تجاور الأزمنة في سوريا: راتب شعبو
راتب شعبو
تمثل سوريا اليوم محلاً نموذجياً لانعدام اليقين. ساحة صراع زلقة لا يستقر عليها شيء، كل شيء قابل للسقوط هنا بما في ذلك الأفكار والنظريات والمبادئ والقيم التي لا يصمد منها إلا ما هو ساقط أصلاً. لا الحوار حوار ولا الحرب حرب. الحوار مصيدة وشطارة، والحرب محرقة وطاحونة عديمة المعنى. لا الحوار يهدف إلى الحوار ونقل التوازنات الجديدة إلى مستوى سياسي، ولا الحرب تلتزم أبسط أخلاقيات الحروب. صراع عسكري بين طرفين ينتمي كلٌّ منهما إلى زمن مغاير لزمن الشعب السوري ومتخلف عنه: قوة ديكتاتورية مكرّسة تجاوزها الزمن، تسعى إلى الديمومة عبر لغتها الوحيدة المتمثلة في التطويع القسري للشعب الذي تجرأ على الرفض، متوسلةً في ذلك ما لا يخطر على بال من سبل وحشية. وقوى إسلامية محدودة الأفق، هيمن لونها على الحراك تحت إلحاح الحاجة العسكرية للثورة، بعدما ضمر البعد السياسي لصالح البعد العسكري فيها. لا تحمل هذه القوى للشعب سوى المحاكم الشرعية والفتاوى التي تكبّل حياة المرء بكل تفاصيلها وتسعى إلى حشر الحاضر في قوالب الماضي. لا يمثل أيٌّ من طرفَي الصراع العسكري الرئيسيين هذين، خياراً مرغوباً لشعب يريد أن يحيا بحرية وكرامة.
الى جانب هذا التجاور المتنافر بين زمن الشعب السوري الذي هو ببساطة، العيش في نظام حكم ديموقراطي يشعر فيه الفرد أنه مواطن كامل الحقوق في وطنه قانونياً وفعلياً، وزمن ديكتاتوري وآخر إسلامي، ثمة تجاورٌ مكاني للأزمنة على ساحة سوريا:
في سوريا اليوم مناطق “مستقرة” تعيش زمن “ما بعد الأسد”، تحكمها، على ما نقرأ، سلطات غضة لمجالس محلية ومحاكم شرعية وأمراء. سلطات تحمل كل ما تحمله السلطات من مفاسد سوى أنها قد تكون أقل وطأةً، بحكم حداثة عهدها وضعف تمكّنها لا أكثر. ذلك أنه لا يوجد تصوّر واضح لآلية حكم محددة قادرة على ضبط شطط الحاكمين، وارتجاليات الأمراء والمفتين، والصراعات المحلية بين مختلف الأطراف المسلحين …الخ. لا الوضع العام ولا الحوادث الفردية هنا يشيران إلى وجود حالة سياسية جاذبة للسوريين في المناطق الأخرى. فاليوم تعيش الثورة السورية اختبار الحكم في مناطق واسعة، ولاسيما في محافظة الرقة، في رهان مقصود من النظام، على ما يبدو، لإعطاء المعارضة السورية الوقت الكافي للفشل. لم تعش الثورة المصرية مثلاً هذا التجاور الزمني، فكانت أزمنتها متتالية بحكم السقوط السريع للديكتاتور هناك، لكن الفشل “الأخواني” في مصر أعاد إلى مبارك شيئاً من الاعتبار في عيون المصريين، وهو داخل أسوار سجنه. أما تجاور الأزمنة في سوريا فيشكل من هذه الزاوية عنصراً في مصلحة النظام.
في سوريا أيضاً مناطق “مستقرة” لا تزال في زمن الاستبداد الأسدي، تعيش على سابق عهدها من فساد واستفشار وتعديات زادت، بعد انكفاء طفيف في بداية الثورة، بدلاً من أن تنقص. مناطق تخشى عدوى المعارك المدمرة وما تحمله من ويلات. لا يستقر أبناء هذه المناطق على يقين، يساندون القوات النظامية خوفاً من تحوّل مناطقهم إلى مناطق منكوبة، لكنهم في الوقت نفسه يتعاملون مع الدولة كرجل مريض يتسابقون إلى نهبه والإفادة من تركاته. في المقابل يتكرس في هذه المناطق ما يمكن أن نسمّيه الاقتصاد التعسفي للحرب، حيث لا ضمان لملكية عامة أو خاصة. مثلما لا ضمان لحق الحياة نفسه. حالٌ متبادلة من تجاوز الحدود بين الأفراد والمؤسسات ولاسيما منها مؤسسات “الدفاع” الطارئة، الأمر الذي أوجد حالاً من إعادة توزيع للثروة تقوم على التعدي بالقوة وعلى النهب المباشر. على رغم أن هذه المناطق لا تزال بمنأى عن المعارك، فإنها تعيش في الواقع منكفئة على ذاتها في حال قلقة وغير مستقرة، كأنها تُمِرّ أيامها يوماً بيوم، في انتظار مجهول ما. أما باقي المناطق فتعيش الصراع على شكل معارك يسمّيها كل طرف من جهته “تحريرية”، ويسوّغ كل طرف انتهاكاته فيها بانتهاكات الطرف الآخر، ما يجعل الأبرياء، الذين لا يعبّر عنهم في الحقيقة أيٌّ من الطرفين المتقاتلين، أول الضحايا وأسهلها.
إنه خليط أزمنة يصعب أن تتناغم، خليط أفضى إليه استبداد لم يُعل يوماً على مبدأ سلطته مبدأً آخر، ولم يكن له طوال تاريخه بوصلة سوى توطيد سلطته لتأبيدها على حساب أي قيمة أو مبدأ آخر يعوق مسعاه.
النهار