صفحات الثقافة

تابو الكتابة وإعاقته/ هدى بركات

 

 

إلى فاروق مردم

هي نفسها الجملة التي تبدأ بـ “لن” سوف نردّدها مع اقتراب الأعياد.

هذه السنة أيضا سنقول إننا لن نكون في البلاد. ربما سنوفّق بطرق اتصال، بالهاتف أو الإنترنت، لنتشارك قليلا بعواطف تلتهب دوما بمناسبة عدوى وجدانيّة خاصّة بالأعياد. هذه السنة أيضا سأقول إنّي لن “أندمج” في هيصة العيد، لأنّي تعبانة، أو باردة الهمّة، أو إنّ الواحد لا يعيّد وقلبه “مسدود”. أو إن الهيصة تفترض أن نكون كثرا حول الشجرة أو حول المائدة، بينما حالنا هنا، بعددنا الذي يقلّ عن عدد أصابع اليد الواحدة، لا يفي بالمطلوب، مقارنة مع ما تذكّرنا به الصور القديمة من…

كلّ سنة تزداد تلك الطبقات الخفيفة التي يجرفها طمي الأيّام دون أن تخصّب شيئا في هذه التربة. تربة الآخرين في بلاد الآخرين. وأحيانا، حين أتكلّم مع أهلي لأنفي ما ادّعيته أمامهم من نيّتي قضاء الأعياد معهم، يعاود صوتي نغمته المتشكّية التي لها نوطة الغربان المحترفين… أقرّر أنني هذه السنة سأكتفي بالواقعيّة “الفجّة” كمثل أنّ أدّعي أنّ أوضاع البلد لا تسمح لأيّ عاقل بقضاء عطلته في بلد يشبه بركاناً يهتزّ… فيما العطلة في إسبانيا، مثلا، تكلّف نصف المبلغ الذي تكلّفه تذكرة السفر و…

لن تفيدني بشيء كلّ تلك الإدّعاءات. ولن يصدّقني أحد. وسأتأخّر مثل كل سنة في شراء الهدايا، وستنبري لي فتاة صغيرة إسمها ياسمين لتعيدني إلى الصراط.

ياسمين، وقد أصبح عمرها خمس سنوات، صارت فصيحة. تتكلّم غامزة بعينها ورافعة إصبعها بالأوامر الصارمة، ولو أنها أوامر لطيفة ومخاتلة. ما رأيك بما اقترحه، تسألني وقد رأت تردّدي، فأقول دعيني أفكّر بالأمر، إذ لا أقوى ولا مرّة واحدة على نقاشها في أمر من أوامرها. أمّا وقد حملتُ الشجرة إلى الصالون لتزيّنها بيديها الصغيرتين وبحسب ذوقها و”رؤيتها” لأمور الزينة، فكم من السنوات سأنتظر لأشكو لياسمين ما في قلبي من انكسار وحزن، وأنا لا تغيب عن عيني ياسمينات في عمرها ينمن أو يمتن تحت الخيام في صقيع مخيّمات اللاجئين السوريين. هناك في البلاد إيّاها التي تحبّها ياسمين من شدّة وكثرة ما كذبتُ عنها وفيها.

كم يخجل الكلام، وكم تخجل الكتابة. هناك هذا العيب المنفّر فقط من استعمال اللفظ الفظيع، حين تجرؤ على الجمع بين “طفل” و “صقيع” و “مخيّم” و… “موت”. كأنّه تابو الكتابة أو لعنتها. الصوت الذي تقفله الحنجرة ولا تعرف إلى أين تذهب به، ولا كيف تعيد تدويره كي لا ينفد إلى البكاء. الباتوس اللعين.

وأنا لا أحبّ أن تعرف ياسمين شيئا عن قسوة العالم. ولو استطعت لحملت جهلها إلى كلّ سنوات عمرها وحتّى تشيخ. لا أريدها أن تعرف. ولا أستطيع، لا أعرف كيف أخفي عنها هذا الأسى وهو يدبّ في قلبي هكذا ويدور حول الشجرة. يضيء وينطفىء على إيقاع أضوائها الصغيرة الملوّنة. لم أستفد شيئا من تربية أمّي التي كانت تنهرني قائلة إنّ هناك أطفالاً يموتون جوعا فيما أنا أرفض الأكل من طبق لا أحبّه. لم أستفد من تربية أمّي التي عمّقت شعوري بالذنب كلّما تركت فضلات في صحني. شعور بالذنب بلا أيّة فائدة، وندم عميق لأني لم يخطر لي أن أقول لأمي إنّ ما لن آكله لن يذهب إلى الأطفال الجوعانين، ولا بأيّ حال. وإنّها تغشّني، تبلفني، حين تجعلني أعتقد أن العالم الذي لا يوزّع حيث الحاجة يُدخلني أنا الفتاة الصغيرة في حساباته الأخلاقية. أن أقول لها إنّ “الأطفال الذين يموتون جوعا” سيستمرّون في الموت جوعا ولو أكلت صحني. قبل أن آكله وبعد أن آكله. وهي وهم لم يورثوني سوى أمراض في معدتي يئست من شفائها…

هذا الطفل الذي سنعيّد لميلاده له حكاية تسألني ياسمين إن كنت أعرفها. أقول لها: قليلا، لتكتفي بما سمعته في المدرسة وهي تصنع مع أصحابها خرفان المغارة. أمامي وقت قليل كي أجد صياغة ترفع يسوع من حكايات الرضّع الكنعانيين المدفونين في جرار، في كامل حوض المتوسّط، تضحية للآلهة. ثمّ من كبش الفداء الذي سيذهب إليه الصغير على صليب خطايانا، من سفر اللاويين في صحارى العيزرية إلى مخيّمات منظّمات الأمم المتحدة في عرسال…

هذه السنة أيضا لن…

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى