تحرُّشٌ…وإغواء/ علي جازو
يختلط ارتفاعُ منسوب التحرش وفضحِهِ مع طغيان الفساد الإداري ومحاربته (وهو فساد يكاد يكون كونياً!)، ويُراد من الاثنين – الإعلانِ والمحاربةِ، توجيه الحقيقة والحدث نحو فعالية مجتمعية وقانونية تجبه التحرش وتصده، وتكشف عن الفساد حتى توقفه.
غير أن التحرش الجنسي غيرُ الإغواء، فالأخير ينطوي على استمالةٍ وتودّدٍ من دون عنف أو إكراه، فيما التحرش، على العكس، لا يستوي في إطار علاقة متبادلة بين رجل وامرأة قوامُها الفعل المسالم والمبادرة اللطيفة، رغم أن الإغواء بدوره يشي بنوع من الخديعة، ويتضمن طيفاً من معاني نصب الشراك والمكر وغياب الصدق.
على الفور تتبادر صدمةُ الاعتداء إلى الذهن مع سماع أي نبأ عن التحرش. ومع توالي وتزايد الأخبار والوقائع التحرشية، يزداد الشعور بافتقار المجتمع وحركة نسائه إلى الأمان، فهنا ليست المرأة وحدها الضحية المستهدفة.
أرض التحرش
ما من مكانٍ واحدٍ لنشاط المتحرشين المتزايد، فأرض التحرش الحقيقية هي الرغبة المكبوتة المنحرفة واستغلال النفوذ والابتزاز وإكراهات العمل وغياب رادعٍ قيميٍّ لا ينظر معه المرءُ إلى النساء بوصفهن أشياءً أو مواضيع يمكن من خلالها إشباع رغباته. الحجرُ الأساسُ في مجابهة هذا الوباء تركيز الانتباه والمبادرة إلى إصلاح خلل نفسي وقيمي مجتمعي، ذاك أن الشيوع السلبي والتغاضي المذنب يدفعان المترددين المنزوين إلى الانضمام إلى متحرشين مرفهين!
غير أن تصورنا لمنع كلي للتحرش، عبر حملاتٍ حشديةٍ، يبقى غير واردٍ رغم كونه محل سجالٍ وحاجة ماسة. فالتحرش في جزءٍ منه ثمرة مريضة للحرية الفردية واختلاط أماكن العمل والدراسة التي هي سمة من سمات مجتمع يضع المساواة والمنافسة بين الجنسين على رأس قيمه. وربما لا ترضي الإشارة السابقة النسويين والنسويات، إذ يُخشى اعتبارُها توحي بتبرير للتحرش الذي يبقى اعتداءً غير مقبول.
لقد كان الفصل بين الجنسين، وما زال في مجتمعات كثيرة، طريقة لتجنب حوادث التحرش، غير أن بعضها يحدث داخل البيت الواحد، كما هو حال سيّد مع خادمته. والحوادث الفردية المعلن عنها والمحجوبة أكثر من أن تُحصى، غير أن الرابط بينها يتعلق ربما بوهم التملّكِ الفرديّ المنفلت من كل قيد، ناهيك عن ضروب غير متوازنة في إرساء علاقات خاصة بين أفراد مستقلين ومتساوين.
الفروق الجنسية تبقى هي المحك الذي تختبر من خلاله الإرادة والرضا من عدمهما، وربما ينبغي النظر إلى التحرش من الناحية النفسية على كونه محلاً لتنازع الرغبة والانفعال، وما بينهما من إرادة سيطرةٍ نهمة لا يمكن الدفاع عن تبريرها. ذلك أن تحديد التحرش كفعل محدد بدقة يبقى أمراً يدعو إلى الالتباس، فهل إذا ربت رجل مسنّ على كتف شابة مرحة بادلته ابتسامة مرحبة، يساوي في أثره دعوة امرأة إلى فندق على سرير فخم ثم القول لها إنكن، أي النساء عموماً، من طينة واحدة، وما عرضته عليك للتو لا يختلف في شيء عما فعلته مع أخريات كثيرات من أمثالك؟!
قناع التعريف
وفق تعريف قانوني، فإن التحرش الجنسي هو “أي تلميح جنسي غير مرحب به، وأي طلب جنسي أو سلوك لفظي أو جسدي، أو إيماءة ذات طابع جنسي، وأي سلوك آخر ذي طابع جنسي، قد يتسبب بالإساءة أو إذلال الشخص الآخر أو المس بكرامته. أو عندما يكون هذا السلوك شرطاً للعمل أو يخلق بيئة عدوانية وغير آمنة للشخص الآخر”.
لقد تطور الوعي بمشكلة التحرش بشكل واضح، وصار من الأسهل كشف حالات الانتهاك الجنسي الجسيم. كذلك، يُحسب لحملة “#MeToo” أنها ربطت قضية التحرش بموضوع السلطة، فما يحدث من انتهاك للنساء في الحيز العام وأماكن العمل هو اضطهاد عضوي ومؤسسي، سببه رجحانُ النفوذ والسلطة لمصلحة الذكور، فانتهاك الجسد – الأنثى ذروة تجسيد هيمنة ذكورية سلطوية.
إلا أن السياق الذي اتخذته الحملة، واهتبال جهاتٍ الفرصة لتوظيفات سياسية، إضافة إلى طابع الجدل المتشنج والانفعالي، دفع كثيرين إلى طرح أسئلة حول التأثيرات الفكرية المحتملة لمثل هذه الحملات.
عدالة الحشود
لعل من أهم الانتقادات في هذا السياق أن النسويات المعاديات للإباحية، لا ينطلقن من موقف نسوي بقدر تأثرهن برواسب دينية تختصر المرأة دائماً ضحيةً جنسيةً ضعيفة وليست شريكةً وندّاً، وهذا يعني ضمناً أنها غير مؤهلة لاتخاذ قراراتها الخاصة.
تتهم نسوياتٌ النمطَ السائد من النسوية اليوم بأداء عملية مزدوجة تفرض مناخاً من التشدد والفصل الجنسي عبر إضفاء طابع عدواني على كثير من التصرفات التي كان يُنظر إليها حتى الآن على أنها اعتيادية، مثل التقبيل أثناء التحية أو العناق أو التغزل والمجاملة. كما أن لتوسيع تعريف الاغتصاب، والتحرش ضمناً، ظرفاً مستحيلاً، فالغزل والإغراء صارا من الممكن بسهولة اعتبارهما تحرشاً.
كثيرون استغربوا الطريقة التي جُرّم بها المتهمون في حملة #MeToo، فبمجرد أن يُتّهم أحدٌ ما، تُعتَبر التهمة صحيحة، وتنصرف الحشود إلى عملية عقاب مباشر، دون اعتبار مبادئ قانونية أساسية، فالمتهم بريء ما لم تثبت إدانته.
يُفضي هذا الأسلوب إلى تفضيل “عدالة الحشود”، باختيار طريقة بدائية لتتوافق وتطبيق العدالة. هكذا يخوض حشدٌ واحدٌ لا عقل له، معركةً من أجل اتهام شخص وإدانته وتنفيذ الحكم عليه في اللحظة نفسها. عدالة الحشود تترافق وأحدث وسائل التقنية والتواصل، وهذا أحد أكثر ملامح العولمة غرابةً: ذروة البدائية تعانق أوج التكنولوجيا. لم تعُدْ إجراءات التقاضي الرسمية ذات أهمية في التعاطي مع الموضوع. هكذا يُنزَعُ تنفيذ العدالة من أيدي مؤسسات قانونية ويمنح إلى “سلطات اجتماعية”، من بينها جمهور وسائل التواصل والمؤسسات المالية والإعلامية النافذة.
تناقض
قد يكون لهذا الأمر تأثيرٌ ينحو منحى التناقض في بلدان أخرى، فهو يحض على رفع درجة الوعي وإعطاء زخم فاعل لمحاربة التحرش، وربما يؤدي على العكس إلى دعم حُجج رافضي الاختلاط الجنسي، فضلاً عن تعويم التحرش مثلما تُعوّم العملة السيئة طاردةً الجيدة؛ ففي أكثر الدول تقدماً ما زالت النساء ضحايا ضعيفات أمام رجالٍ مفترسين.
في مناطق تلامُ نساؤها لمجرد السفور أو إبداء الرأي، وتسود أسوأ القوانين الشخصية التي ليست سوى شكل يشرعن القمع والاضطهاد، يبرز التحرش كأمرٍ نظريٍ ورفاهيّ، لا تغيب عنه الدعاية وعوالم الفضائح، فيما يبقى الاعتراف والرفض ضرورةً لعالمٍ قلق سائلٍ ومتداخل.
ضفة ثالثة