تحالف قوى القمع السوري/ غازي دحمان
بعد أكثر من ثلاثين شهراً على بدء الحدث السوري، تتوضح خريطة المشهد وتتحدد بشكل أكثر جلاءّ ونصوعاً. وهو توضح من شأنه إعادة تعريف المشهد برمته من جديد، تعريف حقيقي، مجرد من كل الأوهام التي ظلّلت صورته في الفترة الماضية، وكان لها انعكاس سلبي على مسألة تحديد الوسائل والأدوات النضالية للثورة.
الثورة السورية لم تكن ثورة شعبية بامتياز، على ما حاول إعلامها توصيفه، هي ثورة فئات اجتماعية متعددة وغير منظمة، حتى يمكن القول أنها ثورة أفراد غير مؤطرين في أطر اجتماعية متبلورة (طبقات، فئات، شرائح)، أو أطر سياسية واضحة (أحزاب، نقابات، جمعيات). في مقابل مواجهتها لأطراف أكثر إنسجاماً وتناغماً، وإن كانت تفتقر لأطر تنظيمية أيضاً، إلا أنها تعمل ضمن نسق واحد، ما سمح لها ببلورة مواردها وتنظيم جهودها والقيام بأدوار ووظائف أكثر فاعلية، وهذه الأطراف:
ـ الإسلام السني الصوفي، أو الإسلام السني المديني، الذي يتركز وجوده في أكبر مدينتين سوريتين، دمشق وحلب. تعاطى هذا” المكون” مع الثورة منذ بدايتها بوصفها خروجاً عن المألوف وانحيازا للإسلام المتشدد، كما رأت فيها ثورة على موقعها وسلطتها وامتيازاتها. إذ انتعش هذا النمط التديّني في ظل الدولة السورية، والذي كان حكم البعث استمرارا لها، وكان يتعايش مع السلطات ويقوم بأداء وظائفه التعليمية والدعوية بتسهيلات حكومية بارزة، شريطة عدم انتقاد الحكم، والمهمة الأبرز له، العمل مع السلطة على نبذ الاتجاهات المتشددة في الحقل التديني، وعزلها والتشهير بها.
ـ التجار، والطبقة الغنية، والبيروقراطية الحكومية، وهي جبهة عريضة تشكل طيفاً اجتماعيا واسعاً يمتد من موظفي الحكومة بمختلف درجاتهم إلى أجزاء واسعة من الطبقة الوسطى وكامل الطبقة الغنية، باستثناءات بسيطة ومحدودة. امتازت مواقف أعضاء هذا “البلوك” الاجتماعي بالتأييد الضمني والتعاطف مع الثورة، وبالتأييد العملي للنظام، من خلال مساهمتهم بالأعمال التي تظهر شرعية النظام وإستمراريته، وإلتزامهم أداء كل الوظائف المطلوبة منهم، بسبب خوفهم على مصالحهم التي يرتبط أغلبها بالنظام وباقتصاده السياسي، الذي عمل النظام بحرفية بالغة على ربطها وإدماجها بفعالياته.
ـ الفكر الأقلوي، أو الأيديولوجيا الأقلوية التي لم ترَ في الثورة سوى تقية إسلامية سنية متشددة هدفها الوصول للحكم والسيطرة على السلطة وتشكيل البلاد وفق هوى الإسلاميين الجدد. والواقع أن هذا الموقف هو موقف استباقي عبرت عنه الأقليات حتى قبل أن يظهر المتشددون على سطح الثورة، وحصل أن بقيت جميع الأقليات في سوريا على الحياد علنياً في بداية الثورة، بمشاركة فردية متناثرة، ولكن ما إن بدأت ملامح التشدد بالظهور حتى أعلنت هذه المكونات معاداتها للثورة بصراحة واضحة، وإنخرط جزء من أفراد هذه المكونات ضمن أطر قوى محاربة الثورة (اللجان الشعبية).
ـ النظام بأجهزته العسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية، وإصراره على عدم الاعتراف بالثورة وبحثه عن النجاة بأي طريقة ووسيلة كانت، واستجلابه الدعم السياسي والعسكري والتقني من الخارج وتسخيره لموارد الدولة في مواجهة الحراك.
إضافة لهذا الحلف الرباعي، غير المقدس، ساهم التيار الديني المتشدد في الثورة في إضعاف موقف القوى الثورية، عبر خطابه اللاتسامحي وأخطائه المنفرة وسلوكه اللاواعي واللامنضبط، وأدخل الحدث السوري في متاهات وتشعبات لا علاقة له بها من قريب أو بعيد.
ساهمت هذه المكونات كلها في إقناع العالم الخارجي بعدم التدخل لصالح الثورة، كما قللت من فعالية إجراءاته للضغط على النظام ودفعه إلى البحث عن صيغة غير الصيغة الأمنية للتعامل مع الثورة، ما يحتم على الثورة توجيه نضالاتها لتفكيك أطر هذا التحالف واعتبار هذا الأمر مهمة مستعجلة.
لماذا؟ لأن هذا التحالف، وفي حال نجاحه في قمع الثورة، فالمتوقع أن يطرح نفسه حاكماً أبدياً لسوريا، وفق توليفة وصياغة تضمن له الهيمنة على مختلف الأطر والمجالات والمواقع، في مواجهة الريف عموماً، السني وغير السني، والعشوائيات المحيطة بدمشق وحلب وحمص، والتي شكلت مع الريف خزان الثورة الأساسي ووقوده، والتي ستعتبر مهزومة في حربها بمواجهة هذا التحالف، وبالتالي سيتوجب عليها دفع كامل استحقاقات تلك الهزيمة، بما فيها حرمانها من المشاركة في القرار السياسي والعملية السياسية عموماً، فضلاً عن حرمانها من الموارد اللازمة لعملية إعادة الإعمار والعملية التنموية عموماً.