صفحات الثقافة

تجميع كل قصاصة عملٌ مآله الفشل


صعود كتاب مانغويل وانحداره

عناية جابر

في كتاب ألبرتو مانغويل: «المكتبة في الليل» الصادر حديثاً عن دار «المدى» والترجمة لعباس المفرجي، يبدو أن اهتمام الكاتب، بالسرد الدقيق للتواريخ والأسماء أقل من ولعه اللامحدود بالتجميع. من هنا أتت فكرة كتابه بين أيدينا، وقرر إثرها الكتابة لا كي يُصنّف تاريخاً آخر للمكتبات، أو يُضيف مجلداً آخر للمجموعة الواسعة بشكل مرعب في عالم المكتبات، بل كي يُسجّل فقط وقائع دهشته.

يرى مانغويل في كتابه، أنه بصرف النظر عن الأدب وعلم اللاهوت، فإن قلة يمكنهم الشك في أن الميزة الرئيسة لهذا الكون، هي افتقاره إلى المعنى والهدف الواضح، مع ذلك نحن ماضون بتفاؤل مُحيّر، في حشد كل قصاصة ورق من المعلومات التي يمكننا جمعها في لفائف وكتب وأقراص كومبيوتر، في رف بعد رف من مكتباتنا، سواء كانت هذه المعلومات مادية أو وهمية أو غير ذلك. هذا التجميع اللاهث على نحو مثير للشفقة، هو بهدف إضفاء شكل من الإحساس والنظام على العالم، بينما نحن نعي جيداً، مهما أردنا أن نصدق العكس، أن مسعانا مآله الفشل.

مانغويل في كتابه، وفي سرد شيّق، يعرض المكتبات سواء مكتبته الخاصة أو تلك العامة التي يشارك فيها جموع القراء، وهي تبدو له دائماً أمكنة مجنونة على نحو ممتع. وبقدر ما تسعفه الذاكرة عرض أسرار عشقه لها، هو المفتون بمنطقها الشائك الذي يفيد بأن العقل (إن لم يكن الفن) يحكم الترتيب المتنافر للكتب، ما يمنحه متعة المغامرة حين يفقد نفسه بين الأكداس المكتظة، مؤمناً بشكل خرافي بأن الهرمية الراسخة للحروف والأرقام ستقوده ذات يوم إلى غاية موعودة: «يتجه اهتمامي عادة إلى الصناديق المليئة ببطاقات بريدية، مجلات، تقاويم، وعلى الأخص كتب. في بعض الأحيان تظهر الكتب تحت عنوان واضح بأحرف ضخمة: تاريخ الأقليم أو أسرار العصر الجديد، تربية الحيوانات الداجنة أو قصص الحب. لكنها في غالب الأوقات تتكدس عشوائياً.

القيم التي خلّفها العصر، الذي كان فيه الكتاب يسيطر إلى حد على حياة الإنسان، اهتزت منذ زمن طويل، لكن بالنسبة إلى مانغويل كان مضمونها لا يزال واضحاً، فليس لديه شكل في ما تكونه الكتب، وهو يعرف لمن يعطي ولاءه، ومن هو معبوده.

على الرغم من التعداد للكتب المشتهاة التي استحوذت على الكاتب، فهو مشفوع بطريقة مسرفة في التأليف الروائي، اذ تبدو الكتابة عنده أكثر من لعبة منهجية، والشكل عنده أكثر من شكل، وكل فقرة في الكتاب، أحبها القارئ أو لا، تقدم بعض الإجابة حول السؤال: ما أهمية الكتب في حياتنا، ما هي الحياة الإنسانية وأين تقع شاعريتها من دون الكتب. ومانغويل يرى أن القراءة أضحت اليوم أقل واقل، حتى ليتخيل أن موت الأدب يكتمل وئيداً من دون أن ينتبه أحد، ويتقلص الأدب حتى يصبح بعد فترة غير مرئي أو غير موجود على الإطلاق.

إنه سرد عن الكتب، مع ذلك هو متعلق بالأحلام والرؤى، وهو الخيال متحرراً من «الأرشفة» ومن الاهتمام بالاحتمالات. مجازفات شخصية بحتة في قراءة الكتب، وفي البحث عنها، ومتعذرة أحياناً على التفكير العقلي من كثرة تدخّل الكاتب بها لدرجة دمجها في احلامه كما لو أن حلمه هو الاكتشاف الأكبر للكتاب. استنطاق واضح للحياة السرية للكُتّاب، وكيف يمكن لعناصر كتابتهم أن تتحد، وفي ذلك الكيمياء الحقيقية لسرد مانغويل، الذي يقترب في مواضيع من الشعر المستوحى من التكتيك الخيالي الخاص بالحلم.

هي نصوص إذا صح التعبير، لكنها مثل جزر داخل الرواية، تمضي أبعد مما يتخيله القارئ عن عنوان الكتاب الذي بدا مشروعاً أوحد للكاتب في سرده. رواية مانغويل عن مكتبته، مجرد حجة أو صندوق لحمل مجموعة من الطرف والقصص والتأملات، مع ذلك فهذه الذريعة، هذا الصندوق، ضروري لإعطاء السرد حسّ الرواية، أو على الأقل محاكاة ناجحة لشغف الكاتب بالكتب. على أي حال، أعتقد أن هناك شيئاً أعمق من كل ما كتبه مانغويل يقف خلف كل هذا السرد.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى