تحطّم سفينة الإسلام السياسي
[برنار غيتا – صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية (9 تشرين الاول 2013).
الوقائع هنا أمام نظرنا، براهينها ثابتة، غير قابلة للدحض. ومع ذلك، التصور ما زال هو هو، يعاند هذه الوقائع، ويدافع عن فكرة “شتاء اسلامي” ورث “الربيع العربي”. فكرة تجذّرت في العقول، فيما كل شيء يكذّب سخفها وخبثها.
لنأخذ تونس على سبيل المثال: بعد الإنتخابات التشريعية التي جعلت من حزب “النهضة” الإسلامي أول حزب في البلاد، أخذ التونسيون يقولون، ومعهم الغربيون، إن “كل شيء انتهى”، وإن الإسلاميين سوف يقبضون على السلطة لعقود قادمة. كانت هذه الخشية مضخّمة. ومنها ذاعت نظرية بأن “الشتاء” بدأ يتسلّل… ولكن بعد عامين، أين هو حزب “النهضة”؟ فيما هو يسيطر على غالبية برلمانية بفضل ائتلاف أقامه مع تكتلين علمانيين، فانه لم يتمكن من إدراج أي بند “ديني” في مشروع الدستور الجديد. وعلى الرغم من إنقسامات علمانيي اليسار واليمين، فلقد استطاعوا أن يمنعوا “النهضة” من هذا “الإنجاز”؛ ذلك لأن التونسيات، رائدات المجتمع المدني التونسي، تمكنّ من تنظيم أنفسهن، وحشدن ألآلاف بصورة مستمرة في تظاهرات جماهيرية.
وحزب “النهضة” وجد نفسه أثناء تلك الفترة السابقة يواجه معارضة متعاظمة؛ والأخطر من ذلك ان أنصاره بدأوا يهجرونه تباعاً. هكذا، شهراً بعد شهر، ضمرت القاعدة الشعبية لهذا الحزب، لأن صغار الموظفين والتجار الذين صنعوا نصره الإنتخابي وجدوا ان الفوضى العارمة حلّت على بلدهم، الجهاديون يزدهرون فيها فيما إقتصادها يفلس.
لذلك، وجد حزب “النهضة” نفسه أمام أفق مسدود؛ فقبِلَ الأسبوع الماضي الشروع في مفاوضات مع المعارضة سيكون مطلوباً منه فيها أن يقبل بتشكيل حكومة تكنوقراط تكون وظيفتها الإعداد للإنتخابات المقبلة.
قد تفشل هذه المفاوضات؛ إلا أن الاسلاميين التونسيين لم يعودوا يسيطرون على الموقف، وهم الآن يفضّلون أن ينضموا الى المعارضة بعدما أنهكتْ السلطة أنفاسهم.
لنأخذ الآن مثل مصر: بعدما فاز “الإخوان المسلمون” في الإنتخابات التشريعية والرئاسية، أخذ نذراء الشؤم يتنبأون: “غداً ستكون مصر مثل إيران. ثيوقراطية وحجاب إلزامي!”.
كانوا مقتنعين بفكرتهم، لأن المسلمين كل المسلمين، برأيهم، باستثناء الديكتاتوريين من بينهم، هم غير متسامحين بالفطرة، متعصبون، تسيطر عليهم فكرة واحدة، هي إخضاع النساء لمشيئة الرجال. كانوا مقتنعين بالفكرة، لأنهم كانوا يعتقدون بأن الديكتاتوريات وحدها يمكنها ان تحمي العالم بأسره من ذاك الخطر العالمي الذي هو الإسلام… ولكن ماذا جرى في مصر؟
كما حصل في تونس، لم يحسن “الإخوان المسلمون” إدارة بلد يمر بصعوبات إقتصادية ضخمة. فهم لم يخفّضوا نسبة البطالة، إنما زادوا عليها. لم يرفعوا من مستوى عيش الفقراء، إنما دعوه يتفاقم. وقد أثبتوا أن الإسلام، مثل غيره من الأديان، لا يحمل بذاته حلولاً للتحديات الإجتماعية والإقتصادية. “الاخوان المسلمون” خيّبوا ظنون مؤيديهم وسلّحوا خصومهم، إلى حد أنهم واجهوا رفضاً جماهيرياً شعبياً جارفاً. وهو رفضٌ منح الجيش قوة الموجة الهائلة، التي رفعته عالياً. فكان أن عزل الرئيس الإخواني المنتخب وعاد إلى صدارة المشهد السياسي، في محاولة ناجحة لإستعادة السلطة. كل هذا لا يفرح. فهذا الإنقلاب العسكري، يمنح “الاخوان المسلمين” فرصة إعادة تمكين أنفسهم عبر معارضتهم للعسكر؛ فيما كانوا سيبقون هامشيين تماماً لو اكتفوا بممارسة التجارة والإستثمار. ولكن، أين هو “الشتاء الاسلامي”؟ إذا كان هناك من شتاء في مصر، فهو شتاء “الإخوان المسلمين”، الذين يتعرّضون اليوم لهجمة شرسة؛ وقد ينقسمون بين مجدِّدين وعقائديين. الإسلاميون المصريون بعيدون عن النصر. هم اليوم يمرّون في أخطر مرحلة من تاريخهم، لأنهم لم يفهموا ان بلدهم، مثل بقية البلدان العربية، يتوق الى الرخاء والديموقراطية، وليس مهموماً بتحديد هويته الدينية. لم يفهموا بأن الذين منحوهم أصواتهم كانوا مدفوعين بنوع من المحافظة الإقتصادية والإجتماعية، لا بالمزج بين الدين والسياسة، ولا بالدعوة الى الجهاد.
قد يعترض بعضهم: “حسنا. ولكن ماذا عن سوريا؟”. صحيح، سؤال مشروع. الإسلاميون هناك، وخصوصاً الجهاديين من بينهم، نظموا صفوفهم، مستفيدين من غياب الدعم الغربي للعلمانيين. ولكنهم لم يجدوا في سوريا دعماً شعبيا؛ وهم سوف يبتلون بممارسة السلطة، شأنهم شأن نظرائهم التونسيين والمصريين. لا شيء يسيء للإسلام السياسي قدر ما تسيء الديموقراطية. انه واقع تحجبه الفوضى الراهنة وإستمرار أعمال الإرهاب. والبلدان الديموقراطية عليها أن تتخذ قراراً بالنظر الى الواقع كما هو، بدل ان تتندّم على ديكتاتوريات ولى زمنها.
المستقبل