صفحات الثقافة

تأملات في «حب».. فيلم مايكل هانيكة 2012

 

عندما يكون الخيال علاجاً للألم

لواء يازجي

تصرخ آن في نهاية فيلم الحب «ألم.. ألم.. ألم..» بينما يحلق جورج ذقنه بهدوء الصباح الذي يعيد الصباح الذي قبله، وباعتيادية ما لا يُحدِث عادة أي تغير في الحياة. تصرخ آن وتتابع صراخها.. يمشي جورج نحوها مشيته المتعثرة التي لايمكن بشكل من الأشكال استعجالها. على حافة السرير يجلس.

آن تتابع الصراخ «ألم.. ألم.. ألم..» يمسك جورج بيدها وكأنها كانت تناديه.. بحب يمسح الأصابع المغضنة التي ما تزال تحمل خاتم الزواج.. وهنا يبدأ حكايته عن مكان ما وعن زمان ما.. لا يهم، المهم أن تبدأ الحكاية.. حكاية قديمة عن زمن مر لا ألم فيه.

يتابع جورج حكايته ويتخامد ألم آن، ألمٌ لم نكن نظن أنه سينتهي. يتابع الحكاية؛

حكاية أولاد هربوا من ناظر المدرسة، أو ربما حكايته عندما تسلق حائط الحديقة وشرط بنطاله، ألم تكن حكايته عندما رسم بقرة! غير مهم.. المهم أن يبدأ الخيال

وتنتهي الحقيقة. الحقيقة ألم، الحكاية لا تنقل الألم كما الخشب لا ينقل الكهرباء.

العلاج بالخيال..هنا الحكاية تخدّر وكأن صرخة آن تقول: تعال وخدرني.. أسرع يا جورج، هات الحكاية!

هات الحكاية؟…

لكن جورج سيقتل آن بعد الحكاية.. هل كانت آن تنده له ليُنهي الحكاية؟

آن قاومت.. آن ذاتها التي أرادت أن تموت قاومت قراره، دافعت عن حقهـــا في أن تختـــار لحــظة موتها..

لكن.. جسد آن يعيق حبهما، جسد آن عليه أن يغادر.

هو يريد تلك الـ آن.. هذه لا تنتمي لهما، ولا لوعودهما.

أما التعب.. فهو جزء تفصيلي من جواب جورج للآخرين:

اتركوا نصائحكم عند الباب وارحلوا..

طاولة الطعام والخلود..

جورج وآن ليسا كائنين ملائكيين من نور؛ فهما يأكلان كثيراً ولا يستثني الفيلم مرحاضهما، وتلك الزاوية في المطبخ تشهد على ذلك.. تشهد على غذاء الجسد الذي يفارق.. كما ستشهد على غذاء الروح التي تبقى.

عندما يجبر جورج جسد آن على الرحيل ليتمكن من التفرغ لروحها، يُمضي جورج جل وقته على الطاولة ذاتها إذا التقى الجسد بالروح: طاولة الطعام.. طاولة كتابة طعام الحكايا لروح آن التي بقيت في الجوار. الآن لا طعام على الطاولة؛ كدسة من أوراق الذكريات واليوميات التي تُبقي آن على قيد الحياة.. التي تبقي جورج معلقاً بخيط واه بها.

تموت آن. كلنا نموت.. كلنا يقتلنا الزمن.. «هل جورج هو زمن آن المخلّص؟»

من يبقى ليكتب لنا ما يجري في غيابنا؟ من يقرر أننا لم نترك مكاناً في الزوايا التي اعتدناها في منازلنا؟ من يقرر ما احتللنا من وقت إن لم يكن بالنسبة لآخر؟ نحن إذاً محض ما كنّاه بالنسبة لآخر ذات يوم.. هذا ما كانته آن لجورج، وهذا ما قرر أن يبقيها على قيده؛ جورج لا يزال يخاطب آن عبر الرسائل التي ليت وقته يتسع لاتمامها.

وهكذا يحيل الفيلم طاولة الطعام لطاولة الكتابة.. ركن الزوال أضحى ركن الخلود.

فالس الشلل

اليوم تعود آن من المشفى، البيت جاهز للحدث.. تصل، هذه المرة يفتح جورج الباب: «هل كان عليه أن ينتبه أنه مذ جاءا وكان الباب مفتوحاً تلك الليلة التي عادا فيها من المسرح.. هل كان عليه حينها أن يستشرف هذه اللحظة؟ عندما يُفتح الباب وحده ثمة إذاً شيء ما قد غادر.. ثمة إشارة لما يغيب ونفقد».

تدخل آن على الكرسي مبتسمة متشنجة من كثرة الابتسام، دُفِع الكرسي حيث لا يتقابل الوجهان.. يخجل العاشقان من بعضهما لحظتها (لم يكن ارتباكهما لحظتها ناجما عن خوف.. أحلف لكم!.. إنه خجل لا يمكن الكتابة عنه. أي خجل ذاك الذي يمنعك أن تنظر في عين من تحب وقد شُل! لا تلتقي العينان بينما تطير بعض الكلمات المرتبكة هنا وهناك، يسألها السؤال الذي سيصبح اعتيادياً: أين تريدينني أن آخذك؟

في غرفة الجلوس، بين الكتب والأسطوانات تطلب آن من جورج أن يرقصا..

وستعلمّه كيف:

ضع يدك اليمنى وراء ظهري

واليسرى أمسك بها يدي اليمنى

ثبت قدميك عند قدمي.. فليتلاصقا.

ركبتاك تثبتان ركبتاي

ارفعني بهدوء.. يلتقي الجسدان ويتلاصقان.. يتحركان بنقزات خفيفة متشنجة.. لا بد سترتخي.. وكأنهما يسمعان لحناً خفياً. شوبان.. شوبان طيلة الفيلم.

الموسيقى.. الموسيقى.. حامل الفيلم وبساط الشخصيات الذي تسير عليه.. كلهم موسيقيون، فكيف إذاً لن يرقص جورج وآن وهو ينقلها من كرسيها المتحرك إلى أريكة المكتبة.. لتغوص بين النوطات والأسطوانات.

الكف؛ قبلة الحياة المفاجئة على الخد

آن تريد أن تموت، أمنية بسيطة لمن فقد ما فقدته بين يوم وليلة. تريد الموت بهدوء دون بضعة لقمات من هريسة الأجاص، دون ماء.. إن كان ذلك هو كل ما يبقيـــها على قـــيد الحــياة. هي شــربة مــاء ولقـــمة… لا تستــحق الحيـــاة إذاً!

قررت آن أن تهجر جورج، فالمعنى الأعمق لرفضها الاستمرار بالحياة تجلى له على هيئة هجر.. آن تخون جورج. المعنى المركب لهجرها حياتهما هو خيانة.. خيانة المتـــفق عليه بينهما.. استهتار بالإيقاع والوعود، وعناد طفولي يرفض الطعام السيئ الطعم والعظيم الفائدة.

جورج صفع آن.. ويا لها من صفعة لنا؛ نحن من استكنا للنمط، للخير البليد، والحب بمعناه وتجليه الوديع. صفعة جورج بعد كل الرعاية الصامتة والعطاء اللامحدود.. ما هي إلا قبلة الحياة لحبيبة أرادت الهجر.

آن فهمت.. لو لم تفهم آن.. لكانت وجدت طريقها للموت وحدها.

الحمامة.. الحياة إذ تفرض نفسها

الحياة التي فتحت الباب وخرجت ذات ليلة، تعود الآن لتدخل من النافذة.. دون مقدمات تغادرنا، دون سبـــب تنقر على شباكنا.. مخدوع هو الإنســـان إذاً! مخـــدوع بالتـــعاطي مــع المنطــق.

جورج وآن اللذان اعتنيا بتفاصيل الحياة بشكل جلي: أين يُخلع الحذاء وتُعّلق المعاطف على المشاجب.. كيف يرتبون الروتين كي تستمر الحياة أطول، كيف ينتقون المفردات كي لا تأكلهم بداهة الكلام.. جورج وآن سيجدان بابهما مفتوحاً يوم يعودان ذات ليلة. ها هو التوازن اختلّ ومعه ستكرّ سبحة الانفلات مما كان مرسوماً ومخططاً.. سيفقدان بالتدريج ويكسبان بتدريج آخر حكمة التعاطي مع الغريب.

في مطبخ بدأت فيه الحكاية بكسر بيضة… يمكن لنا أن نقول انها بيضة… مجرد بيضة. كما يمكن لنا أن نتفلسف ونقول هل هناك شيء اسمه مجرد بيضة تنكسر؟ تكسر آن بيضة.. ثم تعود إلى الطاولة لتدخل في بيضة من صمت وانفصال.. كم هو مخيف أن تخاطب من هو أمامك.. من تحب.. وهو لا يرد.. يراك ينظر إليك ولا يجيب.. هو ذاته.. إنه هو.. لكنه لم يعد هنا.

ثم هي الحمامة تدخل وحدها من النافذة ذاتها التي أرادت آن أن ترمي نفسها منها.. بحسية متخمة يحاول جورج الإمساك بها حين تعاود الدخول ثانية، اللحاق بها واحتواءها. لقد فهم… تلك الحمامة التي «كشّها» كأي كهل يبعد شبح التطفل، ها هو يحضنها اليوم ويقبلها ملفوفة بغطاء، بكفن؟

إنها آن التي يودع..

الغياب في الحكاية

الحبيب يقتل أيضاَ.

الحبيب يكره..

الحبيب يتماهى..

الحبيب متطلب..

الحبيب يخجل من ضعف من يحب..

الحبيب يطلب من الحب الكثير.. الوقوف على القدمين أقلّه.

الطعام.. الحمّام.. أفعال إن كُشف سرها، بطل الحب.. يجب أن نأكل وحدنا ونمضغ دون قرف.. يجب أن نذهب للحمام وحدنا.. ننظف وسخنا.. وعلينا أن نستحم.. هكذا، ببساطة لنضمن أن يستمر الحب. الجسد المتعرض.. يُبعد الحب. الحب لا يحب الضعف طويلاً حتى لو استساغ طعمه بداية. إذ يبدو جلياً كم كانت آن قوية.. لم يكن جورج يتذمر من ذلك.. جورج تذمر من الضعف.. جورج رفض ضعف آن.. الحب يقتل عندما يُخذل.. الحب ينقذ نفسه بالقتل.. الحب قد يعيقه الجسد، وهنا الحب تعقيد على مفهوم الزوال..

جورج تعب.. أُرهِــق من التفاصيل بقدر ما أرهقه انتفاء المستـــقبل وذوبانـــه.. أرهقــه العبــث بقدر ما أرهقته الواجبات. بصـــمت أدّاها.. بصمت وتفان أثار الإعجاب، بصمــت وضع حداً لها.. هل أثار هذا الأخير إعجاب الآخرين؟

يصل بنا جورج حيث نعلق في مطهر الخلود إذ قتل آن؛ هو يكتب لها… أوفيلياه تنام محاطة بالورود، وهو يصل الليل بالنهار ليقول لها ما حدث يوماً وقليلٌ ما يحدث الآن.. هل قال لها كيف قتلها؟

يمكن إذاً أن نبقى هكذا إلى الأبد، أو أن نعلق هنا حتى يموت هو مصادفة.. أو لتدهسه سيارة وهو يقطع الشارع عائداً من دفع فاتورة! يمتد بنا كمال جريمة الحب.. يمتد تعاطفنا معها، مع معناها وحقها بالحياة. لكن كيف ستنتهي حياة كهذه دون فضيحة؟ نحن لا نريد فضائح لجورج.. نريد؟ نريد للحب أن ينتصر، كيف؟ كيف سينتهي الفيلم.. لا بد له من أن ينتهي! كيف ستفتح الدائرة المغلقة جنحها الطري ليخرج جورج؟

إنه الخيال أيضاً.. وأيضاً..

الخيال يوحي لجورج ذات رؤيا أن تعود الحياة لطيفة كما كانت؛ حياةٌ تعود فيها آن إلى ماء صنبور مغسلة المطبخ حيث فقدها ذات صباح، هناك تغسل آخر ما بيدها وتدعوه لرحلة الغياب..

ألن تضع حذاءك؟

ألن ترتدي معطفك؟

هيا جورج

اتبعني

إلى الحكاية.. من حيث بدأت.

(كاتبة سورية)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى