إيجابية، مستثارة، متحمسة. وكان أولها من أريك هوبزبوم، وشيرين نشأت، وبانكاج ميشرا. فتجلى عندي شعور بالفال الحلو للمشروع. تفاصيله يخبئها المستقبل، ستضيئها الشرارة إلى أمل أن تشتعل بين كل كاتب والقطعة التي ستستكتبه، لكنني أستشف روحه.
مصمم الكتاب، معز أنور، وصف جزءاً منها حين اقترح أن يكون تصميم الكتاب كالمصحف: متحفظ، يميل إلى الصرامة، جمالياته ـ المستلهمة من المخطوط الإسلامي ـ تهدف فقط إلى توفير المساحة المناسبة لعرض العمل الجديد، والقطعة التي نبع منها.
لن أقوم هنا بالعرض المعتاد لكل محتويات الكتاب، لتحتفظ الأعمال، قديمها وجديدها، بالحق في أن تدهشكم. سأقول فقط إن أربعة وعشرين شخصاً اختاروا ـ دون تنسيق ـ أربعاً وعشرين قطعة متباينة، وكانت استجابتهم لهذه القطع متنوعة بتعدد القطع نفسها.
ثم وقع اختيار ثلاثة أشخاص على القطعة نفسها: صورة ‘القديس جيروم ممثلاً الحزن’، رسمها فاروق بك 1024هـ (1615 ـ 1616م) من منحوتة لـ’دورر’. يأتي جبور الدويهي، وآدم فولدز، ورجا شحادة إلى هذا الاختيار من منطلقات مختلفة، فيكون كل واحد منهم علاقة خاصة مع الصورة، وما يصلون إليه، عبر تأمل هذا العمل لحظة تحوله من عمل ‘مسيحي’ إلى عمل ‘إسلامي’ يدخل إلى صميم السؤال: أين موقع الإسلام في الفن الإسلامي؟
لم يكن الفن في العالم الإسلامي منفصلاً عن الحياة، فاعتبرت وظائف الفن، كإشباع الحس الجمالي، والحث على تأمل الحياة والتعليق عليها، من وظائف الأشياء التي نستعملها في حياتنا اليومية، والتي اتخذت في العصور الإسلامية تعددية مبهرة. نراها في المتحف في البوابات والأفاريز الأندلسية المنحوتة الضخمة، في المصافي الرقيقة الدقيقة للقلل السورية، لأواني العراق المتحفظة ومجوهرات المغول الباذخة. كانت هذه ثقافة تقبل على الاختلاف وتحتفي به. وفي أيام توسعه، كانت روح الإسلام وأفكاره الجديدة لديها القدرة، أينما حلت، أن تضخ الطاقة في الثقافة المحلية وتوقظ فيها الحماسة لإعادة اكتشاف موروثها وفنونها وإعادة تخيل وإحياء ذلك الموروث في أشكال جديدة مفعمة بالحياة.
عبر قاعة عرض، لمحت عيناي طولاً من الكتان الأبيض، أعرفها كما أعرف فساتيني، فقد رأيتها مئات المرات على جداريات المعابد المصرية القديمة. قماش متميز. كنت أعرف، قبل أن أتجه نحوها، أني سأجد طرزاً من لوني الذهب والفيروز يجري بطولها. وها هو. على بطاقة التعريف كتبوا ‘طراز. مصر. قرن حادي عشر مبكر. كتان حرير’. وعلى الخلفية الذهبية الفيروزية كان الخط العربي يعلن، ثم يعلن: ‘المُلك لله’.
منذ نحو سبع سنوات كتب مقالاً حول تجربة النشأة في مصر في ستينيات القرن الماضي، وكيف كانت قناعتنا أننا نعيش على أرض مشتركة، مفتوحة على كل الثقافات. أسميت هذه الأرض الـ’ميتزاتيرا’: ‘أرض خصبة، مساحة من التداخل حيث تذوب حدود كل ثقافة في حدود دارتها وتضيف الأصداء والانعكسات أعماقاً وأبعاداً، وتبدو الاختلافات مثيرة، محببة، لأننا نراها على خلفية من التشابه والألفة (1)’. كتبت هذه الكلمات لتسجيل ما كان يحدث من تراجع عن هذه الأرض المشتركة، لتوثيقها والتمسك بها.
وفي كل مكان في المتحف نرى الأرض المشتركة التي أحدثها الإسلام بين القديم والجديد، تلك المساحة من التداخل والتأثير، استكشفها واستزرعها فنانو أزمنتهم، فكانت أثرى مما يمكن أن تكونه أي أرض منعزلة. ولعل السمة الأساسية في التوجه، في البرمجة الذهنية، التي فجرت كل هذا الزخم الإبداعي هي القدرة على احتواء وجهات نظر متعاكسة والاحتفاظ بها في حالة من التوتر الخلاق، ‘كأجزاء من كل’، كما يلاحظ تاش أو، ‘وليس كتيارات متضاربة’.
في الجملة المنقوشة على مبخرة السلطان محمد بن قلاوون، تلك التي حدثتني في يومي الأول، مثال واضح لهذه الازدواجية الخلاقة: ‘العالم، العامل، ناصر الدنيا والدين’، لا إشكالية هنا، بل تصر الكلمات النمطية أن المثالية تكمن بالتحديد في أن تكون ‘عالما’ ثم ‘عاملا’ ناصراً للدنيا، وللدين.
أكتب هذه المقدمة اليوم، في شرفة بيتي في القاهرة، وأكاد أتبين، من جديد، الأرض المشتركة، هناك، في الأفق.
وأشعر أن كل كلمة نقولها، كل فعل نقوم به، يدفعنا إما نحو تلك الأرض، وإما بعيداً عنها. وأعاود التفكير في الرسائل التي استشعرتها في يومي الأول في المتحف.
هذا الكتاب، والخطوات التي استولدته، حاولت أن تمثل، بل أن تكون، مثل وطموحات وزهوة واتساع وخصوبة وتجميعية الثقافية الإسلامية، وقدرتها، في أحسن أحوالها، على أن تحفز إلى الأفضل كل من يعيش ويعمل في إطارها، بصرف النظر عن منشئه ومعتقده. هذا هو ما تقوله لنا مجموعة مقتنيات متحف الفن الإسلامي في الدوحة. وهذا ما تعود إليه هذه المقالات مرة بعد مرة، سواء كانت تحتفي به، أو يؤسيها فقدانه المؤقت.
فقدان مؤقت فقط. فقد عاد أبو عبد الله الغرناطي إلى البلاد العربية، ظهر لي على هيئة عامل وافد، يقود السيارات في الدوحة، حيث يقف متحف الفن الإسلامي بين البحر والصحراء، منارة على الطرف الشرقي لعالم عربي يعيد اكتشاف إمكانياته وروحه الأصلة.
قد تكون هذه القطع الفنية مبعدة عن مواطنها وعن وظائفها اليومية، لكن وظيفتها التي لا غنى عنها اليوم هي أن تذكرنا بعنصر أساسي ومركزي في تراث العالم، بتوجه ذهني، بعبقرية ثقافة استطاعت ـ في قارات العالم القديم الثلاث ـ أن تجمع الاختلافات، بل التضاد، وتحفظهما في توازن يعيد خلق العالم جميلاً، ومفيداً، ومتجدداً.
‘ روائية من مصر، وهذا نص المقدمة التي وضعتها لكتاب ‘تأملات في الفن الإسلامي’ الصادر حديثاً عن دار بلومزبري ـ مؤسسة قطر، وهو من تحريرها أيضاً. يضم الكتاب مساهمات متنوعة لعدد من الكتاب العرب والأجانب، إضافة إلى لوحات ومنمنمات وخطوط إسلامية بديعة.
القدس العربي