صفحات الثقافة

تحرير الشعر من استبداده

يوسف بزي

قد يكون هذا أول حدث سياسي ـ تاريخي عربي خالياً من الشعر. ربما أول مشهد عربي بلا شعراء. ان صح ذلك، فهذه ثورة اضافية ضمن الثورات العربية المندلعة منذ مطلع العام 2011.

في هذه اللحظة الخارقة للعادة، المتمثلة بخروج ملايين الشعوب العربية، في اكثر من بلد، ولأكثر من مرة في البلد الواحد، سلماً وعنفاً، هتافاً ورصاصاً، وبكل ما يعنيه هذا “الخروج” من تمرد وغضب وحلم وعواطف ملتهبة وتوق عميق للتغيير، ومع كل ما يرافق هذا “الخروج” من تحولات هائلة في الوجدان والعقل الفرديين والجماعيين، وما يصاحبه من تجارب حسية وروحية، سياسية وأخلاقية.. في هكذا لحظة، يغيب الشعر ويصمت، كما لو ان الشعر العربي وشعراءه قد أصابهما الخرس.

لا نتحدث عن جبال من القصائد المتكدسة التي قيلت في الثورات الحالية والمكتوبة بانفعال وعلى عجل، المنشورة منها والمرمية، والتي كتبها آلاف هواة الشعر والشعراء “العاديون”.. بل عن عدم وجود تلك القصائد التي “تقول” حقاً، التي تتقدم في الثورات وتوازيها، عبارة ولغة، وتستوعبها وتتشربها و”تنطقها” .. نتحدث على الأرجح، عن صمت الشعراء وعجزهم وتأخرهم عن المشهد، وتواريهم (لا كأشخاص، بل كتعبير) عن الحدث، وفقدانهم لـ”المكانة” و”الدور” اللذين عادة ما كانا للشاعر في صنع التواريخ العربية، تعبيراً والهاماً وتكثيفاً للذاكرة، ومرجعا لها في آن.

في الحقب المعاصرة على الاقل، غالبا ما ادعى الشعر العربي شراكته وطليعيته في “النهضة” و”التحديث” و”الثورة” على الماضي وعلى الواقع، واقترح ذاته بوصفه القابض على اسرار “بناء الانسان الجديد”، والناطق الرسمي باسم القضايا، ان لم يكن هو حاملها ومولدها وصانعها، وكان دوما المرجع الوجداني لـ”الحقيقة” وللأفكار وللمثالات. كان هو الوسيط بين الواقع والمأمول، كان هو المعارضة والاحتجاج، وهو المؤرخ وهو الرؤيا وهو المشروع والسياسة، هو الحب وهو السلاح. كان “البيان” ومستودع الاسرار، وميتافيزيقيا الكينونة العربية، وها هو غائب وموغل في الغياب.

فداحة هذا الأمر يمكن تلمسه إن تخيلنا القضية الفلسطينية بلا شعرائها مثلا، أو تخيلنا اليسار العربي كله بلا شعرائه ومغنيه، أو “البعث” و”الناصرية” بلا شعرائهما، او تخيلنا الستينات والسبعينات والثمانينات بلا صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وصلاح جاهين ومحمد الماغوط وأدونيس ونزار قباني ومحمود درويش وخليل حاوي وسعدي يوسف وعبد الوهاب البياتي وغيرهم الكثير..

لا نقول ذلك بحسرة على الاطلاق. فمعنى هذا الغياب يكمن في ماهية الشعر العربي الحديث ودوره. كما يكمن في اللغة كسلطة وايديولوجيا. فالحداثة الشعرية ارتبطت بادعاء ووعي اسقاطي، بامتياز نخبوي مفارق، باستعلاء فادح، وبعقائدية تبشيرية تتراوح بين دعاوى البعث وإعادة إحياء الفاشية المنحى، ودعاوى القطيعة التوتاليتارية، الاستئصالية والاقصائية. ومن لم يكن لا من هذا ولا من ذاك، كان واقعا بدوره في وهم إحلال اللغة بدل الحياة والاغتراب عنها. والأهم، ان الشعر اذ كان يطرح نفسه كمعارضة وكاحتجاج وكـ “بيان”، كان يفعل فعل التعويض المزيف: انا الواقع المشتهى. الثورة تحدث هنا داخل الكلمات وفيها وبها، لا في الميادين والشوارع، كذلك كان يطرح نفسه كسلطة بديلة، انا العدالة والحلم والرغبات.. لا فيزيائية الحياة المبتذلة.

يشبه الشعر العربي الى حد مذهل، الاستبداد العربي، فالأنظمة تلك هي عبارة عن جهاز غامض بقوانينه ولغته وعقيدته ومسالكه وفقهه، يحوز السلطة التي يجعلها بعيدة عن متناول العامة ومداركها ونظرها، وهي السلطة نفسها التي كانت تستنبت معارضة على شاكلتها، كصورة مرآوية مقلوبة. وفي الحالين، كان ثمة قطيعة تامة بين قطبي السلطة ـ المعارضة من جهة وبين المجتمع وبواطنه من جهة ثانية. ثم ان جهاز الاستبداد العربي، تألّف أصلا من “حركة” تحديثية، بعثية انقلابية، تبشر بالتقدم والعقلانية، متسلحة بايديولوجيات شمولية.

لا يبتعد الشعر العربي الحديث عن هذا التوصيف، وارثا في الوقت نفسه، السلطة التاريخية للقصيدة العربية وسطوتها، بوصفها لسان العرب وعقلهم. اضافة الى توسل اللغة كجهاز غامض وكامتياز في انتاج التعبير، الممتنع عن العامة.

ويبدو محقا ذاك الشاعر السوري، الذي أدرك ان الثورة في بلاده لا تهدد السلطة القائمة فقط، بل تهدد نصه ودعاويه ونظرياته وفقهه و”مشروع حداثته” واستبد به الرعب مثلما حدث للمعارضة الرسمية (مرآة السلطة المقلوبة) التي رأت في الثورات مجرد هيجان رعاع وعصيان جهلة وظلاميين!

ما رآه الشاعر في ثورة بلاده (وشعبه) صحيح. فهي عن حق جذرية ولن تكتفي باسقاط نظام سياسي. ففي حدث يشبه السحر، وبلحظة خارقة أطاحت لافتة واحدة يكتبها ويرفعها ابناء قرية نائية في بلاد قاحلة فقيرة، شبه أمية، بكل شعره ولغوه. بل ان سمة ثورات ليبيا وتونس ومصر وسوريا واليمن.. هي نثريتها، ركاكتها اللغوية، هجانة قاموسها ومفرداتها. ثورات بلا فصاحة وبلا بلاغة ولا حسن البيان. قولها من حطام لغوي، من مبتذل الكلمات المتداولة، من عمومية المفردات، من عادية العبارات… ثورات مفعمة بالشعرية، خالية من الشعراء.

لا يتعلق الأمر بتوسل شعوب هذه الثورات للوسائط التكنولوجية الجديدة ومواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال وبفنون التعبير المتراوحة بين اللافتة والغرافيتي والصورة الفوتوغرافية وشرائط الفيديو والبث المباشر والمشهديات.. وحسب، بل فوق هذا، يتعلق الأمر بادراك ضمني عميق بأن الاستبداد العربي في حقيقته هو الترجمة الأصدق للمشروع الشعري الحداثوي، الذي تحول كابوسا قاتلاً.

لذا، اليوم، المهمة المرغوبة هي “تحرير” الشعرية من الاستبداد، من سلطة “الحداثة” نفسها.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى