تحالف النهب الدولي في سورية/ أحمد جابر
في سورية المخطوفة، تحالف نهب دولي يدير تقاسم أراضيها، فيحولها إلى إقطاعات وقواعد ومحميات، وينظم نهب إرادة شعبها، فيحوله أتباعاً وأدوات. لقد مرَّت إدارة النهب بتعرجات كثيرة، وحرص الناهبون الدوليون على تغطية عملياتهم بآليات أمنية استخباراتية، وبمناورات تضليل سياسية، هذا قبل الآن، لكن كل ذلك صار من الماضي، وكما يقال، بات اللعب مكشوفاً بعد استنفاد المقاربة من بعد، والمباشرة من «خلف»، والالتفاف على الخطوط البعيدة.
الدور الأميركي هو الناهب الأول، وأشكال نهبه «أنيقة»، والقاتلون يرتدون بزّات ديموقراطية ويضعون ربطات عنق حضارية، وبعيداً من الموت الفج، على الطريقة الداعشية، يقتل الأميركي قتلاً رحيماً. نعم الأميركي رحيم في مفاجأته، فلا توجس قبل الموت، بل الدخول فيه دونما توقع، وهو رحيم في صعقه، مما لا يشبه جزع العين من التماع السكين.
الدور الروسي هو الناهب الثاني، وهذا يختبئ خلف حليفه الشرعي، نظام الأسد، فيأخذ بطاقة المرور إلى أمكنة النهب المشروع، وما أكثرها عندما يتعلق الأمر بالسياسي الروسي الذي يقتل قتلاً مشروعاً، ويسلب مظاهر القرار الرسمي سلباً قانونياً، ويفاوض على حدود الاقتطاعات التي اتخذها شركاؤه ومنافسوه غنيمة لتدخلهم، تفاوضاً رسمياً، ويصوغ دستوراً ويدعو إلى مؤتمرات، ويبعث برسائل اطمئنان إلى إسرائيل التي كانت عدواً، وكل ذلك بتفويض مشروع ثمنه تأمين الحماية للنظام.
الدور الإيراني هو الناهب الثالث، وهذا عاث في الأرض السورية خراباً باسم معاداة الاستكبار، وتصاغر كلما كان الأمر ضرورياً أمام المستكبرين، خدمة لطموحات نفوذ يتجلبب بديماغوجيا العقيدة، ويستر مناوراته بستر الدفاع عن الأمة الإسلامية، ولم يقتصر الأمر على الأرض، بل إن الخراب الأكبر أصاب بنية الشعب، وكان للإيراني اليد الطولى فيه، فما حصّله السوريون من وحدة، بدَّد الأساسي منه الحلف «المذهبي» بين المتدخل الإيراني والمتحكمين بسورية، وما كان عروبة صار مذاهب وقوميات، واستمرأ السياسي الإيراني سهولة تصنيف أراضٍ بدل الأرض، وشعوباً بدل شعب، ووطنيات بدل الوطنية. هكذا نهبت الوحدة المجتمعية، ومن ممرات تصدعها تسربت كل مياه وأصابع سياسات الخراب الإيرانية.
الناهب الرابع، محجوز للدور التركي، فهذا عاد أولاً بشبح عثمانيته، أو بوهم إحيائها، ولم يطل الانتظار حتى ارتدى عباءة «إخوانيته»، وعندما انقشع ليل التحاصص، سارع إلى حجز مقعده الأمامي في معاداة الكردي، ولما لم ينفع غطاء «داعش» كتبرير للحملة التركية في سورية، أدلى اللاعب التركي بمطالبه في الميدان، ومارس لعبة القفز فوق الحبال، فتارةً تكون لغته روسية، وطوراً فارسية، وعند الحاجة عربية، وخلف الستار عبرية، ولا تنقصه الحصافة ليشعر حليفه الناهب الأميركي، أنه سيظل أطلسياً.
ماذا تفعل الأمة العربية وهي ترى لعبة الناهبين؟ قلنا أمة عربية، وهذا قول بات غير مطابق لواقع الحال، لكن اقتضته ضرورة الحديث بالجملة، حتى لا يصير الحديث شأن دول يتم تداول أوضاعها ومواقفها بالمفرّق، الجواب عن السؤال: لا تفعل الأمة شيئاً، إذا كان الفعل مرادفاً للتأثير في تحديد وجهة الأحداث ورسمها. وفقاً لذلك، الأمة العربية متفرجة ولو ساهمت، وخاسرة ولو زينت لها سياساتها أنها رابحة، ومُهمَلة ولو ظنت أنها موضع اهتمام. لقد باتت الأمة تلك ميدان رمي، وساحة مواجهات، وخزينة مال للهدر ومجموعات سكانية مرشحة للقتل، ودياراً منذورة للخراب. لماذا؟ لأن ضرورات الحضارة الأخرى تقتضي ذلك، وغالباً ما عرف التاريخ أضراراً جانبية لكل حضارة.
الصراع في سورية اليوم يدور على خواتيم الصراع عليها، ولا يبدو أن مواقيت الخواتيم تلك قد حانت، بل لعل الأرجح أن يكون ربع الساعة الأخير، الذي ما زال يفصل اللاعبين عنها، هو الفصل الأشد وطأة على مصير السوريين، وعلى مصائر سائر العرب، الذين عرفوا معنى خسارة بغداد عام 2003، ومن بعدها كرّت سبحة الدمار التي انفرطت حباتها على طول المساحة العربية.
حتى ذلك التاريخ، ما زال التمهل صفة لحركة اللاعب الأميركي، الذي يُقدم أو يُحجم بمقادير محسوبة، وما زال الارتباك سمة لحركة اللاعب الروسي الذي يريد ثمن استثماره من مصارف السياسة الأميركية، وما زال الاندفاع المحسوب طابعاً لحركة اللاعب الإيراني الذي يتكئ على البنية الداخلية السورية، وما زال التطلب المأزوم لغة للسياسة التركية، التي جرى تقييدها بقيود حلفاء الأمس وأصدقاء اليوم…
وفي مواكبة كل ذلك، الحيرة والعجز يظلان صفتين عربيتين، بينما ينهار الهيكل على الرؤوس العربية وحدها… فقط الرؤوس العربية.
* كاتب لبناني
الحياة