صفحات الرأي

تاريخ مكتوب على أجساد السوريين في السجون

 

شهادات حية عن النظام الذي جمد سوريا في الزمن

بيروت: سمير شمس

يروي هذا الكتاب فصولا من حقبة رماديّة من حياة السوريين وتاريخهم الصامت بعد مقتلة «حماه» لإخماد انتفاضة «الإخوان المسلمين» ضد الرئيس الراحل حافظ الأسد في عام 1982. ويؤرخ أيضا للحركة الشعبية السلمية التي انطلقت في مارس (آذار) سنة 2011، ولا تزال مستمرة، وتصدى لها نظام الأسد الابن، بجميع وسائل القتل والترويع التي عجزت عن تحقيق الحسم.

اعتمد الكاتب على الشهادات والسير الحية مادة للكتاب، فقد بدأ بتسجيلها في عام 2006. لكن الثورة السورية الراهنة منحتها سياقا وأفقا ومعاني جديدة، وبعد أن اكتشف المؤلف أن صمت السوريين لا ينطوي على الخوف من الرواية والخبر، بل على ما يمكن تسميته إرادة الخوف والكتمان المديدة التي اجتثت مقدرتهم على الخبر والرواية، وتركتهم يتعودون العيش في الصمت. فالنظام الأسدي حول البلاد سجنا لمحو الذاكرة والخبر والتأريخ، وقصر الكلام والتعبير على الكلمات الأبدية للبعث والرئيس القائد. فكان على المؤلف أن ينتظر الحدث السوري الكبير والمستمر، لكي يستكمل كتابه، والشهادات الحية، ويجد سياقه في خضم تحرر السوريين من سجن الصمت المديد، ليصير لبلدهم ومجتمعهم حياة وتاريخ يخرجانهم من ذلك الأبد الخاوي المميت.

يلقي المؤلف المسؤولية التي أوصلت السوريين إلى هذا الوضع المزري على أجهزة الإعلام والدعاية والأمن السوري التي أضفت على شخصية القائد حافظ الأسد هالات من القداسة، تتويجا لسحقه حماه عام 1982، فرفعته تلك الهالات الموشاة بالدم والرعب إلى مرتبة الألوهية، وكرست عبادته التي تجاوزت مبايعته قائدا ورئيسا مدى الحياة، إلى رئيس وقائد خالد على مر الزمن، لذا صدم كثيرون بموت «الأبد» حين توفي الأسد. لكن مشروع التوريث سرعان ما تكفل بهذه الصدمة التي ألمَّت بالمؤمنين حقيقة بأن القائد مقدس وخالد ولن يفنى أسوة بالبشر. المشروع هذا لم يكن سياسيا، بل من قبيل قهر الموت، بنقل روح الميّت الخالدة إلى جسد آخر من صلبه وذريته. شعائر الانتقال وطقوسه، كرست مرة أخرى إخراج السياسة من الحياة الدنيا إلى المقدّس، فالتأم جرح المذهولين والمصدومين، لأن روح القائد ظلت على تجليها وخلودها في بشار، لذا لا إهانة في أن يرغم رجال أمن بشار الأسد معتقلي الانتفاضة الكافرين بألوهيته، على الركوع وتقبيل صورته مرددين أنه الرب، فيما هم يضربون وتداس رقابهم بالأحذية، قبل تكديسهم في المعتقلات أو قتلهم. وما يتعرض له المنتفضون على ربوبية الأسد، لا ينطوي على عبودية سياسية، بل عبودية مطلقة، كما هو الرب مطلق. أما ما نرى فيه إهانة وتعذيبا وسحلا وقتلا، فلا يرى فيه أبناء الرب وسدنته، سوى تصويب لخطأ أو اختلال طرأ على نفوس العبيد. فأرواح العبيد وأجسامهم ملك الرب وله أن يستردها متى شاء.

ليست الثورة السورية، إذن، ثورة على الحاكم، بل هي خروج على عبادة الوثن الواحد المتجدد، إلى التعددية الإنسانية التي لا يفاضل فيها بين البشر الذين يريدون العيش متساوين أحرارا لا عبدة أصنام مقدسة خالدة.

ينتقد الكاتب فقر الكتابات العربية واللبنانية المدقع وخلوها من التحقيقات الميدانية عن الثورات العربية، وعن الثورة السورية المتطاولة والمستمرة. ويرى أن هذه حالة مزمنة تتجاوز أسبابها أساليب العمل الصحافي وإدارته وغرقه في الترّهات، عدا انعدام نزاهة بعض الصحافيين. هذه الحال تطاول حياتنا الثقافية العامة، ونفورها من الكتابة الميدانية، وعزوف الكتّاب المحترفين عن المبادرة والمجازفة والتطلع في تناول شؤون المجتمع والحياة اليومية وظواهرها وحوادثها، لتطوير أساليب الكتابة. فهذه متروك أمرها لغيرنا من الصحافيين والروائيين الأوروبيين الذين قتل بعضهم في حمص التي جازفوا بحياتهم للوصول إليها. من هؤلاء الروائي الفرنسي – الأميركي جوناثان ليتل الذي كتب من حمص تحقيقا ميدانيا في حلقات خمس، نشرتها صحيفة «لوموند» الفرنسية في فبراير (شباط) 2012. لقد نبهتني كتابة هذا الغريب «ليتل» المشهدية، أنا الذي استصعب الكتابة عن حوادث مجتمعات أجهلها أو غريبة عنّي، إلى أنها أقوى وأصدق إنباء عن حوادث هذه المجتمعات من أهلها، مما حفزني على إكمال ما كنت قد بدأته عام 2006، لألغي المسافة الهائلة التي تفصلني عن أن أكون شاهدا حقيقيا على ما نعيشه وعاشه السوريون في أزمنة ما قبل الثورة، وفي زمن الثورة على نظام الأسد الذي احتل سوريا وجمّدها في الزمن.

أعاد المؤلف تركيب الشهادات الخمس، وأفرد لكل شهادة فصلا:

الفصل الأول بعنوان «جامعة الخواء البعثي» رواه أستاذ جامعي يدرّس في جامعة شيكاغو، انتدبته جامعته أستاذا زائرا لجامعة حلب، فأمضى الراوي سنتين دراسيتين ما بين 2003 – 2006، تنقل روايته شهادة وثائقية عن الحياة اليومية، الأكاديمية والإدارية والطالبية، وعن برامج التعليم المقررة مسبقا وإلى الأبد. وتتجاوز شهادته الحياة الجامعية إلى وجوه المجتمع السوري ومؤسساته الإدارية، وإلى وصف الخواء الذي يكتنف حياة الطلبة، والمدرسين الجامعيين الذين يتسابقون للحصول على ساعات تدريس إضافية في كلية في مدينة أخرى توفر لهم بدلات انتقال تزيد على رواتبهم الزهيدة.

الفصل الثاني بعنوان «سوريا الأسد قدر لبنان» والراوي لبناني من مؤسسي «التيار الوطني الحر». شهادة الراوي تنقل يوميات اعتقاله وتعذيبه في أحد سجون الاستخبارات السورية في بيروت عام 1994.

يقول: تلقيت اتصالا من رتيب في الجيش اللبناني قال لي إن الرائد يريد اللقاء بي على فنجان قهوة في محلة الكرنتينا. ذهبت فقادني أربعة رجال وجوههم شديدة السمرة ولهجتهم سورية، إلى مكان تحت الأرض. وانهالوا علي صفعا ولكما وضربا بأعقاب البنادق، شاتمين عون والبطريرك صفير، ثم سحبوني إلى زنزانة، ليعيدوا وجبة الضرب والتعذيب والشتائم مساء.

في اليوم الثالث قادوني إلى غرفة التحقيق ليفاجئني المحقق بقوله: ليش معك متفجرات ولاه؟ فأجبته أن لا متفجرات في سيارتي التي تركتها في عهدة الجيش اللبناني، شتمني وشتم الجيش اللبناني وقال: الجيش اللبناني وسرمايتي سوا. واستدعى الحرّاس فأخذوني إلى غرفة التعذيب وكوروا جسمي وسط دولاب وأخذوا يضربونني بالعصي ويرفسونني بأقدامهم مما أزاح فقرة من عمودي الفقري من مكانها. في اليوم السادس جاء دور الصدمات الكهربائية، في الدفعة الثالثة من الشحنات الكهربائية. تكرر الأمر في اليوم التاسع بصدمات كهربائية عالية الشحنات فانقطع صوتي وأحسست بتسلخ مواضع من جلد رأسي.

في اليوم العاشر أخذوني إلى مكتب وثير، رأيت في المكتب رجلا في ثياب مدنية، فنظر إلي قائلا: ولو يا أنطون، إنت ابن عيلة، شو هالحركات اللي عم تعملها؟ لاحقلي ميشال عون عالعمياني؟. ثم قال: اكتشفنا أن عملية الحدث نفذها العكاريت من جماعة عرفات، فقوم روح ع بيتك، وبنبرة حاسمة قال: سوريا لا تُشتم في لبنان، لا أحد يستطيع أن يشتم سوريا بلبنان، لا أحد.

أنا من جيل تفتح وعيه على الدنيا فإذا بسوريا البعث والأسد قدر لبنان. جيل خائف وحياته مختنقة ومحاصرة. جيل لم يعرف الحياة العادية والطبيعية.

الفصل الثالث بعنوان: صراخ في ظلمات السجون. سجلت هذه الشهادة في بيروت عام 2007، واستكملت في مطلع عام 2012.

الراوي سوري الجنسية، لبناني النشأة الأولى والمولد من أب سوري تزوج من لبنانية طرابلسية وأنجب منها أبناء ثلاثة، تاركا زوجة أولى وأطفالا في حلب. بعد تلقيه التعليم ونيله الشهادة الثانوية في بيروت انتقل الراوي إلى دمشق ودرس في جامعتها (1980 – 1985) فتفوق في الهندسة الميكانيكية. قبل سفره إلى إسبانيا لمتابعة دراساته العليا بمنحة من جامعة برشلونة، شهد في شوارع حلب إعدامات ميدانية من ذيول المطاردات والمقاتل الأسدية. أمّا بعد عودته من إسبانيا متفوقا في دراسته هناك، فقد أدى عزوفه عن الانتساب إلى «طلائع البعث» إلى حرمانه من معادلة شهادته الإسبانية بأخرى سورية تمكنه من العمل. حمله هذا إلى القيام بما يشبه «انتفاضة» فردية، شتيمة البعث والرئيس القائد في مكتب وزير التربية. فعلته هذه دمرت حياته كلها، إذ عرضته لملاحقات أمنية مستمرة في سوريا ولبنان، ولسلسلة من الاعتقالات والتعذيب المتكرر في السجون السورية ما بين 1988 و2005. وحين ذهب أخوه للبحث عنه في دمشق، اختفى ولم يعثر له على أثر منذ عام 1989.

الفصل الرابع بعنوان: حمص – بيروت خارج سجن الأسد. رواية بانورامية تتناول سيرة عائلة توزعت حياتها وإقامتها بين حمص وبيروت منذ ستينات القرن الماضي، الشخصية المحورية في هذه الرواية امرأة سورية المنبت والإقامة والزواج الأول في إحدى قرى جبال العلويين، قبل زواجها الثاني برجل لبناني بيروتي، خطف واختفى نهار «السبت الأسود»، فتجددت زيجات المرأة وإنجابها، وأقامت علاقات بضباط من الاستخبارات السورية في بيروت حتى جلاء الجيش السوري عن لبنان في عام 2005.

الراوي حفيد هذه المرأة من ابنتها البكر من زوجها السوري الأول، نشأت في كنف زوج الأم اللبناني قبل خطفه. بعدما شبّت، فرّت من بيروت مع رجل حمصي يعمل سائق سيارة لنقل الركاب بين سوريا ولبنان، فتزوجا وأنجبا في حمص حيث ولد ابنها الراوي عام 1980. لكنه منفردا رحل من حمص إلى بيروت فتلبنن اجتماعيا. تتتبع الرواية السيرتين المتوازيتين والمتداخلتين السورية الحمصية واللبنانية البيروتية للراوي وأمه وجدته وعائلتيهما، كما تروي وقائع من الحياة اليومية في حمص وحاراتها وأحيائها وعاداتها وتحولاتها، فتقدِّم لوحة بانورامية عن المجتمع الحمصي. أما في بيروت يصف الراوي علاقات جدته برجال من الاستخبارات السورية، وحوادث الشقاق والعنف الأسرية بين الجدة وبناتها.

مع بدء الثورة السورية تحولت غرفته البيروتية ملتقى ناشطين سوريين. أخيرا يقوم الراوي بزيارة سرية إلى حمص مرافقا مجموعة من صحافيين أوروبيين. من هناك يروي يوميات الثورة ومشاهداته ومشاركته في مظاهرة ليلية في حارة طفولته وفتوته، الخالدية.

الفصل الخامس والأخير بعنوان: شبّان بانياس من التصوف إلى الثورة. الشهادة سجلت في بيروت في يونيو (حزيران) 2011 رواها الناشط في انتفاضة بانياس بعد اعتقاله وتعذيبه وفراره إلى لبنان. وهي رواية تفصيلية عن أحوال المجتمع المديني في بانياس منذ ثمانينات القرن العشرين. حين كانت الأجهزة الأمنية تشجع الحركات الصوفية، وتركت لها الحرية في إحياء شعائرها وحلقاتها لتصرف الشباب عن النشاط السياسي، فالتحق الراوي بإحدى الحلقات وتركها في عام 2003. يستعيد الراوي سيرة حياته وحياة مجايليه، وتحولات وعيهم «الإسلامي»، هذا قبل مباشرتهم الانتفاضة في مدينتهم، على نحو عفوي بلا إعداد ولا تنظيم مسبقين، متأثرين بالثورة المصرية. المظاهرات في بانياس لعب الفضاء الإلكتروني والهاتف الخلوي وكاميراته دورا أساسيا في تنظيمها وفي تواصل شبانها الناشطين مع ريف المدينة ومع شبان التنسيقات في المدن السورية الأخرى.

جرى تسجيل شهادة الراوي قبل أن يحاصرها الجيش الأسدي وأجهزة استخباراته، ويدخلانها ويروعان أهلها. وبعد حملات نقل رجال الأمن والشبيحة أفواجا من أهالي بانياس بالباصات إلى القرى العلوية القريبة التي قام بعض أهلها بتحقير المعتقلين وإهانتهم والاعتداء بالتبول عليهم في طقوس من الحقد والتشفي وعبادة «الرب» بشار الأسد. الشهادات الخمس التي سجلها المؤلف تروي فظائع ومجازر ومظالم اقترفها حكم تعسفي جعل من سوريا سجنا، وجعل السجون مرآة المجتمع المكتوم المحطم، بل إن تاريخ سوريا منذ خمسينات القرن الماضي وحتّى اليوم، لم يكتب منه شيء سوى ما كتب على أجسام السوريين في السجون.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى