تجليات السيرك الروسي في سورية/ عيسى الشعيبي
5
تعتبر روسيا من أشهر بلاد العالم في ألعاب السيرك، إن لم تكن أشهرها على الإطلاق، نظراً لما تتميز به عروضها التي تطوف الشرق والغرب، من فقراتٍ ترفيهيةٍ منوعةٍ، ومهرّجين وسحرة وحيوانات ضارية مدربة، وما إلى ذلك من مشاهد بصرية تخطف ألباب الصغار، وتنتزع إعجاب الكبار، وغير ذلك من ألعاب قوامها السحر والإبهار، والإثارة والتشويق، بما في ذلك المشي بخفّة ورشاقة على الحبال.
وأحسب أن مسمّى “المناطق منخفضة التوتر”، تلك الصيغة التي أملتها روسيا في اجتماع أستانة الرابع، ووقعت عليها كل من تركيا وإيران، وبمعزل عن ممثلي نظام الأسد ووفد الفصائل المعارضة، فيه شيء كثير من أوجه التشابه مع استعراضات ألعاب السيرك الروسية التقليدية، وذلك لما تنطوي عليه هذه اللعبة السياسية المطوّرة من خصائص وسمات، مستلهمة من فنون السيرك، لا سيما التهريج والمشي على الحبال، ناهيك عن البهلوانيات المثيرة للضحك في بعض الأحيان. إذ بعد نحو ثمانية عشر شهراً من التكتيكات الوحشية الروسية في الأجواء السورية المستباحة، ووصول هذا التدخل الذي أخلّ بالتوازنات على الأرض، إلى نقطة استعصاء سياسية حادة، تنذر بفشلٍ قد لا يطول أوان حصاده، عمدت موسكو إلى إعادة تقديم بضاعتها البائرة بغلافٍ جديد، يحمل اسماً آخر أكثر جاذبية، لعل هذه المناورة التكتيكية تنجح في حمل المستهلكين السذّج على شراء المنتج المغلّف بعبوةٍ جميلةٍ، تلفت أنظار المتسوّقين للوهلة الأولى.
بكلام آخر، الرياح التي ظلت، طوال الوقت، تهب في صالح أشرعة السفينة الروسية المبحرة في أعالي المياه الدافئة، توقفت فجأة هكذا، بعد الغارة الكيميائية على بلدة خان شيخون، ثم عكست اتجاهها بشدة، إثر الغارة الصاروخية الأميركية على مطار الشعيرات الذي انطلقت منه الطائرات السورية المحمّلة بغاز السارين، الأمر الذي وجدت معه موسكو نفسها متورطةً، داخل مجلس الأمن وخارجه، في الدفاع عن نظامٍ يواصل مقارفة استخدام السلاح المحرّم دولياً، ولا يعبأ كثيراً بإثارة حفيظة المجتمع الدولي.
على الرغم من محدودية ضربة صواريخ التوماهوك البالستية، وهي الضربة الأميركية الأولى من نوعها ضد النظام السوري، عن نيةٍ علنيةٍ وقصدٍ مسبق، إلا أن الدويّ الهائل لتلك
“عادت قرون الاستشعار شديدة الحساسية تعمل لدى “المؤسسة” في واشنطن تجاه طموحات موسكو المبالغ بها” الصواريخ المجنحة سمع في موسكو على نحوٍ جيد جداً، وقرأها الجنرالات الروس على أنها ضربة لكبرياء “القوات الجوية الفضائية” الروسية التي أبلت بلاءً حسناً ضد المستشفيات ومراكز الدفاع المدني، وغيرها من الأهداف المدنية، في عموم المناطق السورية المحرّرة من قبضة الأسد والمليشيات الإيرانية.
ومن وحي ألعاب السيرك الكلاسيكية، ومفاهيمه القائمة على خفة اليد المبهرة، والمشي على الحبال ببراعةٍ، ناهيك عن التهريج، وما إلى ذلك من ألعاب واستعراضات أخرى شهيرة، تفتقت الذهنية المافياوية القابعة في الكرملين، عن حيلةٍ جديدة، قوامها إعادة تقديم البضاعة التي لم يُقبل عليها سوى الذباب، بحلة جديدة قشيبة، وأرفقتها بحملةٍ ترويجيةٍ واسعةٍ، لعل أرباب القوة الشرائية الكبيرة في واشنطن، يقبلون على التهام هذا الطعم، كسمكة جائعة.
لإقناع الزبائن المحتملين في العاصمة الأميركية بهذا العرض المفخّخ، شد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، من عهد الحرب الباردة، رحاله إلى البيت الأبيض، بعد غياب دام نحو أربع سنوات متواصلة، حاملاً في حقيبته ملف “المناطق منخفضة التوتر”، فبدا بذلك كرجل علاقات عامة، أخذ على عاتقه تسويق منتجٍ لم يشتره سوى الإيرانيين، فيما طلب المستهلكون المحتملون في الإقليم، ومنهم الأتراك خصوصا، تقديم خصوماتٍ مجزيةٍ، لعل ذلك يساعدهم على قبول العرض، ومن ثمّة الانخراط في اللعبة.
وبغض النظر عن الشياطين الكامنة في قلب التفاصيل غير المكتوبة بعد، وشدّة الالتباسات المحيطة بماهية المناطق الأربع المقترحة، فإن جوهر ما انطوى عليه هذا العرض غير القابل للتطبيق، حتى وإن توفر عنصر حسن النية، يتركّز في نقطتين أساسيتين: الأولى انتزاع إقرار دولي باعتبار مسار أستانة مرجعية بديلة، أو أقله موازية لمسار جنيف، الأمر الذي يمكّن موسكو من الإمساك بكل خيوط اللعبة بموافقة أممية. والثانية الحفاظ على نظام بشار الأسد في السلطة، كون المسار الذي استحدثته روسيا في العاصمة الكاخستانية لا يتطرّق إلى مسألة الحكم الانتقالي المنصوص عليه في قرارات مجلس الأمن المعنية، الجاري تداولها في مسار جنيف البطيء والمتعثر.
ومع أن مسار أستانة لم يُجابه باعتراضاتٍ جديةٍ من جانب الدول والأطراف المخاطبة به، كونه يسعى إلى الحد من لهيب الكارثة السورية، وذلك مما لا يصح الاعتراض عليه بتاتاً، إلا أن هذا المسار الذي “صنع في روسيا” لم يلق الترحيب، المأمول به من الولايات المتحدة، وهي
“تسعى موسكو للإمساك
بكل خيوط
اللعبة بموافقة أممية” الغائب الحاضر عن مجريات المأساة السورية حتى الأمس القريب، حتى لا نقول اعتراضها من حيث المبدأ على تأهيل إيران وإعادة اعتمادها طرفاً إقليمياً مشاركاً في صنع الحرب والسلام، وهذه نقطة ضعف تكوينية في العرض الروسي، قد تشكل، في مبتدئها وخبرها، ضربةً مميتةً لكل هذه البهلوانيات الروسية المكشوفة.
إزاء ذلك كله، من المرجّح، بصورة قوية، أن تتحول لعبة أستانة المغشوشة، إن لم نقل الملفقة من ألفها إلى يائها، إلى مأزقٍ روسيٍّ مستحكم، إذا كفّت فصائل المعارضة السورية، أولاً، عن الانسياق في هذه اللعبة الماجنة، وأوقفت انخراطها في هذا المسار مسدود النهاية، وإذا نأت الولايات المتحدة، ثانياً، بنفسها عن ابتلاع طُعم السنّارة الروسية المسموم، ومضت نحو خياراتها البديلة، ونعني بذلك خيار المناطق الآمنة، معادلاً موضوعياً أكثر راجحةً من منطق “المناطق قليلة التوتر”.
سبق لكاتب هذه السطور أن توقع، بعد الجولة الثانية من مفاوضات محطة أستانة، ومن على هذا المنبر، باحتمالية تحوّل مسار هذه المحطة إلى “كعب آخيل” فلاديمير بوتين، ولسياساته الانكشارية في سورية، وإن هذا التحوّل قد يحدث في أي لحظة، بعد أن انتهى عهد الرخاوة الأميركية، وعادت قرون الاستشعار شديدة الحساسية تعمل لدى “المؤسسة” في واشنطن، تجاه طموحات موسكو المبالغ بها، الساعية إلى وراثة الأمجاد السوفياتية، بما في ذلك استرداد مكانة الدولة العظمى قبالة الدولة الأعظم.
كاتب أردني
العربي الجديد