تبديد سورية أم إنقاذها: الاعتراف والغفران
علي جازو *
كان النظام مزيجاً من العنف والصبر، أبّد الرئاسة في شخص، وقلّص «الجمهورية» إلى ملكية عائلية صرفة. انتفاضة السوريين، في وجه من وجوهها، استعادة لهذه «الملكية» وتشديد على قيم الشرعية المستمدة من الشعب ضد قداسة القائد وشخصنة الدولة. فالنظام أباح الفساد ورقّى «عماله وفلاحيه»، وضخم عديد الجيش «العقائدي» وقوّى سلطة الأمن رافعاً إياها فوق أية مساءلة، وفرّغ البرلمان السوري من وظيفته، وأغلق فم من تسوّل القربَ الوضيع في قناع «جبهة وطنية تقدمية»، مطلقاً اليد لحديد الأمن وناره عند إلحاح الحاجة.
هكذا تمت عسكرة الدولة. سُلخت السياسة عن جسم التعاطي العام. تبخّر الشأن السوري الداخلي في ضباب قضية العرب المركزية حتى عثر عليه أخيراً في جزر القمر التي ذكّرنا بها وليد المعلم في معرض تذكيره بـ «الاستعمار»، تلك الكلمة السحرية في قاموس البعث الملغز. إغلاق سورية من الداخل، ومساومة عليها مع الخارج.
والنظام استثمر في التوتر وجمّد الخطر «ملهماً» الشعب وعلاقته بأجهزة الدولة وصولاً إلى مناخ وبائي من العسف واللاثقة والعقم والفقر وتراجع الوعي والتفتت. في «مملكة الصمت» كانت الثروة العامة قيد النهب. من لم يرض بفردوس الحظيرة أُسكت بالعنف الوحشي، ومن لم يفسد ولم يجد في الخنوع وظيفة غدا خارج الدولة. مهمة الجهاز البعثي البوليسي تأديب «الخارجين» ولفظهم وتلقينهم الدروس التي تدمر العقل.
كانت هذه محنة السوري: فصل السياسة عن المجتمع الذي وجدت السياسة لأجل ضمان حقوقه وحفظ كرامته الإنسانية. هكذا أعدم النظام الزمن الإنساني بأبدية لا إنسانية، وضمن ولاء العبيد وصمت المذعورين.
لكن صمت الأحرار كان أقوى من خسة العبيد، ومن تدنت حاله لم يفقد قوة ضميره ولا هانت عليه كرامته. الخائفون الصامتون والفقراء أنجبوا بناتاً وأولاداً داسوا الخوف وحطموا الأصنام. لعقود زادت عن أربعة، طُحن معظم السوريين بين فكّي الفساد والفقر، بين القمع والصمت. جراح السوريين ستواصل النزف. لقد حسموا أمرهم. جمعة إثر أخرى، ينهضون من رمادهم ويصرخون. من يفترض به الإصغاء والاستجابة لا يرد، وإن فكر بالرد لم يجد غير العنف، يرجئ الحل إلى لا حل، أو أن النظام هو الحل.
يصعب إبقاء الحال على ما هو عليه، وتستحيل عودته إلى الوراء. وفي هذه الفترة القلقة والمؤلمة، يتراجع الخوف أمام الحرية، وتهترئ قوى القمع التي كانت شبه متفرغة للنهب. غير أن لهذا التقويم بعداً عاطفياً وأخلاقياً لا يغير كثيراً من موازين القوة على الأرض. مدنيون في وجه قتلة وخبراء قنص، أطفال تحت أقدام متوحشين، محاصَرون أمام دبابات.
في ظل انغلاق داخلي، يُخشى من تحجره وانكماشه تحت ضغط مزيد من العنف، تتوجه أنظار السوريين إلى قوى إقليمية ودولية. لاجئو تركيا مثال عسير. أمثلة ليبيا واليمن محبطة. لا يتمنى أي سوري أن ينحدر به الحال إلى المجهول والفوضى. يساهم تحجر النظام وافتقاره إلى عقلانية تفضيل التنازل على المجابهة في تعقيد الأزمة. يضع النظام نفسه خلف الشعب، الشعب هو المستهدف بالعقوبات والتهديدات الدولية، وعندما يفترض به التحدث إليه يعود إلى تعاليه ولغته المتاهية: مخربون، مندسون… الخ. هذه متاهة النظام وقفصه وفضيحته.
ينكر النظام أنه السبب المباشر في إيصال الأزمة إلى ما هي عليه. تعديل فوري للدستور كاف لدفن شبح البعث. كسر شوكة قوى الأمن ومن يديرها مالياً وعنفياً في شكل مباشر، التوقف عن القتل والاعتقال والتعذيب، وإطلاق سراح جميع المعتقلين، محاكمة القتلة وتعويض الضحايا. كل ذلك بيد الرئيس. هو القادر والمسؤول عن التحول الديموقراطي أو الانحدار إلى مستوى الكارثة. سورية ليست فقيرة في كفاءاتها السياسية وخبراتها القانونية. يمكن وضع خطة متكاملة وموحدة توقف القتل وتحفظ الأمن، وتخفف من الإنهاك الاقتصادي، وترسخ المبادئ التي على أساسها يجرى تسليم السلطة تدريجاً. إذا اعترف الرئيس بـ «أخطاء» إدارة الأزمة، واعتذر عمن «أخطأ» على مرأى منه، يمكن الشعب أن «يغفر». يمكن قسماً غير قليل أن يسكّن الألم ويتنازل عن جزء من حق الضحية في العقاب، أمام الفوضى والمجهول واقتراب الوضع من حدود الكارثة والسقوط الكلي، يفضل الرضا بالأقل لضمان الحصول على الأكثر. أكثرية العدالة كمبدأ تحميه الدولة، والسلطة تداولاً سلمياً والسياسة تعدد أحزاب واختلاف آراء، والحرية كبديهة يبتكر السوريون معجزة في سبيلها.
* كاتب سوري
الحياة