صفحات الرأي

تجديد الخطاب الديني أم إنجاز الإصلاح الديني؟/ كمال عبد اللطيف

 

 

كثر الحديث، في الأشهر الأخيرة، وفي أغلب المجتمعات العربية، عن موضوع تجديد الخطاب الديني. ويمكن تفسير هذه الكثرة في الراهن العربي، بمسألة وصول تيارات في الإسلام السياسي إلى السلطة، حيث تعمل بعضها على إعلان مواقفها من أشكال التحجر التي عرفتها المنظومة الدينية، وتعمل جاهدة، في الوقت نفسه، على إعلان تميزها عن التيارات التكفيرية والجهادية.

كما أن المناهضين للإسلام السياسي يعتبرون أنه آن الأوان للحسم في مطلب الإصلاح الديني، للحد من ظاهرة توظيف الدين في السياسة والمجتمع. وقد أصبح هذا الموضوع يشكل، اليوم، جاذبية كبيرة في الثقافة العربية المعاصرة.

يلاحظ المتابع لأشكال تداول خطابات التجديد الديني، في المنتديات وفي الإعلام، أن صفة التمويه ما تزال طاغية على أغلب القضايا التي تتناوله بالبحث والمقاربة، على الرغم من أنه مضى زمن طويل على بداية تبلور هذا الحديث في الفكر والتاريخ العربيين.

يتطلب الأمر في نظرنا، في سياق التحولات الجارية داخل المجتمعات العربية، أن نتجاوز الأساليب التي ألف فكر النهضة العربية معالجة الموضوع انطلاقا منها، فلم يعد هناك، اليوم، في نظرنا وقت للمراوغة والمخاتلة، وركوب دروب الانتظار مجدداً. والتراكم الذي بنى

الفكر النهضوي في هذا المجال، وخصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، يقضي بذلك. وما نواجهه، اليوم، من أشكال غريبة في توظيف الدين في حياتنا السياسية، يلحق أضرارا بالغة بالسياسة والتاريخ والدين والمستقبل.

وقد أصبحت خطابات الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب والرقمي ظاهرة مرعبة في حياتنا، وهي تغذي، اليوم، وجدان الشباب والكبار.

ولعل ما يلفت النظر فيها التناقضات العديدة التي تشكل سمتها الأساس والتناقضات الكبيرة بينها وبين مكاسب المعرفة في عالم تحكمه، اليوم، أنظمة جديدة متطورة في المعرفة والتقنية، وما يرتبط بها من قيم. الأمر الذي يضعنا أمام خطاباتٍ متناقضةٍ ومعاديةٍ في روحها العامة لروح التاريخ والتقدم، إضافة إلى غربتها عن أسئلة زمانها وآفاقه.

ولا تقدم المفردات المستعملة في كثير من هذا الخطاب ما يساعد على مقاربة تاريخية للدين، فلا يمكن أن نفكر في تجديد الخطاب في موضوع الدين، من دون ربط الموضوع بالتحولات الكبرى التي يعرفها مجتمعنا ويعرفها العالم. ومن هنا، نتصور أنه لا ينبغي أن نكتفي بالحديث عن تجديد الخطاب، بل تجديد النظر إلى موضوع الدين والإصلاح الديني.

ولابد من الإقرار، هنا، بأن الموضوع طرح في بدايات فكر النهضة العربية، حيث انتبه الجيل الأول من رجالات الإصلاح السلفي، إلى أهمية الاستعانة بالتاريخ الحديث والمعاصر، لتجاوز مآزق التأخر التاريخي العربي. وقد ركب محمد عبده، في هذا الباب، مساهمة توخى فيها التوفيق بين قيم الإسلام وقيم التاريخ المعاصر، إلا أن مشروعه في الإصلاح ظل في حاجة إلى استكمالٍ، يستوعب صلتها بالراهن العربي من جهة، ويستوعب، في الآن نفسه، تجدد النظرة إلى الدين في الفكر المعاصر.

قدم الموسوعيون العرب جملة من المعطيات في مسألة كيفيات تجاوز التأخر، وفي موضوع فصل السياسي عن الديني، وما تزال جهودهم في حاجةٍ إلى مزيدٍ من الترسيخ والتطوير، في سياق شروط التفاعلات الحاصلة، اليوم، في الواقع العربي، حيث تبرز معضلات فعلية في قلب الصراع الحاصل في المجتمعات العربية، معضلات تحتاج إلى تركيب أنظمتها في الفكر وفي المجتمع، لنتمكن من بلورة المفاهيم المطابقة لصور الصراع المستجدة في محيطنا التاريخي.

بجوار كل من المحاولة السلفية والمحاولات التنويرية، استخدمت الدولة السائدة في أغلب البلدان العربية المؤسسات الدينية الموروثة، وعملت على توظيفها بصور جديدة وأشكال جديدة، في عمليات التدبير المتوازن للشأن الديني داخل المجتمع. فأصبحنا أمام موقف مركَّب، يعلن، من جهةٍ، رفضه توظيف الدين في المجتمع، ولا يجد أي حرج في منح الدولة صلاحية تدبير الشأن الديني.

لا يعتبر تدبير الدولة الشأن الديني في المجتمعات العربية أمراً جديداً، فأغلب دساتير الأنظمة العربية وأغلب حكوماتها تستوعب مبدأ الإسلام دين الدولة الرسمي، كما تستوعب مؤسسة العلماء ودار الإفتاء، إلا أن تجدد الحديث في الموضوع، بعد وصول تنظيمات الإسلام السياسي إلى الحكم، منحه طابعاً يتسم بالتباسٍ كثير.

ويتعلق سؤال تجديد الخطاب الديني، في نظرنا، بمشروع تاريخ مستقبلي، وضمن هذا السياق، نفكر فيه، ونفكر بالذات في دور الإصلاح الديني، للتقدم أكثر في الإحاطة به، وبناء نَظرٍ محدد فيه.

ولا يحيل الأمر، هنا، بالضرورة إلى عملية استنساخ لنموذج تاريخي محدد، بقدر ما يستدعي الانخراط في مشروعٍ يتعلق بتاريخنا ومستقبلنا، ويضع يده على أشكال من التدين، تخص تجربتنا التاريخية، حيث مثل الإسلام بؤرة قوية في سلم نظامنا في المجتمع والثقافة والحياة.

لا يحصل التجديد والتجدد في الخطاب الديني، في تصورنا، من دون إتمام مهام الإصلاح الديني ومتطلباته، إصلاح اللغة، إصلاح منطق النظر، باعتماد مبدأ التمييز بين الدين والتراث الديني، للحد من المغالطات المهيمنة على النظر في هذا المجال، وإذا كان نموذج الإصلاح الديني الذي تبلور في أوروبا النهضة، قد ساهم في بناء شكلٍ من أشكال النظر الإصلاحي في الشأن الديني، فإن تصورنا للإصلاح الديني في حاضرنا ومستقبلنا، يستدعي الاستفادة من كل ما تراكم في تجارب المجتمعات الأخرى في الموضوع، ومن هنا، نعتقد أن ما يحصل، اليوم، في مجتمعاتنا، بعد وصول بعض تيارات الإسلام السياسي إلى السلطة، يعد سياقاً مناسباً وشرطاً ملائماً للانخراط في استكمال أسئلة الإصلاح الديني في الفكر العربي المعاصر.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى