تبديد عصر الحديد/ ممدوح عزام
كثيراً ما نسمع، أو نقرأ من يردد اسم دون كيشوت في يومياتهم الشفوية أو المكتوبة (في الترجمة العربية التي قدمها سليمان العطار حملت الرواية عنوانها الكامل وهو: “الشريف العبقري دون كيخوته دي لا مانشا”.
وأضاف إليه تعريفاً صغيراً هو: “الشهير بين العرب باسم دون كيشوت”، بدل العنوان المختصر الذي عرفناها به في ترجمة عبدالرحمن بدوي: “دون كيخوته”) إما للتنديد بالخصم والسخرية من سلوكه وأقواله ومشاريعه الفكرية أو اليومية، وإما للتفاخر بالانتساب إلى ذلك الفارس الإسباني الذي كان يتجول على حصان ناحل كي يقاتل الظلم.
ويعرف من يتفاخر بالانتساب إلى الدون كيشوتية أن مشروعه مهدّد بالفشل، أو الهزيمة، دون أن يتمكن أحد من نزع الجانب الإنساني عنه. يعرف الدونكيشوتي أن الأمل هو الواجهة التي يختبئ خلفها كي يمنح نفسه الفرص اللازمة من أجل البقاء والاستمرار لخوض المعارك ضد أي شكل من أشكال القهر دون أن يحفل في ما إذا كان سيخرج محطماً في النهاية. وذلك لأنه لن يهزم.
وقد سخر ممثلو القوة والسلطة من دون كيشوت، وعبثوا بوجوده، ووضعوه في مشفى المجانين، وتفهوا أعماله، غير أنهم ظلوا طول الوقت، يتجاهلون أقواله، أو لا يشجعون على قراءتها. سوف يرى القارئ أن لدى هذا الفارس فلسفة إنسانية عميقة، وأن مسعاه الحقيقي مناهض للظلم والقهر ومناصر للعدالة، بغض النظر عن طبيعة المعارك التي يخوضها.
صحيح أن من الصعب الدفاع عن تصرفاته، لكن لن يكون بوسع أحد إدانتها، بفضل الدوافع النبيلة التي تحركها. وأما الضعف البشري فقد واصل الإشادة بالرجل الرحالة المشاء الباحث عن الأمل والعدالة، والعامل بلا كلل على تنفيذ إرادة الأمل بذراعه وسيفه وهو يهتف: “إنني ولدت في عصر الحديد لأبعث فيه العصر الذهبي”.
يتنافس على الانتساب إلى دون كيشوت: الثوري (“يتهم” غيفارا في العصر الحديث بالدونكيشوتية سواء من أعدائه والمندّدين به، أو أنصاره والمعجبين به، وكان قد قال للكولونيل المحقق أندريه سيلش، إن ما يسعد الفلاحين في كوبا هو أن لديهم “وهم” التقدم، بينما يعيش الفلاح البوليفي بلا أمل) والسجين السياسي الذي لا يجد أحداً في انتظاره بعد أن يكون قد أمضى سنوات في السجن.
وينتمي الكتّاب والفنانون إلى جماعة الفرسان المشّائين أحفاد دون كيشوت، على الرغم من كلام اليأس السائد اليوم، بما في ذلك الحديث عن لا جدوى الأدب والفن الذي يتردد في أوساط المغلوبين ممن حملوا رايات الأمل العربي.
فالرواية التي كتبها ثربانتس في القرن السابع عشر لم تكن أصلاً للرواية في العالم كله وحسب، بل إن بطلها دون كيشوت صار سلفاً لكل الروائيين. إذ لا تبعد الروايات عن مسعاه لتبديد عصر الحديد. وهو عصر يتكرر قبل أن تكتب تلك الرواية، وبعد أن كتبت أيضاً، متمثلاً في الحروب والمجازر والدماء التي تراق من أجل المصالح الدنيئة، أو في الأشكال التي لا تنتهي لتجلي الظلم.
العربي الجديد