تاريخ مرير… وبعث بلا قيامة!
د.خالد الحروب
العنوان بالغ الدلالة الذي يعطيه حازم صاغيه للفصل الأخير من كتابه الجديد “البعث السوري: تاريخ موجز”، هو “بعث بلا قيامة”، مختصراً المسيرة الطويلة والدموية لتاريخ الحزب في سوريا، واستبداده، وما حل بالشعب السوري جراء حكمه الطويل. “البعث” الذي أراده الحزب المتأسس عام 1947 بنفس الاسم مع أفكار الثلاثي: المسلم السني صلاح الدين البيطار، والمسيحي الأرثوذكسي ميشيل عفلق، والعلوي زكي الأرسوزي، يشارف على طي الصفحة الأخيرة من تجربته الدموية، ومن دون أي قيامة. بعد عهد الخمسينيات والستينيات المليء بالانقلابات والتصفيات الدموية والطوباويات المدمرة انتهى الحزب وحكم سوريا بأكمله في يد حافظ الأسد مع “الحركة التصحيحية” في أوائل السبعينيات. ومنذ ذلك التاريخ أغلقت سوريا وتاريخها ودخلا طوراً من التكلس الطويل، إلى أن جاءت موجات الربيع العربي. وحتى مع اندلاعها أبدى النظام السوري ثقة مفرطة بأن تسونامي الثورات العربية لن يلحق به، ذلك أنه “حين اندلعت الانتفاضات العربية، مطالع 2011 وكانت أولاها في تونس، لجأ بشار الأسد إلى حجة تفيد بأن نظامه في مأمن لأنه، في سياسته الخارجية والإقليمية، منسجم مع شعبه. وما كادت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية تنقل رأيه هذا، حتى انفجرت انتفاضة في سوريا نفسها، كانت مدينة درعا الجنوبية مهدها. وقراءة موجز صاغيه بالغة الإفادة إن في عميق التفاصيل، أو براعة ربط الخلفيات التاريخية بما يحدث اليوم.
واليوم وبعد مرور شهور طويلة على الثورة السورية والمجازر اليومية التي اقترفها النظام تبدو الصفحة السوداء لحكم البعث في سوريا قيد الانطواء. فسوريا التي بدأت عصر الاستقلال بتسيس ديمقراطي وبرلماني انتهت إلى بلد تحكمه سلالة، تنتقل فيه السلطة من الأب إلى الابن في نظام جمهوري! وفي ظل شعارات إيديولوجية و”مقاومية” طاغية لا تهدف سوى إلى اختلاق شرعية مفقودة للحكم. والشبه الوحيد لسوريا البعث الحالية لا نجده سوى في كوريا الشمالية التي أعيدت إلى حقب ما قبل التاريخ تحت حكم سلالة مشابهة وأكثر دموية. ولهذا لا عجب أن تكون العلاقات الثنائية عميقة بين الشبيهين والتعاطف في درجاته القصوى. ولأن الأمور كذلك فإننا نقرأ، في تفصيل صغير على هامش ما يحدث الآن من قتل يومي يقترفه النظام في سوريا، برقية تعزية بوفاة ديكتاتور كوريا الشمالية كيم جونج إيل، يأسف فيها الرئيس السوري بشار الأسد على الخسارة الكبيرة التي لا يراها للشعب الكوري فقط “بل وأيضاً لشعوب الدول الأخرى التي تناضل من أجل الحرية والعدالة والسلام”، كما جاء في نص البرقية التي أوردتها وسائل الإعلام. ولنا أن نتوقع أنه قدم أو سيقدم التهاني لخليفة الديكتاتور ونجله الأصغر كيم جونج أون الذي سيرأس البلاد وهو في أواخر العشرينات من عمره، مُباركاً للطاغية الصغير القادم عقوداً طويلة من التجبر في البلاد وإدامة ديكتاتورية أبيه وجده، في حال لم تكن البلاد محظوظة بحدوث ربيع خاص بها يخلصها من التفاهة التي تتحكم فيها. والتشابهات بين حكم البلدين مدهشة.
وفي عهد الديكتاتور السابق الذي يأسى على غيابه الأسد بكونه خسارة للإنسانية، وعلى مدار 17 سنة من حكمه المدمر، مات مئات الألوف من المجاعات، وفي بعض التقديرات وصل عددهم المليون، كما أن ثلث السكان عانوا وما زالوا يعانون من سوء التغذية، واعتقل عشرات الألوف في معسكرات اعتقال أشبه بتلك النازية. وأن يعتبر موته خسارة للشعوب التي تناضل من أجل الحرية والعدالة والسلام، على خلفية إنجازات كتلك، فإن في ذلك لغزاً لا يحله إلا ثقافة بعثية تنهل من نفس مستنقع الاستبداد واحتقار الشعوب والبلدان.
ويتكرر اليوم سيناريو انتقال السلطة في كوريا الشمالية ببلادة وازدراء للشعب كما تم عام 1994 عندما توفي كيم إيل سونج و”أودع” قيادة البلاد في يد ابنه كيم جونج إيل الذي رحل الآن. يموت الأب “الحكيم” فيقفز للسلطة مكانه ابنه الشاب الذي لا يهم إن كان مؤهلًا أو جديراً أو مدرباً. وذات النص رأيناه يُستنسخ في سوريا عام 2000، حيث تم تغيير الدستور في لحظات كي يُشرعن انتقال السلطة للابن وارثاً والده في حكم سوريا والتحكم فيها.
وجردة حساب الابن في سوريا لا تختلف عن جردة حساب الأب، على ما يؤرخ حازم صاغية. في عهد الأب كانت إحدى أكبر بطولات النظام تجهيز حملة من الجيش قوامها أكثر من ثلاثين ألف جندي توجهت لقمع مدينة حماة عام 1982 وهدمها على رؤوس ساكنيها. وبعد ذلك بشهور قليلة وفي ذات العام تراجع جيش البعث واختفى من جنوب لبنان وبيروت والبقاع، وترك “الشقيق الأصغر” لقمة سائغة في يد الجيش الإسرائيلي، ووزير دفاعه أرييل شارون يصول فيه طولاً وعرضاً. هكذا احتلت إسرائيل أول عاصمة عربية في الفترة التي كانت فيها عمليّاً وعسكريّاً في عهدة البعث السوري. وفي عهد الابن جردة البطولات والإنجازات تنسج على ذات المنوال. فـ”إلى الخبز المفقود والكرامة الفردية المهدورة والحرية المأكولة، كان بشار ابن أبيه في تلقي الصفعات الوطنية الكبرى والتظاهر بأن شيئاً لم يحصل. فقبل انسحاب 2005 المذل من لبنان، وفي صيف 2003 تحديداً حلقت الطائرات الإسرائيلية فوق مقر إقامته الصيفي في اللاذقية، وما هي إلا أسابيع حتى هاجمت مقاتلات إسرائيلية بلدة عين الصاحب التي تبعد عشرات الأميال عن العاصمة، بحجة وجود معسكر لـ«الجهاد الإسلامي» هناك. وقبل أن يتبدد الغموض الذي أحاط بتدمير الإسرائيليين منشأة دير الزور، جاء الاغتيال الغامض، هو الآخر، لعماد مغنية محرجاً ومهيناً. وفوق هذا شكل ذاك الاغتيال مادة لتكهنات كثيرة حول السلطة وصراعاتها، خصوصاً بعد اغتيال، لا يقل غموضاً، حل بالعميد محمد سليمان في عرض البحر”.
الاتحاد