صفحات مميزة

تجميل “النصرة”/ ربيع بركات

تتفاوت الصورة المسوقة لـ«جبهة النصرة» بين حدين عجيبين، فيأخذ التنظيم شكل طليعة ثورية ناصعة في بعض هذه الصور، فيما ينحدر إلى أسفل درك الظلامية في بعضها الآخر.

لموقع «الجزيرة» يصرح أميرٌ في «النصرة» قبل أسابيع بكلام ينم عن وسطية مذهلة. «الجبهة لن تتدخل في شكل الدولة السورية بعد سقوط نظام بشار الأسد»، يقول الرجل. ثم يضيف إن الجماعة لا تفرض وجهة نظرها و«إنما تعلم الناس اليوم لتختار الخير في المستقبل». ولا ينسى تقرير الموقع ذكر مميزات «الأمير»، بل يضيء على امتلاكه مؤهلات كبيرة. فهو «يتكلم عدة لغات ويحمل ثلاث شهادات جامعية ويملك شركة صغيرة تعمل في مجال التكنولوجيا وزار في ما مضى أكثر من عشرين بلداً عربياً وأوروبياً». وإذ يستطرد الرجل في شرح آليات اتخاذ القرار «شورياً» وحالة التعاضد التي يعيشها أبناء التنظيم في ما بينهم وفي تعاطيهم مع التنظيمات الإسلامية الأخرى، يشتكي من كونهم محارَبون إعلامياً وممن يسعى باستمرار إلى تلطيخ صورتهم. (19/10/2013)

لا تبدو الصورة أعلاه متطابقة مع ما يظهر في تسجيلات «النصرة» التي تملأ الفضاء الافتراضي. وهي حتماً تختلف عن تلك التي تنشر في إعلام يفترض أن لا علاقة عضوية له بالصراع في سوريا. ففي مقابلة نشرتها «الإكونوميست» مع أحد مقاتلي «النصرة» مثلاً، تحدث الأخير (تحت رقابة رجل أكبر منه سناً وأعلى منه موقعاً في «النصرة» وفق الصحيفة) عن نظرة جماعته إلى ما عداها، مفصلاً الأخيرين إلى فسطاطين يحوي كل منهما تصنيفات فرعية. فهناك فارق بين الكفار الأصليين وأولئك الذين تحولوا عن الإسلام، كما يقول. أما الأخيرون، فتجب معاقبتهم، وهؤلاء يشملون السنة المنادين بالديموقراطية كما الشيعة والعلويين بمجملهم. وفي إضافة نوعية على المقابلة يشير الأستاذ المدرسي السابق إلى رؤية جماعته لقضية المرأة، واضعاً حداً فاصلاً بينها وبين الرجل، فـ«عقل الأخير أكبر من عقل المرأة وفيه مناطق منفصلة للنطق والتفكير، فيما المرأة تفكر وتنطق من المكان ذاته… وهذا مثبت علمياً»، يقول مؤكداً. (23/5/2013)

يترافق تعويم الخلاف بين «النصرة» و«الدولة الإسلامية في العراق والشام» مع محاولات حثيثة لتجميلها. فهي، كما يظن ملمعو صورتها، ما زالت قابلة للتوظيف، ولم تنته صلاحيتها بعد، بخلاف «داعش» التي كشرت عن كامل أنيابها وما عاد بالإمكان احتواؤها.

ومنذ عسكرة الحراك في سوريا وخصوم النظام في الإقليم يشاركونه اللعبة ذاتها، لكن وفق منطق معكوس. فالأول عمل منذ اللحظة الأولى على تظهير «الوحش التكفيري» حتى تطغى صورته على مظاهر الاعتراض السلمي، قبل أن يرد خصومه بلعب الورقة إياها ويراهنوا على ترويض هذا «الوحش» وتلزيمه بعضاً من أجنداتهم، بدراية منه أم بغفلة.

هكذا، خرجت «النصرة» وشبيهاتها إلى العلن بإخراج النظام لقيادات «جهادية» فيها من السجون، وأخذت الرواية الأمنية الواهية تترجم نفسها على شكل حقائق صلبة، مع اتساع ظاهرة موجودة أصلاً وكانت تنتظر من يغذيها. غير أن المفارقة كانت في تلبية خصوم النظام في الإقليم، أسوة به تماماً، حاجة هذه الظواهر إلى غذاء. وكانت العدة جاهزة: أداء أمني دموي للنظام يبرع في اجتراح التطرف من جهة، يقابله تمويل وتسليح وفتاوى تحت الطلب وفوق المعقول، وإعلام يعمل، في موازاة كل ذلك، على نقل الصورة مسيسة، بتخلف هائل على ضفة دمشق، وحرفية دعائية على الضفة الأخرى.

غير أن المفارقة لم تقف عند حد الرهان على اللاعب «الجهادي» ذاته ليصب في مصلحة الطرفين وضدهما في الوقت عينه، بل تجاوز الأمر ذلك لاحقاً بأن قاتل تنظيم «داعش» كلاً منهما لرغبته بشق طريق ثالث بعيداً عن الاثنين. والقفز في حديثنا هنا من «النصرة» إلى «داعش» يفترض، من حيث المبدأ، ألا يثير لغطاً أو حاجة إلى شرح. فتنظيم «الدولة» لم يخلق من فراغ، بل خرج جل مقاتليه من «النصرة» بعدما ولدت الأخيرة من رحم «داعش» في عملية تناسل غريب. لكن أمراً يكاد يكون بديهياً كهذا، تحول اليوم إلى مسألة فيها نظر، إذ يسعى المعولون على «النصرة» إلى إبراز تمايزها عن «داعش»، بما يوحي أن اللاعبيْن أتيا من مدرستين مغايرتين أو مثّلا منهجين متفاوتين شاءت الظروف أن يقع التباس بينهما.

والمعولون الإقليميون على «النصرة» كثر. فالخيار هذا اعتمدته أنقرة في صراعها مع «حزب العمال الكردستاني» قبل أن يتحول إلى عبء على حدودها الجنوبية، فتمهلت حتى تتبين خيط «النصرة» الأبيض من خيط «داعش» الأسود. وفيما اندفعت الرياض إلى الرهان على تشكيل «جيش محمد» الجديد، من دون قطع وسائل الإفادة من «جهاديين» يمكن التأثير عليهم عقائدياً (كما حصل في أفغانستان قبل عقود ثلاثة)، ظلت الدوحة تعمل على تلميع صورة هؤلاء (أو بعضهم) ليكونوا جزءاً من عدة الصراع. فكان استنتاجها أن حالة «النصرة» تحتمل ترك طريق سالك معها، وأن في الأمر فرصة لاستنساخ تجربة التواصل مع «طالبان» التي أطلت على العالم قبل أشهر بمكتب من قلب العاصمة القطرية.

حتى الأمس القريب، كان النظام يواصل العزف على الوتر الأول الذي التقطه يوم أعلنت «النصرة» عن نفسها وأتبعت إعلانها ذاك بعملية انتحارية في قلب العاصمة دمشق. كانت معركته مع «المؤامرة» تستدعي استحضار «البعبع» عند كل محطة من محطات الصراع المرير. غير أن التطور النوعي على هذا الصعيد كان بإتاحة الجيش السوري، مؤخراً، هامشاً لحسم بعض المواقع من دون معارك في ريف دمشق. وقد اقتضى الأمر منه إنجاز قدر من التمييز على مستوى الخطاب والتعاطي مع المقاتلين المعارضين. فلم تعد «النصرة» الصورة كلها، بل مجرد جزء منها. وبات الحديث عن «تسويات» يستوجب إنجاز ما يعبر عنها على الأرض أولاً، مع من هو مستعد لها، حتى لو كان حجمه متواضعاً نسبياً.

أما على الضفة الأخرى، فثمة من يعمل على تجميل «البعبع» إياه، عله يفلح عبره في تحقيق مكاسب داخل القاعات المغلقة فيما بعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى