تبرير المجزرة/ سلامة كيلة
كلما ارتكب النظام السوري مجزرةً يسمو السقوط الأخلاقي لدى قطاع كبير من اليسار (العربي والعالمي). حيث يبدأ النفي والتبرير، ويُلقى الأمر على “الشيطان الأكبر”: أميركا، التي تحرِّك أدواتها، لكي تحقق ما تريد. هذا ما طاول مجزرة الكيميائي في خان شيخون، حيث المستفيد منها هو أميركا، فقط لأنها وجهت ضربة جوية للقاعدة الجوية التي انطلقت منها الطائرة التي قصفت. طيّب، أميركا لم تضرب رداً على عشرات المجازر بالأسلحة الكيميائية، قام بها النظام منذ المجزرة الكبرى في الغوطة، والتي هدَّد أوباما بتوجيه ضربة عسكرية بسببها، ثم قبل بحل تسحب روسيا بموجبه الأسلحة الكيميائية. طبعاً من دون أن تقصف أميركا، لهذا ليست أدواتها منْ قام بهذه المجازر، وبالتالي، فإن النظام هو من قام بها، حسب هذا المنطق. لماذا، إذن، إذا كان النظام قام بكل هذه المجازر، يجري إلقاء المسؤولية على أميركا؟
طبعاً فقط لأنها ردّت. هنا، تكمن المهزلة في منطق هزلي. فإذا لم ترُدّ أميركا يجري غضّ النظر عما حدث، وإذا ردّت تكون هي الفاعل، لأنها المستفيد مما حدث. لماذا هي مستفيد؟ فقط لأنها ردّت، ويجري هنا استرجاع وضع العراق، وكيف أن أميركا كذبت لكي تتدخل وتحتل العراق. لكن أميركا قصفت، بعد أن أبلغت الروس بأنها ستقصف القاعدة الجوية، ولم يظهر أنها تريد التدخل ضد النظام (هي تتدخل ضد داعش كما تقول، وبرضى روسيا والنظام). وما تقوله بعد الضربة هو توجيه الحرب ضد داعش فقط، وأن الحل سياسي، ويتحقق بالتعاون مع روسيا.
وإذا كانت نظرية “المستفيد” تنطلق من أن أميركا هي ضد النظام أصلاً، ولقد استغلت حدثاً افتعلته (على الرغم من أن تدخلاتها في الغالب لا تحتاج إلى حدث)، فإن إعلام النظام كان يخبرنا، قبل استخدامه الأسلحة الكيميائية، أنه قد تفاهم مع ترامب في الحرب ضد الإرهاب، وأن علاقته مع أميركا قد عادت قوية، وأن ترامب أرسل رسالة تفصيلية لبشار الأسد في هذا الخصوص، حسب ما أوردت صحيفة الأخبار اللبنانية التابعة للنظام قبل أيام من استخدام النظام السلاح الكيميائي. بمعنى أن الأمور كانت تسير نحو تفاهم “عميق” مع أميركا. ولا شك في أن منظور ترامب، خلال حملته الانتخابية، وبعد نجاحه، كان يقوم على أولوية الحرب على “داعش”، حتى بالتفاهم مع النظام، وأن أميركا لم تعد معنيةً بمصير النظام “الذي يقرره شعبه”.
بالتالي، إذا كانت الأمور تسير في مسار وانقلبت، فما يجب السؤال حوله هو: لماذا غيَّر ترامب منظوره جزئياً، حيث بات يطرح ترحيل بشار الأسد، وبقاء النظام وقبول الوجود الروسي في سورية؟
وأيضاً سيكون السؤال: هل استغلّ بشار الأسد التقارب الأميركي معه، وقرَّر الحسم الوحشي في إدلب؟ بمعنى أن بشار الأسد كان يعتقد أنه “مستفيد” من التقارب الأميركي، لكي يُنهي “المعركة”، لكنه لم يتنبّه لـ “الحساسية المفرطة” التي سيسببها ذلك لترامب، بعد أن كان هال على أوباما بالتقريع، لضعف موقفه في استخدام الكيميائي سنة 2013، وفي سورية عموماً. وكذلك إلى أنه متهم في الداخل الأميركي بالتواطؤ مع روسيا. لهذا بدل سؤال منْ المستفيد، لا بد من طرح السؤال الأهم: منْ الغبي؟
مارست أميركا الإجرام والوحشية عقودا طويلة، وتاريخها كله مجازر، هذا لا شك فيه. وهي تكذب وتضلل بلا شك، لكنها ليست “الشيطان الوحيد”. العمى السياسي هو وحده الذي يقصر الأمر بـ “شيطان أكبر”، ويؤسس على مبدأ: خير/ شر. وهذا ما يقع فيه اليسار الممانع. لهذا ينطلق من أن النظام السوري “فوق الشبهات”، وأنه “ذو أخلاق عالية”، وبالتالي، فإن كل الجرائم التي يجري القول إنه مارسها هي تلفيق. هذا عمى سياسي ناتج عن التأييد الأعمى، لكنه سقوط أخلاقي مريع.
أميركا مجرمة نعم، لكنها ليست المجرمة الوحيدة في هذا العالم. مثلها كثيرون، من روسيا التي قام بوتين بممارسة كل الإجرام ضد الشيشان وفي أوكرانيا وأوستينيا الجنوبية، إلى النظام السوري الذي هو نظام وحشي.
العربي الجديد