تحت كلمات سوينكا لا أدونيس/ ديمة الشكر
تتبع جزيرة لامبيدوزا الإيطالية إداريًا جزيرة صقلية الإيطالية. تكاد لامبيدوزا لا تُرى على الخريطة. حجمها صغير جدًا، ثم إن الصيت، إن ذاع، سيكون دائرًا في فلك صيت صقلية؛ صيت مافياوي.
للمافيا صورتها في السينما؛ رجال قدوا من تصميم مسبق على الإجرام، يجدون فيه “سلوكًا طبيعيًا”، حيث الاغتيال بكاتم الصوت، مثلًا، أسهل من تحية صباح، ولعلها أسهل أيضًا من “التصبيح على مصر بجنيه”، تلك الفلتة العبثية الخرافية غير المسبوقة.
لكن واقع الجزيرة الصغيرة جدًا، لامبيدوزا، يخبّر عن مافيا بأشكال أخرى، من تلك الرائجة عالميًا، سليلة العولمة؛ تجريف الأراضي الخصبة رغبةً في بناء الأبراج والشقق الحديثة، ومن ثم المضاربات العقارية اللاحقة التي ترفع الأسعار حد اللامعقول. في الجزيرة، وقفت الإيطالية، جيزي نيكوليني، ضدّ هذه المضاربات، فهي من المؤمنين بضرورة حماية البيئة. ورغم تلقيها تهديدات بالقتل، إلا أنها لم تخضع.
هذا الإصرار الذي لا يعرف التعب، ظهر في السنوات الأخيرة، وتحديدًا بعد عام 2012، حين أصبحت جيزي رئيسة بلدية الجزيرة الصغيرة.
لتلك المرأة، الملقبة بـ “اللبوة”، من قبل الكاتبة واللغوية الفرنسية الشهيرة جوليا كريستيفا، فضيلة تغيير صيت الجزيرة، من دفة المافيا والمضاربات إلى دفة الإنسانية. ففي غير مناسبة، لم تنقصها دقة التعبير في وصف الجزيرة الصغيرة: “أريد لجزيرتي أن تعود لتصبح مجددًا جسرًا بين قارتين، لا سجنًا تحت سماء مفتوحة”.
من وراء هذه الكلمات وغيرها، تشفّ واحدة من أزمات هذا العصر، أزمة لها عنوان معروف: “أزمة اللاجئين”. إلا أن الإيطالية جيزي، لا تستعمل لفظ اللاجئين، بل المهاجرين.
فقد شهدت هي بنفسها كي يلفظ الشاطئ هؤلاء المهاجرين، تارة أحياء ناجين، وتارة أخرى جثثًا وغرقى. وشهدها الناس على شاشة التلفزيون، وهي تساعد الناجين، حين لفظ البحر 366 جثة، جثة وراء أخرى، في شهر أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم. كانت جيزي تبكي، وقالت أمام الكاميرات المصوبة نحوها، إنها تعيش في جزيرة تفيض الجثث صوب شواطئها، وفي الوقت نفسه تكبلها السياسة الأوروبية..”السياسة الأوروبية منافقة، إذ تهتم بحماية حدودها أكثر من إقامة مشروع إنساني تعاضدي”. ولم تتردد في الاتصال بأحد المسؤولين الإيطاليين، لتقول له: “أقترح عليك القدوم إلى هنا من أجل أن تساعدني في عدّ الجثث”. الفكرة الأساسية التي تتمسك جيزي بها ؛ استيعاب تدفق المهاجرين مع الحفاظ على كرامتهم الإنسانية.
وحين حصلت مؤخرًا على جائزة سيمون دوبوفوار للحرية، المؤسَسة من قبل جوليا كريستيفا، نظرًا إلى كل ما عملته من أجل هؤلاء المنكوبين بحروب تدور كي تعمل مصانع الأسلحة، وبصراعات سياسية زئبقية بين دمى العولمة، استعملت كلمتها بقبول الجائزة، من أجل الاستمرار في لفت النظر إلى معاناة هؤلاء البشر : “الهجرة، هي منذ القدم الطريقة الأفضل لليائسين من أجل البقاء على قيد الحياة، هذا ما نتعلمه في لامبيدوزا… أرفض أن أوسّع مرة أخرى مقبرة الجزيرة، أرفض السياسة الأوروبية غير الأخلاقية والمخجلة، وتلك الرحمة المعقمة لهؤلاء الذين بكوا بعد رؤية صورة طفل ميت، ثم أغلقوا أبوابهم في وجه الآخرين”.
هكذا تبدو الأمور واضحة في ذهن جيزي، ابنة الجزيرة الصغيرة، حيث ثمة نصب تذكاري أقيم عام 2013 لأرواح أزيد من 300 غريق في البحر، لُفظ منهم إلى الشاطئ؛ طفلتان وامرأتان وثلاثة عشر رجلًا. كانوا من سورية ونيجيريا. الجثث التي وصلت إلى الشاطئ، حظيت بقبور لها شواهد. ولعلّ ذاك الجو الإنساني الذي أشاعته جيزي في الجزيرة، دفع إلى وضع قصائد على الشواهد، نظرًا إلى أن الضحايا مغفلو الاسم.
الضحية سورية ونيجيرية، ولأمر ما، من حسن الحظ طبعًا، تم اختيار مقاطع من قصيدة “المهاجر” للشاعر النيجيري، وول سوينكا، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1986. اختيرت مقاطع بعدد الجثث السورية والنيجيرية الملفوظة، كي تبقى ذكراهم حاضرة، أبدية.
حسن الحظ يأتي من أن أحدًا لم يتفطن إلى تلك “المعادلة الغريبة” التي تعاد سنويًا أيام نوبل للآداب، وتقترن بسورية، حيث ينشغل الإعلام بالحديث عن أدونيس وحظوظه تارة، ثم أدونيس وتعفّفه تارة، ثم أدونيس وخبثه تارة أخرى، ضمن دائرة مقيتة من الكلام الممجوج. حسن الحظ إذن، سمح للجثث التمتع بكرامة الموت تحت كلمات سوينكا لا أدونيس.
إلا أن المفارقة أو المصادفة، شاءت أن يقترن اسم ابنة جزيرة لامبيدوزا، بأدونيس، ضمن سياق جائزة ألمانية، قيل إنها تدعو للسلام وما إليه. قبل أدونيس الجائزة طبعًا، فهذا ديدنه. وفي كلمة قبوله لها واستلامها، أعاد على مسمع الأوروبيين ما يحبون سماعه من “إسلاموفوبيا” أو “استشراق”. أما ابنة الجزيرة، ورئيسة بلديتها جيزي نيكوليني، فرفضت الجائزة الألمانية بسبب أدونيس كما قالت صراحة. هكذا فكّت “اللبوة” التي تدافع عن الإنسان وكرامته، اسمها عن اسم أدونيس. أما الشعر فبقي كريمًا مكرمًا في مُقطّعات سوينكا، المحفورة على شواهد القتلى؛ نيجيريين وسوريين.
العربي الجديد