صفحات العالم

تحليل لما حدث في مصر – محموعة مقالات


 

الغموض الهدّام

حازم صاغية

جاء في إحدى الدعابات الفيسبوكيّة ما مفاده أنّ المصريّين كلّهم سعداء هذه الأيّام: فالذين يؤيّدون «الإخوانيّ» محمّد مرسي فرحون بفوزه، والذين يؤيّدون «الفلوليّ» أحمد شفيق فرحون بفوزه هم أيضاً، وأنصار «المجلس العسكريّ» فرحون، بدورهم، بأنّ أيّاً من المرشّحين لم يفز، أمّا الذين يحبّون حسني مبارك ففرحون ببقائه على قيد الحياة، فيما الذين يكرهونه فرحون بوفاته.

وهي لوحة بالغة التعبير عن حال التخبّط والغموض في مصر، حيث الأخبار نفسها صارت ذاتيّة جدّاً ونسبيّة جدّاً، حتّى بات في الإمكان لنصف الشعب أن «يصدّق» خبراً «يصدّق» نقيضَه نصفُ الشعب الثاني، وللنصف أن يتوقّع العكس الكامل لما يتوقّعه النصف الثاني.

ويجسّد هذا الطيران المتضارب خارج الواقع والوقائع إحدى سمات انعدام المعنى والوجهة. فمن هذا القبيل مثلاً قيل في جمهوريّة فايمار الألمانيّة، التي نشأت بعد صلح فرساي في نهاية الحرب العالميّة الأولى، إنّ الجميع فيها سعداء: الديموقراطيّون سعداء لأنّ النظام ديموقراطيّ، وأعداء الديموقراطيّة سعداء أيضاً لأنّهم واثقون من هشاشة الديموقراطيّة ومن سقوطها القريب، والفنّانون والمبدعون سعداء لأنّ الفنّ يعيش عصره الذهبيّ، وخصوم الفنّ كذلك لأنّهم يتهيّأون للقضاء على الفنّ «المنحطّ» وهم متأكّدون من نجاحهم في ذلك.

وعلى رغم الاختلاف بين المثالين، يبقى أنّ القاسم المشترك هو ضعف القاعدة التي ترتكز إليها الديموقراطيّة، فضلاً عن ضعف القاعدة التي يرتكز إليها الاستبداد. ولئن تولّت ثورة يناير إثبات الضعف الثاني والبرهنة على أنّ أنظمة كالنظام المباركيّ فقدت قدرتها على الحياة، فإنّ الثورة نفسها أثبتت أنّ الممكن هو طريق انتقال، متعثّر ومتناقض وخطِر، إلى الديموقراطيّة، وليس الديموقراطيّة نفسها.

فتضافر الدور الحياديّ للجيش، والوزن الكبير للإسلاميّين، والتبعثر المدهش لقوى المعارضة… تشي في مجموعها بالقدرة على إطاحة حسني مبارك وحاشيته، من دون القدرة على إنشاء نصاب ديموقراطيّ مستقرّ. وفي المعنى هذا تغدو العمليّة الانتخابيّة مرآة لغموض الإرادات وتضاربها أكثر منها مرآة للإرادة الشعبيّة، ولوحةً ترسم الاستحالات السياسيّة أكثر منها وجهةً تشير إلى احتمالاتها.

بطبيعة الحال يبقى أنّ عناصر كثيرة من هذه الحال مصنوعة، تولّى «المجلس العسكريّ» صناعتها بالاستفادة من أخطاء المعارضين وتفتّتهم. بيد أنّ الصناعة ما كانت لتتمّ لولا شروط موضوعيّة تتعدّى الأخطاء والتفتّت. ولنتذكّر، مثلاً، أنّ النظام المصريّ، بالمعنى العريض للكلمة، استطاع الحفاظ على بُنيته الاستبداديّة على رغم الانتقال من الناصريّة إلى الساداتيّة، وبينهما ما بينهما من فوارق، ثمّ من الساداتيّة إلى المباركيّة. وهذا علماً بأنّ وفاة ديكتاتور كفرانكو في أسبانيا، أو إطاحة طغمة من العسكريّين في اليونان، كانا كافيين لانتقال المجتمعين المذكورين إلى الديموقراطيّة، أي لتفعيل البذور الديموقراطيّة، الكامنة والمتأهّبة، في ذينك المجتمعين.

فإذا ما تحقّق «الصدام الواسع المرتقب» بين الإسلاميّين وخصومهم، والذي تحذّر منه وسائل الإعلام، وسط أزمة اقتصاديّة متفاقمة واضطراب مجتمعيّ واسع، أمكن للغموض أن يصير نظاماً، أو أن ينفجر نزاعاً لا يُرأب بعده المجتمع والدولة المصريّان. ومرّة أخرى تُدفع أكلاف التاريخ والاجتماع الباهظة، معطوفة على أكلاف نظام استبداديّ وتافه في وقت واحد.

الحياة

بعد الانتخابات الرئاسية: مصر في مفترق طرق

 مركز الجزيرة للدراسات

جرت الجولة الثانية والنهائية من انتخابات الرئاسة المصرية يومي 16 و17 يونيو/حزيران 2012 بين المتنافسين الذين تخطوا الجولة الأولى: مرشح حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسي للإخوان المسلمين، د. محمد مرسي، ورجل النظام السابق، آخر رئيس وزراء مبارك، الفريق أحمد شفيق. مع فجر الاثنين، 18 يونيو/حزيران 2012، أعلنت حملة مرسي فوزه بالرئاسة بفارق يناهز المليون صوتٍ. لم تعترف حملة شفيق بالهزيمة، بل أعلن الناطقون باسم الفريق أن مرشحهم هو الفائز. بمرور ساعات النهار، أكدت دوائر إعلامية وحقوقية، قامت هي الأخرى بمتابعة الانتخابات، فوز مرسي.

تأخر إعلان النتائج الرسمية، ولكن الأرقام المتوفرة تشير إلى أن مرسي تجاوز منافسه بأكثر من 800 ألف صوت، وذلك بعد إضافة أصوات المصريين المغتربين، التي صبّت لصالحه بفارق كبير. وبالرغم من أن هذه الأرقام تستند إلى محاضر النتائج المعلنة بلجان الاقتراع الفرعية، فليس من المستبعد أن تتغير قليلاً في الإعلان الرسمي النهائي، الذي سيأخذ في الاعتبار شكاوى واعتراضات حملتي المرشحين. وقد ارتفعت نسبة المقترعين في هذه الجولة عن الخمسين بالمائة، (ما يقارب 26 من بين 51 مليونًا يحق لهم التصويت)؛ وهي نسبة تفوق تلك التي سُجِّلت في الجولة الأولى، والتي لم تتجاوز 46 بالمائة. وإن كان في هذه الزيادة ما يشير إلى أن المصريين لم يُصابوا بعد بالإرهاق الانتخابي، فهي تحمل دلالة إضافية على حدة المنافسة وقدرة مناصري المرشحين على الحشد.

بيد أن أمل المصريين في أن تختتم انتخابات الرئاسة عملية انتقال السلطة، الطويلة والشاقة، من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى رئيس ونظام مدني حر، يتضاءل بصورة سريعة، بعد أن بدأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة هجمة مرتدة على قوى الثورة والتغيير، تستهدف الحفاظ على دوره في الحكم والسلطة.

هذه قراءة أولية للجولة الثانية من انتخابات الرئاسة ونتائجها، وللتحديات التي تواجه عملية انتقال السلطة، واحتمالات الصدام بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والقوى السياسية المتوقع وقوفها خلف الرئيس الجديد، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين.

العملية الانتخابية: الخوف المتبادل

جرت الانتخابات في ظل أجواء سياسية بالغة التوتر، مثقلة بنتائج الجولة الأولى. كانت جهود حثيثة بُذلت بعد ظهور نتائج الجولة الأولى لحشد القوى الثورية والأحزاب الديمقراطية، ومرشحي الرئاسة الرئيسيين الذين خرجوا من السباق، خلف مرسي، سيما بعد أن اتضح لهؤلاء جميعًا حجم التأييد الذي يتمتع به شفيق والإمكانات المالية المتوفرة لحملته. ولكن الانقسام الذي شاب الساحة السياسية المصرية منذ انتخابات مجلس الشعب في يناير/كانون الثاني 2012 استمر بلا هوادة. جرَّ المرشح السابق للرئاسة والقيادي الإخواني السابق، عبد المنعم أبو الفتوح، أقدامه جرًّا للإعلان عن تأييد متحفظ لمرسي؛ بينما أحجم المرشح السابق الآخر، حمدين صباحي، كلية عن تأييد أي من المرشحين. وبدا أن صباحي كان ينتظر معجزة تؤدي إلى قيام المحكمة الدستورية بإلغاء الانتخابات وإعادتها من البداية، أو اندلاع ثورة ثانية تعيد المنافسة الرئاسية إلى البداية. قدّم مرسي لأبي الفتوح وصباحي عروضًا جدية بتعيينهما نوابًا للرئيس، ولكن كليهما رفض العرض.

أما المرشح السابق، عمرو موسى، الذي حلّ خامسًا في الجولة الأولى، فإن الآمال كانت ضئيلة في الحصول على تأييده لمرسي؛ بل وبدا في الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية أنه بات مقتنعًا بفوز شفيق، وأخذ بالتالي في الإعراب عن مواقف تصالحية تجاهه، بالرغم من أن هزيمة موسى الساحقة في الجولة الأولى وقعت على يد شفيق وليس أي مرشح آخر.

لم يتردد عدد من الشخصيات الليبرالية الأخرى، مثل أسامة الغزالي حرب وسعد الدين إبراهيم، إضافة إلى حزب المصريين الأحرار الليبرالي، وعدد من قادة حزب الوفد، وحزب التجمع اليساري، في الإعلان الصريح عن تأييد شفيق. وقد اصطفت خلف شفيق كافة وسائل الإعلام الحكومية، وغالبية الصحف ومحطات التلفزة الخاصة. بيد أن الدعم الأكبر لشفيق جاء من شبكة رجالات الحزب الوطني المنحل المنتشرة في أنحاء البلاد، ومن قطاع واسع من رجال الأعمال الأثرياء الذين عُرفوا بعلاقاتهم الوثيقة بالنظام السابق، ومن دوائر المؤسسة الأمنية المتمرسة بإدارة بالانتخابات، كما من دوائر الحكم المحلي، ذات الصلة المباشرة بالناخبين والدراية بالخارطة الاجتماعية التقليدية في المحافظات والمناطق الريفية. ولم يكن هناك ثمة شك في أن شفيق كان المرشح الأفضل لجهاز الدولة، بما في ذلك المؤسسة العسكرية، وقواعد النظام السابق، داخل جسم الدولة والحكم وخارجهما.

في الجهة المقابلة، انحازت القوى والقيادات الإسلامية، سواء في التيار السلفي واسع الانتشار أو في الجماعة الإسلامية والجمعيات الإسلامية التقليدية، مثل الجمعية الشرعية وأنصار السنة، إلى جانب مرسي. كما تلقت حملته دعمًا من قطاع واسع من النشطين الشباب الذي عملوا في حملة أبو الفتوح، ومن عدد أقل من أولئك الذين عملوا في حملة صباحي. وتلقى مرسي دعمًا من حركة 6 إبريل، ومن حزب التيار المصري، المشكل من شبان إسلاميين ثوريين، ومن عدد من المجموعات الثورية الأصغر. وقد نهضت الآلة الإخوانية التنظيمية في كافة أنحاء البلاد بصورة غير مسبوقة لدعم آخر المرشحين قدومًا لساحة المنافسة، وصاحب أقصر حملة انتخابية بين المرشحين جميعًا.

أصبح الخطاب الذي تبناه مرسي في الحملة الانتخابية الثانية، القصيرة إلى حد كبير، أكثر وطنية وتصالحية مع القوى والاتجاهات الأخرى مما كان عليه في الحملة الانتخابية الأولى، التي اتسمت بلغة إسلامية واضحة. كما أن الشخصيات الدعوية الإسلامية، التي رافقت مرسي في الكثير من محطات الجولة الأولى، غابت كلية عن الجولة الثانية. ولكن المؤكد أن حملة شفيق تفوقت سياسيًا على حملة مرسي؛ وقد وقف خلف شفيق، المعروف بقلة درايته السياسية، عدد من المحترفين، الذين عرفوا كيف يؤثرون على عموم الناخبين المصريين. وكان على مرسي في بعض لحظات حملته الانتخابية أن يسارع للحاق بجملة الوعود التي قدمها شفيق لقطاعات الناخبين الأكثر فقرًا أو المثقلين بالديون، مثل صغار الفلاحين والعمال وفقراء المدن الكبرى.

ما أضر بمرسي كان عجز آلته الانتخابية، في مواجهة إعلام منحاز لمنافسه، عن مواجهة الحملة الشرسة ضد مجلس الشعب، الذي تكرس في وعي المصريين باعتباره مجلس الإخوان والإسلاميين، بالرغم من إنجازات المجلس في حقل التشريع خلال الشهور القليلة من عمره التي سبقت انتخابات الرئاسة. ولكن ما ساعد مرسي، كان التعاطف المتزايد معه بعد صدور قراري المحكمة الدستورية يوم الخميس 14 يونيو/حزيران 2012، التي حكمت بعدم دستورية قانون العزل وعدم دستورية بعض مواد قانون انتخابات مجلس الشعب.

ولَّد القراران شعورًا بأن مرسي (والعملية السياسية برمتها)، يتعرضان لهجمة سافرة من أدوات النظام القديم والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، فساعدا على أن يحسم قطاع كبير من المترددين موقفه لصالح مرسي. وكان لخطاب التحدي الذي ألقاه مرسي مساء اليوم نفسه وقعٌ كبير على الرأي العام، عزّز من موقفه كمرشح للثورة وأملها الأخير في الوقوف أمام محاولة ابتعاث النظام السابق من جديد.

كما أظهرت حملة مرسي قدرة فائقة على تنظيم وإدارة الحملة الانتخابية، سيما في اختيار اللقاءات الجماهيرية والإعلامية واللقاءات مع الفئات المتخصصة؛ كما تعاملت مع النتائج بكفاءة، بدت في نجاحها في التوصل إلى مجموع الأصوات التي أُدلِيت لكل مرشح في الأغلبية العظمى من اللجان الفرعية قبل الرابعة من صباح الاثنين 18 يونيو/حزيران 2012. وقد اتخذت حملة مرسي عددًا من الخطوات التكتيكية عند اتضاح النتائج، بما في ذلك الإعلان المبكر عن فوزه، ومن ثَمَّ توفير صورة من محاضر النتائج للصحافة والمهتمين.

ووردت تقارير بأن العملية الانتخابية شهدت تزويرًا مباشرًا، أو غير مباشر تجلّى حسب تقارير في استخدام قوى النظام السابق المال السياسي بشكل واسع وكثيف، وتجلّى الأول في توظيف وسائل تلاعب لا يسهل على المراقبين اكتشافها، مثل التصويت المتكرر للأفراد، والبطاقات الدوارة، بل ودس بطاقات التصويت بالجملة إلى صناديق الاقتراع. ولكن قانون الانتخابات الذي أصدره مجلس شعب الثورة، الذي ألزم لجان الاقتراع الفرعية بإجراء حساب الأصوات محليًا، بحضور مندوبي المرشحين، وتسليم صورة من محضر النتائج للمندوبين، مطابقة لتلك المرسلة إلى لجان الاقتراع الرئيسية ولجنة الانتخابات العليا، جعل من التزوير عملية غير مضمونة النتائج، بمعنى أن من قام بالتلاعب لم يكن ليعرف، ولا حتى على وجه التقريب، ما سيكون عليه الفارق النهائي بين المتنافسين.

النتائج: تأكيد اتجاهات الجولة الأولى

يمكن تقسيم المحافظات الـ 27 للجمهورية المصرية إلى خمس مجموعات تصويتية:

الأولى، تشمل المحافظات الست الكبيرة: (القاهرة، الجيزة، الدقهلية، الشرقية، الإسكندرية، البحيرة)، التي تضم كل منها كتلة تصويتية تتراوح بين 6,5 مليون صوت (القاهرة) و3,2 مليون صوت (البحيرة)، ويكاد مجموع أصواتها يصل إلى نصف عدد من يحق لهم التصويت في كافة أنحاء الجمهورية.

تضم المجموعة الثانية ست محافظات أخرى: (الغربية، المنيا، القليوبية، سوهاج، المنوفية، أسيوط)، التي تتراوح أصوات كل منها بين 2 و2,9 مليون صوت.

تشمل المجموعة الثالثة أربع محافظات: (كفر الشيخ، قنا، الفيوم، بني سويف)، التي تقع الكتلة التصويتية لكل منها بين 1,4 و1,9 مليون من الأصوات.

تضم المجموعة الرابعة أربع محافظات أخرى: (أسوان، دمياط، الإسماعيلية، الأقصر)، تقل أصوات كل منها عن المليون وتزيد عن نصف المليون من الأصوات.  أما المجموعة الخامسة، فتشمل سبع محافظات: (بورسعيد، السويس، البحر الأحمر، جنوب سيناء، مرسى مطروح، الوادي الجديد، شمال سيناء)، تقل أصوات كل منها عن نصف المليون من الأصوات.

احتدم الصراع بين الطرفين المتنافسين على المجموعتين الأولى والثانية، بدون أن يحقق أي منهما اختراقًا كبيرًا. حقّق شفيق انتصارًا في ثلاث من الست الكبرى، بما في ذلك محافظة القاهرة، صاحبة الكتلة التصويتية الأكبر على الإطلاق، وهي المحافظات ذاتها التي تقدم فيها على مرسي في الجولة الأولى، والتي حقق في اثنتين منها المركز الأول بين جميع المرشحين. وفاز مرسي في الثلاث الأُخَر من الست الكبار، كان صاحب المركز الأول في اثنتين منها في الجولة الأولى، كما كان تفوق على شفيق في الثالثة (الإسكندرية). تمثل الإنجاز الأكبر لمرسي في الفوز الحاسم بالإسكندرية، بعد أن تحسن أداء آلة الإخوان الانتخابية واصطفت الكتلة السلفية الضخمة في المدينة إلى جانبه. وكانت المفاجأة الثانية في إخفاق شفيق في تحقيق نصر كبير في القاهرة، التي كان يأمل أن تعطيه فارقًا يصل إلى مليون من الأصوات، بالرغم من أن نسبة التصويت فيها تجاوزت معدل الخمسين بالمائة المسجل في عموم البلاد. وقد استطاع مرسي تعويض تقدم شفيق بفارق نصف المليون صوت في القاهرة، بفارق يقترب من نصف المليون في محافظة الجيزة الأصغر، التي صوتت لمرسي بصورة كاسحة.

ولكن القاهرة، بكتلتها التصويتية المسيحية الكبيرة، التي قد تصل إلى المليون صوت، وتياراتها السياسية وقواها الاجتماعية المتنوعة، تظل عقبة كأداء أمام القوى الإسلامية السياسية؛ وليست محافظة القاهرة وحسب، بل والجزء القاهري من محافظة الجيزة أيضًا.

في المجموعة الثانية، حقق شفيق أكبر فوز له على الإطلاق في محافظة الغربية، حيث فاقت الأصوات التي أعطيت له تلك التي ذهبت لمرسي بما يزيد عن 600 ألف صوت. كما حقق شفيق انتصارًا كبيرًا في محافظة المنوفية، ذات الارتباط الوثيق بجسم الدولة والحكم منذ عهد الرئيس السادات؛ حيث تجاوزت حصته حصة مرسي بما يقارب نصف المليون من الأصوات. وقد فاز شفيق بفارق أقل في القليوبية، المحافظة اللصيقة بالقاهرة. هذا، بينما تفوق مرسي في الثلاث الأخر من المجموعة الثانية، محققًا فوزه الأكبر في المنيا، التي وفرت له فارقًا يقارب 400 ألف من الأصوات. ولكن ما رجح كفة مرسي في النهاية كان فوزه في أغلب محافظات المجموعات الثالثة والرابعة والخامسة.

جغرافيًا، وهو الأمر الذي لا يقل دلالة، فاز مرسي في 17 محافظة، تضم الأغلبية الساحقة من محافظات الصعيد، من الجيزة إلى أسوان، وساحل المتوسط، من مرسى مطروح إلى شمال سيناء، بحيث لم يتفوق شفيق سوى بواحدة على طول خط الصعيد الطويل، هي الأقصر، وواحدة أخرى على طول ساحل المتوسط، هي بورسعيد. وربما يدحض التوزيع الجغرافي للخارطة الانتخابية المقولة التي تنسب لمرسي الفوز في المحافظات المهمشة وحسب؛ فمحافظات الساحل التي صوتت له بقوة لا تُعتبر عادة بين تلك المهمشة على أية حال. ما ساعد شفيق، من جهة أخرى، على اللحاق بمنافسه، كان انحياز محافظات الدلتا الزراعية والقاهرة له، والصوت المسيحي الذي ذهب لصالحه في كافة أنحاء الجمهورية.

وربما يكون من المبكر الذهاب إلى تحليل اجتماعي لكتلتي المرشحيْن الانتخابية، إلا أن بعض المؤشرات تبين أن الوضع الاجتماعي لم يكن حاسما في سلوك التصويت،  فبينما يُعتبر سكان الصعيد، في المتوسط، الأكثر فقرًا، وهم الذين صوتوا لمرسي بكثافة كبيرة، جاءت أغلبية أصوات شفيق في محافظة القاهرة من أحياء العاصمة الشعبية، الأفقر نسبيًا، في حين تقاسم أحياء الطبقة الوسطى القاهرية مع منافسه.

في صورة عامة، يبدو أن أغلبية الأصوات التي ذهبت لأبي الفتوح في الجولة الأولى صبت لصالح مرسي في الثانية؛ بينما حصل مرسي على نسبة أقل من أصوات صباحي، ونسبة أقل بكثير من أصوات عمرو موسى. أغلب الأصوات التي حصل عليها الأخير في الجولة الأولى، صبت لصالح شفيق في الثانية، إضافة إلى نسبة أقل من أصوات صباحي، وأخرى ضئيلة من أصوات أبي الفتوح. والأرجح أن جزءًا ملموسًا من أصوات صباحي قد امتنع عن التصويت، ولكن حملة المقاطعة في مجملها قد فشلت. وربما جاءت الزيادة الملموسة في أصوات المقترعين في الجولة الثانية عن سابقتها من أصوات القطاع السكاني المؤيد للسلفيين، الذي حال انقسام شيوخهم في الجولة الأولى دون إقبالهم على مراكز الاقتراع.

ويمكن الاستنتاج، أيضًا في صورة عامة، أن النتائج لا تنم عن وجود استراتيجية استهداف انتخابي متماسكة لأي من الطرفين؛ ففي النهاية، لم يستطع أي من المرشحين تحقيق اختراق ملموس في المحافظات التي تبين من الجولة الأولى الاتجاه الذي ستذهب إليه في الجولة الثانية. وهذا، ربما، ما يفسر الفارق غير الكبير، الذي حققه مرسي.

استمرار واتساع السيطرة العسكرية

سبق الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة، وواكبها، وتلاها، صدور خمسة قرارات مهمة وبالغة الدلالة، عن المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة.

تمثل الأول في حكم المحكمة الدستورية قبل يومين فقط من بدء الانتخابات، بعدم شرعية قانون العزل  السياسي، فأفسح الطريق أمام مواصلة شفيق جولة الانتخابات الرئاسية، بالرغم من صدور قانون عن مجلس الشعب بحرمان كبار رجالات النظام السابق من حقوقهم السياسية، وبالرغم من أن عرض القانون على المحكمة الدستورية من قبل اللجنة العليا للانتخابات كان إجراءُ شاب قانونيته الكثير من الشكوك.

أما القرار الثاني، فكان أكثر إثارة للجدل، وتعلق بالحكم بعدم دستورية عدد من مواد قانون انتخابات مجلس الشعب، وافتراض المحكمة الدستورية لنفسها حق الإعلان عن أن حل مجلس الشعب يفتقد المشروعية منذ تأسيسه. لم تستخدم المحكمة الدستورية في منطوق حكمها، ولا حتى في حيثياته، كلمة “حل”، ولكن الانطباع الذي رسَّبه الحكم أنها أرادت حل المجلس المنتخب من 28 مليونًا من المصريين.

أحاطت قوات الجيش والشرطة مجلس الشعب لمنع النواب من العودة إليه. وخلال يومين من صدور الحكم، أرسل المشير طنطاوي، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، للدكتور محمد سعد الكتاتني، رئيس مجلس الشعب، يُعلمه بقرار المحكمة الدستورية، في إيحاء واضح بأن المجلس الأعلى يعتبر أن مجلس الشعب قد حُلَّ بالفعل. ولكن الكتاتني، مؤيدًا بعدد كبير من النواب، وكبار القضاة المتقاعدين والقانونيين الدستوريين، لم يزل يرى أن المجلس لم يُحَل، وأن الإعلان الدستوري المنظم للمرحلة الانتقالية لم يعط الحق بحل المجلس لأي من مراكز القوة التنفيذية، ناهيك عن منح هذا الحق لجسم قضائي، يفترض أن لا تكون له سلطة تنفيذية على الجسم التشريعي للدولة. ولم يفلح لقاء عُقِد بين الكتاتني والمجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 17 يونيو/حزيران 2012 في التوصل لحل مُرْضٍ لكلا الطرفين.

وتمثل القرار الثالث في قيام المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مساء يوم 17 يونيو/حزيران 2012، وبعد مرور ساعات قليلة على بدء عملية فرز الأصوات، بإصدار إعلان دستوري مكمل للإعلان الجاري العمل به. ينطلق الإعلان الدستوري الجديد من أن مجلس الشعب قد حُلَّ بالفعل، ويعيد سلطات مجلس الشعب التشريعية والرقابية إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي سيظل محتفظًا بها حتى بعد تسلم رئيس الجمهورية المنتخب لموقعه في نهاية يونيو/حزيران وإلى أن يُنتخب مجلس شعب جديد. بهذا لن يكون باستطاعة رئيس الجمهورية وحكومته إصدار أي قانون، بما في ذلك الميزانية العامة، بدون موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. كما يستبطن الإعلان الدستوري، في نص غامض نسبيًا، حرمان رئيس الجمهورية من سلطات القائد الأعلى للقوات المسلحة، على الأقل حتى كتابة وإقرار دستور البلاد الجديد.

ويعطي الإعلان، إضافة إلى ذلك، للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الحق في تشكيل جمعية تأسيسية جديدة لكتابة الدستور خلال أسبوع من بروز حائل يمنع الجمعية التأسيسية الحالية، (التي انتخبها مجلس الشعب قبل توقف جلساته)، من مواصلة عملها. وينص الإعلان الدستوري على أن من حق رئيس الجمهورية أو رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو رئيس الوزراء أو رئيس الهيئات القضائية أو خُمس أعضاء الجمعية التأسيسية الاعتراض على أي نص يتم الاتفاق عليه في الجمعية التأسيسية وإحالة الأمر للمحكمة الدستورية للبت في الخلاف، بحيث يكون قرار المحكمة فاصلاً ونهائيًا.

ما تعنيه هاتان المادتان في الإعلان الدستوري الجديد أن الجمعية التأسيسية المنتخبة تعمل الآن تحت رحمة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأن أي تعثر في عملها أو اعتراض قضائي على قانونيتها سيؤدي إلى حلها مباشرة. كما أن قواعد التصويت التي أقرها مجلس الشعب لعمل الجمعية التأسيسية، في حال بروز خلاف بين الأعضاء حول نص ما، لم يعد لها من فعالية تذكر، طالما أن الإعلان الدستوري الجديد أعطى حق الاعتراض على نصوص مسودة الدستور لجهات عديدة، بما في ذلك خمس أعضاء الجمعية ذاتها.

في 14 يونيو/حزيران 2012، أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة مرسومًا بتشكيل مجلس الدفاع الوطني، الذي كان نُصَّ عليه في الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس/آذار 2011. والمدهش أن المرسوم لم يثر انتباه كثيرين إلا بعد عدة أيام من نشره في الجريدة الرسمية. ينص المرسوم على أن مجلس الدفاع الوطني يتكون من رئيس الجمهورية، رئيسًا للمجلس، وعضوية 16 آخرين، 11 عضوًا بينهم من العسكريين، بما في ذلك وزير الدفاع؛ وأن المجلس يتخذ قراراته بالأغلبية المطلقة؛ وأنه يختص بالنظر في الشؤون المتعلقة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها.

كانت فكرة تشكيل مجلس للدفاع الوطني محل توافق بين كافة القوى السياسية، وتصورته القوى السياسية المختلفة باعتباره المؤسسة التي ستنظم الشراكة المدنية–العسكرية في تقرير المسائل الخاصة بأمن البلاد والدفاع عنها. ولكن صدور القرار بتشكيل مجلس الدفاع الموعود من أغلبية عسكرية يوحي برغبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في السيطرة على القرار الاستراتيجي للبلاد.

كما أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة قرارًا بتعديل قراره السابق رقم 56 لسنة 2011، ينص على تشكيل لجنة بديوان رئاسة الجمهورية للشؤون المالية والأفراد، برئاسة اللواء عبد المؤمن فودة، كبير الياوران، وعضوية أربعة آخرين. وبالرغم من توكيد المجلس الأعلى للقوات المسلحة على أن اللواء فودة لن يكون رئيسًا لديوان الرئيس، فالواضح أن ما سيترتب على القرار إجبار رئيس الجهورية الجديد على العودة إلى هذه اللجنة عند اتخاذ أي قرار يتعلق بمالية أو أفراد رئاسة الجمهورية، وأن يحصل على موافقة أغلبية اللجنة لنفاذ القرار. ولا يمكن فهم مثل هذا القرار إلا في سياق تقليص صلاحيات الرئيس حتى فيما يتعلق بمؤسسة الرئاسة نفسها، وشؤونها المالية وكادرها الوظيفي؛ بمعنى أن الرئيس لن يستطيع أن يعيِّن مستشارين أو معاونين له بدون موافقة لجنة الديوان، المعينة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة.

في النهاية، ولأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يحتفظ لنفسه بالسلطات التشريعية، فإن الرئيس المقبل للجمهورية لن يستطيع إصدار قوانين بمراسيم، بل لابد لأي مشروع قانون يخطط هو أو حكومته لإصداره أن يحال للمجلس الأعلى للقوات المسلحة للموافقة عليه. وهذا ما يعني أن القرارات الصادرة عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بما في ذلك تلك الخاصة بتشكيل مجلس الدفاع الوطني أو ديوان الرئاسة، ستبقى نافذة ولن يستطيع رئيس الجمهورية تغييرها إلى أن يفقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطات التشريعية بعد انتخاب مجلس الشعب الجديد. ولأن عشرة أيام لا تزال تفصل بين الإعلان الرسمي عن نتائج انتخابات الرئاسة وتولي الرئيس مهماته، فإن أحدًا لا يعرف ما إن كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة يخطط لإصدار قرارات أخرى في هذه الأيام العشرة.

آفاق وملفات الصدام

إحدى أهم دلالات انتخابات الرئاسة، إذا أعلنت اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية فوز محمد مرسي، أنها تضع نهاية فعلية لسياسة الاستبعاد التي تبنتها الدولة المصرية تجاه الإخوان المسلمين طوال ثمانية عقود؛ وهذا الاستبعاد فرَّغ السياسة من معناها في مصر وولَّد فترات متفاوتة ومتكررة من الصراع والعنف الداخليين. القوة السياسية الرئيسية في البلاد تعود الآن للمشاركة في بناء الجمهورية الجديدة. من جهة أخرى، قد يجنَّب فوز مرسي البلاد من مخاطر عودة النظام السابق إلى الحكم، وما كان يمكن لفوز شفيق أن يحدثه من ردود فعل داخلية وفقدان للاستقرار.

ولكن الانتخابات أظهرت في الوقت نفسه أن البلاد، وقواها السياسية المختلفة، وحزب الحرية والعدالة على وجه الخصوص، تفتقد البنية التحتية الضرورية لممارسة السياسية في مناخ حر، ديمقراطي وتعددي. تفتقد مصر الجديدة مراكز أو شركات استطلاع رأي حرة ومحترفة؛ تعددية فعلية في وسائل الإعلام، الموزعة حاليًا بين ملكية الدولة وملكية رجال أعمال ربطتهم علاقات وثيقة بالنظام السابق؛ وتفتقد قاعدة متنوعة من رأس المال، القادر على مساندة توجهات وقوى سياسية مختلفة.

ولأن الحياة السياسية المصرية بعد الثورة تعاني من انهيار التوافق الضروري بين القوى السياسية لإنجاز عملية الانتقال إلى الديمقراطية، فقد توفرت للمجلس الأعلى للقوات المسلحة فرصة كبيرة لتعزيز موقعه ودوره. كان الحراك الشعبي قد نجح في تطويع إرادة المجلس الأعلى في أسبوع الاحتجاج الكبير، 18-25 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، عندما أُطيح بحكومة شرف ومعها وثيقة علي السلمي. ولكن فوز الإخوان والسلفيين في انتخابات مجلس الشعب، في يناير/كانون الثاني 2012، تسبب في ابتعاد كثير من القوى والشخصيات الليبرالية والعلمانية عن منطقة التوافق، ومحاولة البحث عن سند لدى المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمواجهة الثقل الإسلامي الكبير. في الوقت نفسه، كان الإخوان يرتكبون سلسلة من الأخطاء في سياق العلاقة مع الجماعات الشبابية الثورية والقوى السياسية الليبرالية والعلمانية، ساهمت هي الأخرى في تصعيد الخلافات السياسية. وما إن أُعلن عن تشكيل الجمعية التأسيسية الأولى، حتى تفاقمت حالة الخلاف والاستقطاب بين الإسلاميين والقوى السياسية الأخرى.

ما يقوم به المجلس الأعلى للقوات المسلحة اليوم لا يتصل بالتحوط من تسلم مرسي مقعد الرئاسة وحسب، ولكن أيضًا بهجمة مرتدة على الحراك الشعبي، تستهدف الحفاظ على سيطرة المؤسسة العسكرية على مقدرات الدولة والحكم، بصورة مباشرة وغير مباشرة، لأطول فترة ممكنة، أو إلى أن يرضى المجلس على موقعه وامتيازاته الدستورية.

ولذا، فإن موعد تسليم السلطة في 30 يونيو/حزيران 2012 سيكون مجرد بداية وليس نهاية الطريق نحو بناء جمهورية مدنية، حرة وتعددية. والواضح، على أية حال، أن كل ملفات الصراع على مستقبل البلاد باتت مفتوحة، سيما بعد المظاهرة المليونية في ميدان التحرير، مساء الثلاثاء 19 يونيو/حزيران 2012:

1- ملف الإعلان الدستوري المكمِّل برمته، المرفوض من الإسلاميين والقوى الثورية، والذي كان رفضه العنوان الرئيس لمليونية الثلاثاء 19 يونيو/حزيران 2012.

2- ملف مصير مجلس الشعب، الذي لم تزل أغلبية نوابه ترى أن أية جهة لا تسطيع اتخاذ قرار بحله.

3- ملف صلاحيات الرئيس المنتخب، خاصة في مواجهة تغول المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومحاولته فرض سيطرته على مقدرات الدولة والحكم.

4- ولا ينبغي إغفال احتمال، لم يزل ضعيفًا وإن لم يكن مستبعدًا كلية، أن يُفاجَأ المصريون بإعلان اللجنة العليا للانتخابات فوز شفيق وليس مرسي، متوسلة إلى ذلك بطريقة أو أخرى. خاصة وأن هناك من المؤشرات ما يوحي بذلك، كالتأخر في إعلان نتائج الانتخابات، وإشارة حملة شفيق إلى أنها تراهن على الطعون لترجيح كفتها، وإصدار المجلس العسكري بيانا عشية إعلان النتائج يحذر من الفوضى ويلوِّح بالقبضة الحديدية ويدعو إلى قبول نتائج الانتخابات التي ستعلن عنها اللجنة العليا، وهي كلها رسائل موجهة إلى الاخوان والقوى الثورية المساندة لهم.

أن تُفتَح هذه الملفات جميعًا في وقت واحد، وبعد أيام من انتهاء انتخابات الرئاسة، يعني أن مصر مقبلة على مواجهة مريرة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومعه مؤسسات الدولة والقضاء الموالية له، من جهة، والإخوان المسلمين، ومعهم، بدرجات متفاوتة من الصلابة، الجماعات الثورية الشبابية، والقوى السلفية المختلفة، وبعض القوى والشخصيات الليبرالية. قد تؤدي هذه المواجهة إلى انفجار سريع في الساحة السياسية، سيما إن أُعلن شفيق رئيسًا، أو إلى سلسلة متصلة من التدافعات والأزمات لعدة شهور مقبلة، وربما تمتد لأكثر من عام.

في النهاية، سيكون على المجلس الأعلى للقوات المسلحة تقديم تنازلات ملموسة لصالح بناء دولة مدنية، حرة، وديمقراطية، على أن يستمر الصراع بعد ذلك بوتيرة منخفضة، ولعدة سنوات مقبلة، من أجل تحرير الدولة كلية من السيطرة العسكرية. الخيار الآخر أن يقوم المجلس الأعلى للقوات المسلحة بانقلاب عسكري سافر، بعد إدراكه أن الانقلاب العسكري المقنَّع الذي يقوم به منذ الأسبوع الثاني ليونيو/حزيران لم يحقق أهداف الاستحواذ على القرار وصناعة الاستقرار في الوقت نفسه.

في انتظار الصفقة التاريخية

لتأخذ مصر مسارًا يصب لصالح الحرية والتحول الديمقراطي، لابد من إدراك المسائل التالية:

1- لابد من الحرص على تولي الرئيس المنتخب مهمات منصبه في نهاية يونيو/حزيران 2012؛ إذ مهما كانت الضغوط ومخططات تحديد صلاحياته، فإن وجود رئيس جمهورية منتخب في موقعه، يقف إلى جانب الحركة الشعبية وضد مخططات السيطرة العسكرية على الحكم والدولة، هو أمر بالغ الأهمية في حسابات موازين القوة.

2- ما أصبح واضحًا بعد أسابيع من الجدل حول تقدم الإخوان بمرشح للرئاسة، أن الإخوان وحدهم من يملك المؤهلات ومصادر القوة الضرورية للوقوف أمام قوة المؤسسة العسكرية، وبقايا النظام السابق في جسم الدولة وخارجها. بدون الإخوان، كان المجلس العسكري سيبسط سيطرة كاملة على البلاد بدون عقبات تذكر من القوى السياسية الأخرى. لذلك بحساب الموازين الحالية، سيقود الإخوان الصراع بالضرورة، وستضطر القوى الأخرى إلى القبول بقيادتهم.

3- إن نجح الإخوان في حشد الجماعات الشبابية الثورية خلف أهداف واضحة ومحددة، بين مرحلة وأخرى، فلن يكون من الصعب إجبار الأحزاب السياسية غير الإسلامية على الالتحاق، تمامًا كما حدث في ميدان التحرير مساء الثلاثاء 19 يونيو/حزيران. لكن سيضطر الإخوان إلى بذل جهود مضنية لتحقيق التوافق بين كافة أطياف الساحة السياسية، على أن لا يكون ثمن هذا التوافق التنازل عن مطالب جوهرية. فالإخوان مضطرون، من ناحية، إلى أن ألا يخسروا الشارع الثوري من جديد، وأن يسلموا، من ناحية أخرى، أن من غير الممكن في هذه المرحلة لأية قوة سياسية التفرد بحكم البلاد.

4- لابد من أن يحدد الإخوان أهدافًا استراتيجية واضحة للحراك الشعبي والقوى السياسية المنضوية في إطاره، أهدافًا تؤمِّن الحد الأدنى من الانتقال بالبلاد إلى دولة مدنية، حرة وديمقراطية، وقابلة للتحقق في الآن نفسه. ولابد أن يتجنب الإخوان التفاوض على تنازلات جوهرية عن هذه الأهداف. إن تقديم تنازلات جوهرية في أيٍّ من ملفات الخلاف الكبرى، يظنها الإخوان، أو القوى السياسية الأخرى، تنازلات تكتيكية الآن، سيؤدي إلى دفع ثمن باهظ في المستقبل، يؤجل عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد لآجال طويلة، وينتهي بمصر، ربما، إلى وضع شبيه بالوضع التركي بعد انقلاب 1980، أو بالوضع الجزائري الراهن.

5- إحدى الحساسيات البالغة لخصوصية الوضع المصري أن مصر في حاجة ماسة لجيشها ولتماسكه وقوته. ولذا، فمن الضروري تجنب تحويل الصراع مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى صراع مع الجيش ككل، أو إلى حملة منفلتة لتشويه الجيش. صراع القوى الديمقراطية والثورية في مصر مع المؤسسة العسكرية لم يصل حتى لما يشبه الصراع ضد القوات الموالية للنظام في سورية. إن الهدف الاستراتيجي للثورة في مصر لابد أن يكون نقل المؤسسة العسكرية من موقع الوصي على البلاد إلى موقع الشريك في بناء نظام حكم ديمقراطي، حر، وإصلاح مؤسسة الدولة.

6- المسألة الجوهرية في المجمل أن يدرك الإخوان والقادة العسكريون، معًا، أن مصر قد تغيرت، وأن عملية التغيير ستستمر، سواء كان الثمن باهظًا أو أقل تكلفة. مثل هذا الإدراك سيكون ضروريًا لأن يخوض الإخوان المعركة من أجل تحقيق الأهداف الضرورية لمواصلة عملية الانتقال، وسيكون ضروريًا لأن يتراجع المجلس العسكري عن مواقفه قبل الوصول بالبلاد إلى لحظة الانفجار والصدام الدموي.

التوقع الأكثر احتمالاً و ربما الأفضل لمصر، أن هذه الأزمة، الأكثر استحكامًا منذ إطاحة مبارك، ستنتهي بصفقة تفاوضية بين الإخوان والمؤسسة العسكرية. هاتان هما القوتان الرئيستان في البلاد، وكل حديث عن قوة ثالثة لا تؤيده معطيات الواقع حاليا. هاتان القوتان فقط يستطيعان الحشد ويملكان القدرة على التنظيم والفعل، بغض النظر عن اختلاف مصادر القوة ووسائل كل منهما. فإذا كانت قرارات المجلس العسكري تحمي النظام السابق ولا تعدِّل فيها إلا تحت الضغوط، فإن المرشح المحسوب على النظام السابق حصل على قدر كاف من الأصوات جعله يكاد يتقاسم أصوات المصريين مع الإخوان.

على الطرفين أن يصلا إلى صفقة مرضية للأغلبية المصرية، تحافظ على مكتسبات الثورة وتسمح بتعظيم هذه المكتسبات خلال السنوات القليلة القادمة، وتطمئن المؤسسة العسكرية بأن الإخوان، وقوى الثورة الأخرى، لا يستهدفون تقويض الدولة المصرية، ولا يحملون مخططًا للثأر التاريخي.

ولكن التوصل إلى هذه الصفقة يتطلب تطويع إرادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتفرده في تقرير مستقبل البلاد؛ وأن يرتضي المجلس الإخوان شريكًا أصيلاً.

عندما يحين وقت التفاوض على هذه الصفقة، فإن الإخوان سيواجهون تحدي العمل بقدر كاف من الوضوح، للحفاظ على القطاع الأوسع من القوى الثورية والشارع المؤيد للثورة إلى جانبهم. إن خسر الإخوان من وقفوا معهم في انتخابات الرئاسة وما بعدها، فسيجهضون

عملية التغيير، وينتهون لقمة سائغة للهجمة المرتدة القادمة من المؤسسة العسكرية ومعسكر النظام السابق، الهجمة التي تنتظر، ليس بعيدًا، على قارعة الطريق.

الثورة الخجولة

محمد برهيم

بات محسوما ان المجلس العسكري الحاكم في مصر لا ينوي تسليم السلطة الا الى نفسه. وقد اتخذ كل الاحتياطات التي تجعل المرحلة الانتقالية لا تنتهي الا بعودة حكم مدني يغلف حكما عسكريا ممتدا منذ منتصف القرن الماضي.

لو كانت الارقام التي بحوزة اللجنة العليا للانتخابات لمصلحة مرشح المجلس العسكري احمد شفيق لما تأخر اعلان النتائج. اما الطعون التي يمكن ان يقدمها مرشح الاخوان محمد مرسي، فالقضاء لها بالمرصاد لاثبات بطلانها. وبما ان المؤشرات هي في اتجاه حصول مرسي على الغالبية، فإن التأجيل قد يكون تمهيدا لقرار يعتبر العملية الانتخابية باطلة، او لاعلان فوز مهزوز لمرسي يمكن الطعن به لاحقا.

ايا يكن الطريق الذي سيعتمده العسكر، فإن المفاجأة الحقيقية هي في تقارب نتائج المرشحين الاخواني والعسكري، مما يعبر عن التآكل الذي اصاب الثورة في مصر، عندما آلت المناورات بين اطرافها الى حصر الاختيار بين العسكري والاخواني، وهي مناورات يتحمل مسؤوليتها الاخوان، اولا واخيرا.

حتى الآن لم تواجه الثورة المصرية سؤالا جوهريا يتعلق بالتمييز داخل النظام القديم بين المؤسسات من جهة وبطانة الفساد الخاصة بحسني مبارك واسرته من ناحية اخرى.

لقد كان للمساعدة العملية التي قدمها الجيش للثوار، على طريق اطاحة مبارك واجهزته، ثمنا كبيرا تمثل بتفادي قضية الصلة العضوية بين الحكم العسكري وفساد من يمثله في مواقع السلطة المدنية. فإذا بالجيش بريء، بل هو جزء من الشعب، واذا بالزمرة المباركية كبش محرقة النظام كله. اما علاقة هذه الزمرة بالزمر السابقة، وصولا الى الزمرة الطاهرة الاولى فموضوع خارج النقاش.

والمضحك ان الاحترام الذي يحظى به الجيش انسحب على احترام للمؤسسة الاخرى الرديفة وهي القضاء. وفي ذروة القرارات “الدستورية” المفضوحة للمحكمة العليا وبناتها، كان الاخوان يعبرون عن عميق احترامهم للقضاء المصري واستقلاله. دون ان يعرف احد كيف ولد هذا القضاء “الانكليزي” من رحم نظام “زمرة مبارك”.

مصر تحت قيادة المجلس العسكري الذي بالغ في التحوط للمستقبل الى حد ان اجراءاته وقراراته الاخيرة، من حل مجلس الشعب الى الاعلان الدستوري المكمل الذي استولى بموجبه على كل السلطات ما عدا سلطة ادارية للرئيس مرسي، هذا في حال قرر الافراج عنه، مصر دخلت دوامة لامخرج منها الا بتغيير السؤال المطروح على المصريين، من سؤال الاختيار بين المدني والديني، الى السؤال الابسط: هل يريدون استمرار النظام العسكري، ولو بعد تنظيفه، في انتظار الولادة الاكيدة لزمرة جديدة؟

النهار

أضلاعٌ محطّمَةٌ لا يُمكن جَبْرُها في مصر

    جهاد الزين

لم تعد المسألة في هذه اللحظات المصرية المشوَّشة بل المحبِطة فوز أحمد شفيق أو محمد مرسي، فقد وصلت الأمور الى تسخيفٍ خطرٍ لكل الطاقة المصرية على إدارة حياة ديموقراطية في بلدٍ لا ربيعَ عربياً من دونه.

تُوفِّي هذا الاسبوع في باريس الكاتب المصري اليساري المعروف أنور عبدالملك. كان كتابه “المجتمع المصري والجيش” أحد الكتب التي شكلت وعي جيل شبابي في الجامعات العربية خلال السبعينات في النظرة الى مصر وفي وقت كانت الموجة الفكرية النقدية للتجربة الناصرية قد بدأت تصبح هي المسيطرة يميناً ويساراً بفعل هزيمة عام 1967.

في هذا الكتاب الذي يشرح كيف قام الجيش المصري ليس فقط بضبط المجتمع المصري بل بإعادة تشكيله الطبقي عبر تجريبية اتهم أنور عبد الملك قيادةَ “الضباط الأحرار” بها خلال الخمسينات بسبب نقص التجربة السياسية الى أن حسمت “الخيارات الاشتراكية” (التأميم) في أوائل الستينات.

هذا الجيش بقي مسيطرا على مفاصل المجتمع المصري رغم التغيير الجذري في السياسات الداخلية والخارجية في عهد الرئيس أنور السادات. إنها السيطرة نفسها التي ستستمر ثلاثين عاما مع الرئيس حسني مبارك حتى ثورة 25 يناير 2011 انطلاقا من “ميدان التحرير”.

ما يحصل في الأسبوعين الأخيرين من هذا الشهر في مصر يسمح بالقول ان المؤسسة العسكرية التي أيدت الثورة النخبوية الشعبية للطبقة الوسطى المدينية في مصر كان أحد دوافعها لهذا التأييد ليس فقط إفلاس حكم الرئيس مبارك بل كان أيضا نوعاً من المعاقبة للضابط حسني مبارك الذي تجرّأ على “تسليم” السلطة لعائلته الصغيرة، زوجةً وإبنين وشِلّتِهم من رجال أعمال، في معظم السنوات العشر الأخيرة من عهده. كان تخلّي الجيش عن مبارك في اللحظة المناسبة بعد طول احتقان داخلي ودولي يحمل أيضاً هذا المعنى العقابي لضابطٍ خرج من الجيش وبالغ في “تجيير” سلطته الى حيث لا وجود لتفويض. كانت بعض أصداء هذا الموقف تتردّد منذ طُرح إسم جمال مبارك. أصداء في قلب الدوائر “الداخلية” للإدارة الأميركية واحيانا خارجها في المصادر الديبلوماسية التي ثَبُت أنه كان علينا أن نصدّقها قبل الثورة بوقت طويل نسبياً. وقد سمعتُ شخصيا من مديرة “مكتب مصر ولبنان” (لاحِظْ إسم المكتب) في وزارة الخارجية الأميركية في 18 كانون الأول 2010 خلال وجودي في واشنطن ضمن برنامج لقاءات مع مدراء مكاتب بعض دول الشرق الأوسط في الوزارة نظّمته لي السفارة الأميركية في بيروت…سَمِعْتُها تقول أن هناك من يعتقد أن المؤسسة العسكرية المصرية لا توافق على توريث جمال حسني مبارك الرئاسة. و أَعترف- مهنياً- أنه كان عليّ أن “ألتقط” برهافة أعلى معنى ان يُقال هذا الكلام- ولو بتحفظ- في “بيئة” الخارجية الأميركية قبل أن يفاجِئنا جميعاً اندلاعُ الثورة بعد أسابيع قليلة!

في شهر حزيران الجاري يبدو أن المؤسسة العسكرية الممثّلة بالمجلس العسكري قد كَسرت أو تحاول أن تكسر بشكلٍ نهائي توازنا انكفائياً اضطُرت الى ممارسته خلال عام و نصف عام بعد ثورة ميدان التحرير. لقد بدأ الأمر بشكل هادئ في الحكم القضائي الذي “ضحّى” بحسني مبارك وبرّأ نجليه و معظم معاونيه الأمنيين ثم صدرت في الأسبوعين الأخيرين سلسلة من القرارات الجلفة:

■ حكم المحكمة الدستورية بعدم دستورية انتخاب ثلث أعضاء مجلس الشعب عن الدوائر الفردية ثم التقاط المجلس العسكري لـ”الكرة” بإعلان حلٍّ كامل لأول برلمان منتخب بشكل ديمقراطي منذ العام 1952 اذا لم يكن الأكثر ديموقراطيةً منذ العام 1923 .

■ أعقب ذلك “الإعلان الدستوري” عشية بل خلال الجولة الثانية من الانتخابات والذي أعطى فيه المجلس العسكري  نفسه صلاحية التشريع بدل البرلمان “حتى صدور الدستور الجديد”.

■ ثم وصل الأمر الى الطامة الكبرى التي صار من الصعب بل المستحيل تعويض أو إصلاح الأضرار العميقة الناتجة عنها وهي التأخير المتعمّد والمفتوح حتى الآن لنتائج الانتخابات الرئاسية. فالذي لا يمكن إصلاحه هو عدم الثقة العميق لدى المصريين والعرب والعالم بأي نتيجة ستُعلن للإنتخابات. إنه كسرُ أضلاعٍ بنيويٌّ في الثورة المصرية والحياة العامة المصرية بعد الثورة لا جَبْرَ له حتى زمنٍ طويل… هذا إذا أمكن جبرُه.

لم تعد المسألة في هذه اللحظات المصرية المشوَّشة والمشوِّشة بل المحبَطة والمحبِطة فوز أحمد شفيق أو محمد مرسي، فقد وصلت الأمور الى تسخيفٍ خطرٍ لكل الطاقة بل القابلية المصرية على إدارة حياة ديموقراطية في بلدٍ لا ربيعَ عربيا من دونه لأنه لا يزال يشكّل مركز طموحات نخب المنطقة الى التحديث والديموقراطية فكيف لو أضفنا الرهان عبر مصر على الخروج من منطق الدويلات المستحكم بمنطقة المشرق العربي؟

مع الأسف وقع “الإخوان المسلمون” في فخ المجلس العسكري بمسارعتهم غير المقبولة الى إعلان فوز مرشّحهم من جانب واحد غير رسمي فساهموا في “تأسيس” البلبلة . وربما ورغم قسوة هذا الخيار فإن اعادة الإنتخابات قد تكون الحل الذي يضمن في ظل رقابة دولية أدق تعويض الضرر العميق على المدى الأبعد.

كلمةٌ في هذا المجال لا أستطيع تلافي الإحساس بضرورتها. إذ أن إيغال النخبة الليبرالية العلمانية في وضع مخاوفها من “الإخوان والمسلمين” قد ساهم على الأرجح في تشجيع علني وضمني للمجلس العسكري على التجاوز الجلِف والمكشوف لكل الضوابط التي فرضها منطق التغيير المصري. بهذا المعنى تتحمل النخبة الليبرالية والعلمانية وحتى اليسارية مسؤوليةً أخلاقيةً وسياسيةً عن هذا التشجيع الذي بلغ الآن حدودا مدمرة على مصداقية التغيير المصري. مثلما اصطاد المجلس العسكري بالمقابل “الوحشنة السياسية” التي أظهرها “الإخوان المسلمون” بشراهتهم التنافسية على السعي للفوز بكل المؤسسات وليس الإكتفاء بانتصار مجلسي الشعب والشورى.

لكن مسؤولية النخبة غير الدينية في هذه اللحظات أكثر فداحةً في العمق. وهي، باعتبارنا في العالم العربي جزءاً منها، تضع مستقبلنا الديموقراطي مرة أخرى في آتون الشرشحة. وبالتالي الانحدار.

النهار

رئيس مصري منزوع الدسم

عبد الباري عطوان

تثبت قرارات المجلس العسكري وممارساته يوما بعد يوم انه عندما تدخل لاجبار الرئيس حسني مبارك على التنحي لم يكن ينتصر للثورة، مثلما اعتقد الكثيرون، وانا واحد منهم، وانما للاستيلاء على الحكم في انقلاب ابيض كان مدروسا بعناية فائقة، وفق سيناريوهات تعتمد التدرج لاجهاض الثورة وابقاء مصر في بيت الطاعة الامريكي.

التوريث الذي كان يعارضه مختلف المصريين تحقق، ولكن ليس من خلال الرئيس مبارك لابنه المكروه جمال، وانما الى المؤسسة العسكرية، بمعنى ان السلطة عادت الى العسكر ولكن بطريقة مكشوفة علنية، وليس بصورة غير مباشرة مثلما كان الحال في عهد الرئيس مبارك.

الاعلان الدستوري المكمل الذي اصدره المجلس العسكري على عجل عشية الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة، وبعد يوم واحد من حل البرلمان، وابطال قانون العزل، هو تقويض واضح للانتخابات، ووأد للعملية الديمقراطية، واجهاض للثورة المصرية.

العسكر، وبالتنسيق مع واشنطن، خطفوا الثورة المصرية للحفاظ على مصالح امريكا في المنطقة العربية، في هذا الظرف الحساس الذي تستعد فيه لخوض حرب ضد ايران، ويتعاظم فيه القلق الوجودي الاسرائيلي من جراء الثورات العربية.

صحيح ان الدكتور محمد مرسي مرشح حركة الاخوان فاز في الانتخابات الرئاسية، واصبح رئيســـا لمصر من الناحية النظرية، ولكنه سيكون رئيسا منزوع الدسم، وفاقد الحيلة والمقدرة، معزولا في مكتبه، بلا صلاحيات حقيقية، رغم كونه يتربع على السلطة التنفيذية، بينما السلطة التشريعية في يد العسكر،خصومه الحقيقيين، ومن هنا فإن افضل ما يمكن ان ينتهي اليه، هذا اذا استمر في منصبه، هو منصب شرفي محصورة سلطاته ووظائفه في استقبال وتوديع ضيوف مصر من الملوك والرؤساء والتقاط الصور التذكارية معهم.

‘ ‘ ‘

بمقتضى الاعلان الدستوري لن يكون بمقدور الرئيس اعلان الحرب دون الرجوع الى المجلس العسكري، والحصول على موافقته، وموافقة البرلمان ايضا. ولن يستطيع الاعتراض على صلاحيات العسكر في اعتقال ومحاكمة مدنيين امام محاكم عسكرية، تحت عنوان الحفاظ على الأمن.

هل يعقل ان يملك الرئيس حسني مبارك، ومن قبله الرئيس محمد انور السادات والرئيس جمال عبد الناصر اعلان الحرب والتمتع بكل صلاحيات الرئيس الدستورية كاملة، وهم غير منتخبين من قبل الشعب، بينما لا يملك ايا من هذه الصلاحيات رئيس منتخب من قبل الشعب في انتخابات نزيهة، وبعد ثورة شعبية هي الاعظم في تاريخ مصر الحديث؟

مشكلة الرئيس مرسي انه ليس خيارا امريكيا، ولم يحظ برضاء اسرائيل وبركاتها، وتعلم في الولايات المتحدة ودرس في افضل جامعاتها، اي انه ليس رئيسا جاهلا، ويريد استعادة الكرامة لمصر وشعبها، وإعتاقها من العبودية للولايات المتحدة، وتحرير مصر من مساعداتها العسكرية المذلة والمهينة.

مصر تبتعد تدريجيا عن الثورة، وتعود بسرعة الى تجربة تركيا ما قبل حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب اردوغان، عندما كانت المؤسسة العسكرية هي الحاكم الفعلي للبلاد، وتلجأ للانقلابات العسكرية لمنع الاسلاميين من الوصول الى السلطة عبر صناديق الاقتراع، وتجد تأييدا وتصفيقا حادا من الغرب المتحضر، الذي يغني ليل نهار مواويل الديمقراطية ومعارضة حكم العسكر.

هناك قرار امريكي واضح وصريح بمنع الاسلاميين من الوصول الى قمة الحكم، بل منع الوطنيين الشرفاء ايضا، ودعم اولئك المرتبطين بمشاريع هيمنتهم وحروبهم في المنطقة للسيطرة على النفط والغاز وتكريس الاحتلال الاسرائيلي للاراضي والمقدسات العربية والاسلامية.

نحن لسنا مع تأليه الرؤساء، واعطائهم صلاحيات مطلقة، ولكننا لسنا في الوقت نفسه مع حكم العسكر، ووضع كل السلطات في ايديهم، وتحويل مصر الى دولة عسكرية تسير في الفلك الامريكي مثل جمهوريات الموز في امريكا الجنوبية قبل بضعة عقود.

الشعب المصري اعطى الرئيس الجديد الفائز تفويضا باجتثاث الفساد وتحويل مصر الى دولة ذات سيادة، ونمر اقتصادي وقوة اقليمية عظمى، والتعاطي مع الآخرين بالندية، ولكن كيف سيحقق الرئيس مرسي كل هذه الانجازات التي هي ملخص لمطالب الثورة والثوار وهو مكبل اليدين وغير مدعوم من سلطة تشريعية قوية، وفي ظل مؤسستين امنية وعسكرية؟

‘ ‘ ‘

لا نعتقد ان هذا الدهاء الذي يظهره المجلس العسكري يوما بعد يوم لاجهاض الثورة، هو من عندياته، وانما هناك قوى تخطط له، بعضها داخلي ومعظمها من الخارج.

هذا المجلس استخدم اسلوب العلاج بالصدمات تمثلت في اجراءات متلاحقة وناعمة، متكئا على محكمة دستورية عيّن قضاتها الرئيس مبارك بنفسه، فوصلت مصر الى ما وصلت اليه من فوضى واضطراب وقلق، بل وفقدان ثقة البعض بالثورة.

حركة الاخوان جرى وضعها امام خيارات صعبة، فإما ان تستمر في ضبط الأعصاب، وعدم اللجوء الى العنف بعد حرمانها من انتصارها البرلماني التشريعي، وتفريغ رئيسها من كل صلاحياته الفاعلة، او اتباع النموذج الجزائري والنزول الى الشارع.

الاخوان ليسوا حركة جهادية تعتمد العنف، بل تتعرض لانتقادات شديدة من الجهاديين ابرز خصومها، بسبب منهجها السلمي الذي تبنته على مدى خمسين عاما.

ولكن هذه الضربات المتواصلة فوق رأسها ستدفعها الى العنف او تواجه الانشقاق، وهما خياران احلاهما مرّ، وربما هذا ما يريده المجلس العسكري وخبراء غرفه السوداء.

حتى تقرر حركة الاخوان خطوتها المقبلة، نطالب الرئيس الجديد ان لا يؤدي اليمين الدستورية امام مجلس عسكري انتزع صلاحياته، ولا قضاة محكمة دستورية حلوا برلمانا فازت بأغلبية مقاعده، وانما يقسم اليمين امام الشعب في ميدان التحرير، لأن هذا الشعب هو الذي اختاره، ومن ميدان التحرير يجب ان تبدأ مسيرة اصلاح الاعوجاج الاكبر الرامي الى سرقة الثورة وإجهاضها.

القدس العربي

بعـد عاميـن فقـط

ساطع نور الدين

كارثة لمصر، لكنها مؤقتة وعابرة. هي جزء من آلام المخاض العسير الذي يمر به المجتمع المصري في رحلته الشاقة نحو الحرية والديموقراطية والدولة المدنية.

فوز المرشح الإسلامي محمد مرسي بالرئاسة هو في البدء تصويت ضد مرشح النظام السابق أحمد شفيق الذي كان دخوله المعركة استفزازاً، مثلما كانت حملته الانتخابية تحدياً، ينذر بالقضاء على الثورة المصرية وشطب جدول أعمالها.. ليس لأنه رجل قوي وجريء وصاحب خبرة في أمور الدولة والمؤسسات، بل لأنه غطاء وتمويه لا يمكن ان يوفره سوى ضابط سابق اشتهر بأنه عديم المعرفة والتجربة السياسية، فكان توليه رئاسة الوزراء في الايام الاخيرة من عهد الرئيس المخلوع مجرد صدفة، أملتها ظروف انقطاع بقية رجالات ذلك العهد عن التواصل مع القصر الرئاسي، كما كان توليه قبل ذلك وزارة الطيران المدني أشبه بتوسيع لوزارة السياحة.

كان ترشيحه واستمراره في المعركة تعويضاً عن فشل ترشيح اللواء عمر سليمان، وعن تعثر التفاهم مع المرشح عمرو موسى، على التصدي للإسلاميين والمدنيين. وقد وفر له المجلس العسكري جميع أسباب الفوز، فضلاً عن ان الكتلة الناخبة للنظام السابق، على اختلاف تلاوينها الانتهازية والليبرالية والسلفية، كانت جاهزة للتصويت ومنحه تفويضاً باستعادة المبادرة من الشارع وخليطه الغريب.

لم تكن خسارة شفيق فضيحة بالنسب والأرقام الأولية، ولعله من الضروري الاعتراف بأن كتلته الناخبة هي اكبر الكتل على الإطلاق، لأنها متجانسة نسبياً بالمقارنة مع الكتلة التي صوتت لمنافسه الإسلامي محمد مرسي، والتي جمعت جمهور الإخوان المسلمين مع جمهور المدنيين الراغبين بالانتقام من النظام السابق والتخلص من المجلس العسكري في صوت واحد.

وبهذا المعنى يمكن القول إنه فوز انفعالي لمرشح الإخوان الذي لا يعرف عنه الكثير حتى من قبل الإسلاميين أنفسهم الذين كانوا يفضلون خيرت الشاطر او طبعاً عبد المنعم ابو الفتوح، لكنهم شعروا ان الخيار صار معدوماً والفرصة سانحة للانقضاض على السلطة وتصفية حسابات قديمة.. وخوض تلك التجربة التي قد لا تتكرر.

لكنها كارثة فعلاً. ان يكون وجه مصر في مستهل القرن الحادي والعشرين إسلامياً، وأن يدخل المجتمع المصري، اعتباراً من اليوم، في جدال حول الشريعة والشورى وحقوق الأقليات وشؤون المرأة من سن الزواج الى الحضانة حتى الختان، الذي عاد الى الانتشار في الأرياف المصرية.. حتى ولو استغرق الأمر سنتين على أبعد تقدير، هي موعد الدعوة الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، في ظل دستور جديد وبرلمان يقل فيه عدد اللحى التي قفزت على مقاعد التشريع على ظهر الثورة المصرية اللادينية.

السفير

مصر: الديموقراطية هي إحترام إرادة الشعب أياً تكن

السيد يسين – القاهرة

مع كل التحفظات التي سبق لي ولغيري من الباحثين اصحاب التوجه الليبرالي واليساري ان أبدوها بشأن المشروع الاخواني لتأسيس الدولة الدينية نرحب بنتيجة انتخابات الرئاسة كما رحبنا بنتيجة انتخابات مجلسي الشعب والشورى.

أكتب هذا المقال يوم الاثنين 18 حزيران بعد أن أعلنت المؤشرات الأولية لانتخابات رئاسة الجمهورية، والتي تشير إلى حصول الدكتور محمد مرسي مرشح حزب “الحرية والعدالة” على حوالى 52% من الأصوات في الوقت الذي حصل فيه الفريق أحمد شفيق على حوالى 49% من الأصوات.

لذلك- وقبل الإعلان الرسمي للنتائج النهائية – عقد الدكتور محمد مرسي مؤتمراً صحافياً أعلن فيه فوزه برئاسة الجمهورية، ووعد بأن يكون رئيساً لكل المصريين من أعطوه أصواتهم ومن صوتوا لمنافسه. وفى الوقت نفسه انطلق عشرات من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين إلى ميدان التحرير في تظاهرات احتفالية بهذا الفوز المبين لمرشح الجماعة والحزب.

وإذا تأكدت هذه النتيجة رسمياً من طريق بيان اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة، فعلينا جميعاً مهما كانت توجهاتنا الإيديولوجية، وسواء كنا معارضين لجماعة الإخوان المسلمين أو متحفظين عن الأداء السلبي لمجلس الشعب الإخواني السلفي، والذي قام بممارسات سياسية محبطة تكشف عن الرغبة في الاستحواذ على كل شيء، أن نعلن احترامنا للإرادة الشعبية التي عبرت عنها صناديق الانتخابات، والتي كانت نزيهة وشفافة بالرغم من بعض التجاوزات الطفيفة هنا أو هناك، وهي تجاوزات تحدث في أي انتخابات حتى في أعرق الدول الديموقراطية.

ما هي أهمية الانصياع لكلمة الصندوق والتي هي أشبه بالحكم الذي هو عنوان الحقيقة؟

تكمن هذه الأهمية في أنها تشير إلى احترامنا ليس فقط لآليات الديموقراطية والتي أبرزها الانتخابات النزيهة، ولكن أيضاً لقيم الديموقراطية. وأبرز هذه القيم على الإطلاق الإيمان بمبدأ تداول السلطة، والحوار مع كل الأطراف السياسية، والحرص على التوافق وعدم الاستئثار بصنع القرار، استناداً إلى الأكثرية أو الغالبية.

والواقع أنه – وفق مؤشرات متعددة كمية وكيفية- فقدت جماعة الإخوان المسلمين وحزبها “الحرية والعدالة” كثيراً من صدقيتها لدى عديد من الجماهير الشعبية، وقبل ذلك لدى النخب السياسية الليبرالية واليسارية.

ولم يأتِ فقدان هذه الصدقية من فراغ، بل إنه كان صدى لنزوع جماعة الإخوان المسلمين وحزبها إلى الاستئثار بكل المؤسسات السياسية. بدأت بالهيمنة على غالبية لجان مجلسي الشعب والشورى، وانتقلت الى احتكار غالبية مقاعد اللجنة التأسيسية، مما أدى بمحكمة القضاء الإداري إلى إلغاء هذه اللجنة المعيبة.

وبعد مشاورات وحوارات مجهدة مع كل الأحزاب السياسية والتيارات المدنية، أصرت الجماعة على إصدار قانون من مجلس الشعب يتضمن معايير تشكيل اللجنة، وشكلت للمرة الثانية تشكيلاً معيباً إذ قسمت إلى تيارات مدنية وتيارات دينية، مما جعل المفكر الإسلامي المعروف سليم العوا يصف هذه القسمة بأنها طائفية وهذا لا يجوز.

وأخطر من كل ذلك اتجاه حزب “الحرية والعدالة” لإعادة تشكيل المحكمة الدستورية العليا، ومعنى ذلك أنه يريد السيطرة على المؤسسة القضائية وهذه هي أولى الخطوات، قبل أن يحاول تنفيذ مشروعه لتوحيد القضاء والغرض منه الهيمنة الكاملة على السلطة القضائية.

وقد أوقف حكم المحكمة الدستورية العليا الخاص ببطلان مجلس الشعب هذا الزحف الإخواني المنظم للنفاذ إلى كل مؤسسات الدولة، وإعادة صوغها وفق منظور الجماعة وتوجهاتها الدينية، وخصوصاً المؤسسات الاقتصادية.

ويكفى أن نشير بهذا الصدد إلى أن مجلس الشعب الإخواني السلفي اعترض على اقتراح حكومة الجنزوري بالحصول على قرض ضخم من البنك الدولي، على أساس أن الفوائد التي سيحصل عليها البنك فيها شبهة ربا! وهكذا أوقف مجلس الشعب إجراءات الحصول على هذا القرض البالغ الأهمية بناء على تأويلات منحرفة للنصوص الدينية الخاصة بالربا، والتي تم تفنيدها منذ عشرات السنين، بناء على فتاوى أصدرها عدد من كبار الفقهاء.

غير أن حكاية القرض المحرم لم تكن سوى هامش بسيط إذا ما قورنت بالمتن الأصلي المتعلق بمحاولة المجلس الإخواني السلفي السيطرة الكاملة على البنك المركزي بتعديل اختصاصاته، وإقحام مشاريع المصارف الإسلامية بما فيها من مشايخ يفتون في الحلال والحرام الذي يتعلق بالمعاملات المالية، على أساس أن فتاواهم ملزمة.

وهذا الاتجاه من شأنه أن يرجعنا إلى الوراء عشرات السنين. فقد ثبت من تجربة المصارف الإسلامية في مصر وغيرها من الدول العربية أن تشكيل ما يسمى “غرفة الرقابة الشرعية” المشكلة من عدد من المشايخ الذين تعرض عليهم معاملات المصارف المالية كانت تجربة عقيمة حقاً!

ولكن الغرض مرض كما يقولون، لأن التوجهات الدينية التي يراد فرضها على كل مجالات الحياة لنظرية الدولة الدينية التي تتدخل في السياسة والاقتصاد والتعليم والفكر والأدب والفن وفى كل شيء، وفقاً للقياس الخاطئ والتأويلات المنحرفة للنصوص الدينية، ليس من شأنها سوى أن تفرض التخلف فرضاً على جنبات المجتمع. وهذا مضاد في الواقع لشعار النهضة التي ترفعه جماعة “الإخوان المسلمين” والذي يقوم في الواقع على تزييف فكر النهضة الحقيقي الذي صاغه رواد النهضة العرب في بداية القرن العشرين.

وهذا الفكر النهضوي الأصيل تأمل رواده وتدبروا أسس ومنطلقات الحداثة الغربية، ووقفوا طويلاً أمام المبدأ الحاكم لهذه الحداثة والتي مبناها أن “العقل هو اساس الحكم على الأشياء” وليس النصوص الدينية التي عادة ما تؤول تأويلات مختلفة ومتعارضة، تجعلها لا تصلح لتوجيه السياسات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العصرية.

وهكذا في ضوء التجربة القصيرة لمجلس الشعب الإخواني السلفي يمكن القول بغير مبالغة أنه لم يكن يسير في طريق التقدم ولكنه خضع خضوعاً أعمى لتوجهات دينية مفارقة لروح العصر، كان بصدد جر المجتمع إلى الوراء.

ومع كل هذه التحفظات التي سبق لي وغيري من الباحثين أصحاب التوجه الليبرالي واليساري أن أبدوها بشأن المشروع الإخواني في تأسيس الدولة الدينية، فقد رحبنا بنتيجة انتخابات مجلسي الشعب والشورى احتراماً لقيم الديموقراطية، وانتظرنا تحقيق الجماعة شعارها “مشاركة لا مغالبة”. غير أن المجتمع المصري بكل طوائفه فوجئ بأن الشعار انقلب ليصبح “مغالبة لا مشاركة”! وترتب على ذلك محاولة إقصاء كل التيارات السياسية، والهيمنة الكاملة على مجمل الفضاء السياسي المصري تماماً كما كان يفعل الحزب الوطني الديموقراطي المنحل!

ومع كل ذلك ينبغي علينا – وهذا الخطاب موجه إلى كل التيارات السياسية الفاعلة وإلى كل الجماهير- أن نحترم نتيجة الصندوق، وإذا أصبح الدكتور محمد مرسي رئيساً للجمهورية فعلينا أن ندعم جهوده في مجال النهضة، لو آمن فعلاً بأنه لا يمكن هذا المشروع أن يتحقق إلا بتكاتف جهود كل النخب السياسية والفكرية والعلمية، لأن الهدف ينبغي أن يكون تقدم المجتمع ورقي الشعب الذي ثار في 25 يناير، بحثاً عن الحرية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية.

النهار

الجيوش العربية والسياسة: حنكة مصرية

سلام الكواكبي – باريس

في بدايات الحراك الثوري العربي، وبعد أن أوضحت التجربة التونسية أن هناك إمكانا للاعتماد على موقف وطني للقوات المسلحة بعيدا عن طموحات السيطرة السياسية، تفاءل المراقبون بالدور المستجد للجيوش العربية في حقبة ما بعد الاستبداد.

جيوش تنوعت مصادر شرعيتها، فمنها من استمدها من خلال قيادته لعملية التحرر من الاستعمار الأجنبي. وآخرون أسندوا شرعيتهم إلى دورهم في الثورة “الانقلاب الذي أطاح أنظمة “رجعية” خلفتها القوى الاستعمارية. أما النوع الثالث، فاعتبر أن دوره في حماية البلاد من الأجنبي والذود عن حماها مقابل الأطماع الخارجية هو مصدر شرعية لا لُبس فيه ويؤّهل لكل ما سيليه من طموحات.

هذه “الشرعية” متعددة الوجه، لم يتم الاعتماد عليها في تعزيز دور القوات المسلحة وإعطائها مزيد من الميزات واعتبارها الحصن المنيع للدولة السياسية القائمة فحسب، بل هي استخدمت لكي تبرر لهذه القوى أن تسيطر على مفاصل العمل السياسي وتهيمن على مصائر الجموع التي منحتها الثقة. وبالطبع، فليس من المقبول في نظر أبطال الأمة هؤلاء أن يعتبر البعض من “الآثمين” أن لديهم أطماعاً سياسية أو أنهم قد قاموا بانقلابات عسكرية أو أن لهم مصالح اقتصادية مرتبطة بمدى سيطرتهم على الحكم.

في غالب الحالات، ومنذ نشوء الدولة الوطنية بعد عملية الاستقلال والتحرر من الاستعمار الأجنبي، اعتبر العسكر أن لديهم الطاقة الكامنة والقدرة الكاملة، ليس فقط للذود عن الحدود وتأمين الاستقلال من الجهة العسكرية، بل للعمل على تنمية المجتمعات التي هم أوصياء عليها وتخطيط مستقبلها السياسي ووضع الأطر الاقتصادية اللازمة لتنميتها وإخراجها من الأزمات التي خلّفها المستعمر الغاشم. وكذا، فقد كانت لهم وجهة نظرهم غير القابلة للنقاش في ما يتعلق بالأمور التربوية وتنشئة الأجيال ورسم السياسات الاجتماعية وحتى الحد من النسل أو رفعه.

إن مجرد التشكيك اللفظي أو التحليلي في عدم الاختصاص، أو اعتبار أنه يكفي فخراً القوى المسلحة دورها الوطني الأكبر المرتبط بحماية البلاد من خطر العدو الخارجي وتأمين الاستقرار الإقليمي، هو جريمة لا تغتفر ويمكن أن تؤدي إلى “إضعاف الروح الوطنية ووهن عزيمة الأمة” في مواجهاتها المتخيلة من قبل المعنيين أنفسهم. وهم الذين، ومنذ وصولهم إلى الحكم أو تلاعبهم به، تخلّوا تماما عن القيام بما يمليه عليهم قسمهم والمتعلق بحماية البلاد والعباد والانصراف عن الشؤون العامة وترسيخ الجهود للعب الدور “المقدّس” الذي يساهم في بناء صورتهم الوردية. وتوجهوا إلى الساحة الداخلية سياسة واقتصادا وأسسوا لمنظومة أمنوقراطية تساعدهم في مسيرتهم نحو الهيمنة وتأمين المصلحة الخاصة.

وقد أثبتت التجارب “التقنية” الحقيقية التي واجهت بعضا من البلدان العربية التي “تمتعت” بسطوة العسكر على أمورها السياسية والاقتصادية، أن الانصراف عن الدور الأساسي للقوات المسلحة إلى أمور الحياة اليومية والانهماك في الأعمال، يؤدي إلى حالات من الفشل العسكري لا تلبث الجهات المعنية باعتبارها جزءاً من المؤامرة التي تحوكها قوى مرئية وغير مرئية على منعة واستقرار البلاد التي تتمتع بطهرية وحكمة وحنكة وبُعد نظر القائمين عليها.

فكم هي الأحداث التي تشير، وبوضوح، إلى فشل القوى المتحكمة في أداء نصف دورها التقني أو ربعه حتى. وكم هو حزين ومؤلم رؤيتها تتقهقر متحصنة بعبارة دائمة الحضور: “نحن الذين نختار الزمان والمكان للمواجهة ولا يفرضها علينا أحد”. وبالتالي، فنحن نهرب ونتخاذل في الذود عن حدود البلاد على أن نستعيد زمام المبادرة فور انتهاء عملية إهلاك المجتمع وسلبه ما تبقى له من إمكانات ومن طاقات.

لقد أوضحت تجارب إفريقيا الدور السلبي لانهماك قوى الجيش في السياسة، وكذلك تبيّن للعرب سوء هذا الدور وإساءته المزدوجة. فمن جهة، الجهاز العسكري نفسه هو ضحية لهذه الممارسة إذا فقد صدقيته واحترامه اللذين ارتبطا، ربما وهماً، بصورة مثالية رافقت نشوءه وتطور دوره الذي أمده بالشرعية المبدئية في الأطوار التمهيدية لنشوء الدولة الوطنية. من جهة أخرى، فقد وقعت المجتمعات ضحية للطموحات السياسية والسعي نحو الهيمنة التي رافقت الممارسات العامة للقوى المسلحة. والرابح الأكبر من هذه المعادلة، هو العدو الخارجي إن وجد فعلا.

تجربة تونس الإيجابية أحيت الأمل بدور العسكر في تأمين انتقال سلمي للحكم من نظام مستبد، كان العسكر التونسيون من ضحاياه أيضا، إلى نظام أكثر ارتباطا بمتطلبات الممارسة السياسية الطبيعية على الرغم من هنّاته ومخاضاته.

في المقابل، يبدو أن التجربة المصرية تنقض الاستثناء وترسّخ القاعدة التي تشير إلى أن العسكر ليسوا زاهدين بالسلطة السياسية التي لهم بها علاقة متجذرة. وان تخليهم عن المصالح الاقتصادية والهيمنة السياسية ليس وارداً في الفترة القريبة على أقل تقدير. فعلى الرغم من وقوفهم النسبي على الحياد أمام ثورة شباب وشابات مصر، فقد تدخلوا في مرحلة حرجة حاسمين الأمور لإنقاذ المؤسسة ولمصلحة تنحي ابن المؤسسة حسني مبارك.

وقد ألبسهم المتفائلون ثوبا ليس لهم واعتبروا أنهم يعيدون إنتاج النموذج التونسي، وأظهر هذا التحليل ضعف تبصّر بالحالة التونسية ومعطياتها، إضافة إلى ضعف تحليل للواقع المصري بأبعاده التاريخية الحديثة. وكذلك، فقد توضّح بأن الدور السياسي للجيوش العربية هو أمر مهم ومعقد يحتاج إلى دراسات طموحة وإلى مقارنات موسّعة. فالتجربة التركية وتجارب أميركا اللاتينية يمكنها أن تكون بعيدة جغرافيا، ولكنها تحمل في طياتها بعض الأمور المشتركة وبعض الطموحات المتقاطعة.

ما يجري على الساحة العربية يشير إلى أن زمن السيطرة العسكرية سياسيا واقتصاديا ليس في نزعه الأخير، وأن ضعف القدرات السياسية لدى القوى المدنية لأسباب عديدة تحمل جزءا ضئيلا من مسؤوليتها، قد أتاح للقوى العسكرية أن تعزز الهيمنة. ويبدو أن السيناريو المصري هو أكبر دليل على “حنكة” إدارة الأزمات التي أوصلت إلى انتخاب رئيس محدود الصلاحية وإلى حل للبرلمان المنتخب وإلى إعلان دستوري يعيد عقارب الساعة إلى الوراء في انتظار تكاتف العمل السياسي بعيدا عن المهاترات والطمع وصغائر الأمور.

صديق يمني عزيز قال: لقد سرقوا لنا نجوم الليل ليضعوها على أكتافهم في النهار.

النهار

الإسلاميون في المرحلة الانتقالية

سليمان تقي الدين

يضجّ العالم العربي ومحيطه منذ ثلاثة عقود بخطاب الإسلام السياسي. أعاد الإسلاميون إنتاج دين شعبي جديد، كفاحي يتجه إلى قلب الأوضاع السائدة. طوّر الإسلاميون الثقافة الدينية لحاجاتهم الدنيوية المعاصرة ولمشاريع سياسية متباينة. اتجهت إيران إلى جعل الإيديولوجية الشيعية المذهب جزءاً من ثقافتها القومية ومن تبرير نزوعها الاستقلالي عن الهيمنة الغربية. ذهب الإسلام التركي نحو صياغة مشروع يستنهض الطبقة الوسطى على فكرة العدالة وعلى تأكيد هوية الدولة الضائعة بين الشرق والغرب.

أما الإسلام العربي فكان أكثر موضعية وخصوصية فهو في لبنان شيعي مقاوم وفي فلسطين سني مقاوم وفي بلاد المغرب تحديثي يسعى إلى بناء الدولة على توازن مع الغرب الذي صادر إرادة شعوب المنطقة من خلال وكلائه المحليين والنخب السياسية والاقتصادية التي استحوذت على السلطة وامتيازاتها. وفي مصر تصادم الإسلاميون مع معطيات الحداثة والليبرالية التي سلبت الجمهور الأوسع العيش الكريم وفاقمت من مظاهر الفحش والثراء وكبت الحريات وألقت بتاريخ مصر وكرامتها القومية في أحضان الغرب وإسرائيل.

هذا الإسلام السياسي نقيض مستحدث لإرث المسلمين التاريخي فلا هو قادر على استعادة نظام الخلافة ولا الدولة السلطانية ولا الإمبراطوريات الكبرى في أطوارها المختلفة. هو إسلام ينزع إلى الملاءمة مع العصر في اتجاهاته الليبرالية وينزع إلى الاستقواء بصيغ بدائية كأنها طلاء على جسم الدولة في اتجاهاته السلفية. حتى اللحظة لا يمثل الإسلاميون أكثر من تيارات شعبوية متضاربة لا تملك إجابات متماسكة في النظر والعمل على أوضاع شعوب خرجت على أنظمة استبدادها تحت شعارات الحرية والكرامة والخبز والعمل و«الديموقراطية» المستوردة قسراً إلى ثقافتها.

ومن نافل القول إن صعود الإسلام السياسي عارض من أعراض الفجوة التاريخية بين ثقافة العصر وأنظمة التخلف السياسي والاجتماعي وردة فعل أصيلة على الشعور بالمهانة والضعف أمام أشكال السيطرة المختلفة للغرب ولوكلائه المحليين.

في النموذج اللبناني الأكثر عيانية لم تكن في الشيعة عصبية دينية بل عصبية طائفية. كان الشيعة إلى عهد قريب طائفة ليبرالية امتصت كل التيارات السياسية المدنية قبل أن تنعطف في اتجاه ديني هو مزيج من تجذّر مقاومتها الاجتماعية والسياسية والعسكرية والتحاقها بالمشروع الإيراني الملتبس القومي الديني. ولم يكن الإمام موسى الصدر يطمح لأكثر من الاعتراف بشرعية الشيعة كتيار ثقافي في الإسلام. أنشأت الثورة الإيرانية إيديولوجية سلطة فصارت «دولة سنّية» أي على تقليد سياسي صادر الاجتهاد ليجعله منظومة تدور على محور الإمامة وولاية الفقيه. وبحكم مرجعيتها هذه الثقافية والمادية جعلت من الإسلام الشيعي السياسي في لبنان صاحب منظومة عقائدية مغلقة وصارت في الشيعة عصبية دينية ناتجة عن التأويل الإمامي للتاريخ.

كان السنّة في لبنان أكثر الطوائف مدينية وقد أوكل إليهم رعاية مصالح سائر المسلمين حتى صارت دار الإفتاء للجمهورية وجميع مسلميها، فاتجه السنّة إلى احتضان الشيعة والدروز والعلويين وإلى قبولهم في النادي السياسي ومراعاة طموحهم في المشاركة والتعاون تحت مظلة العروبة فائضة الجلباب على الإسلام السياسي كله. ولم يكن الدروز والعلويون أصحاب عصبية دينية فهؤلاء فروع صغيرة من ثقافة واسعة شاملة وقد انكفأوا على تراثهم الديني يعالجون أزمة عدم شرعيته مع الدين الأساس. لكنهم مع كل أزمة سياسية سعوا إلى تطوير ثقافتهم الخاصة المكبوتة ولم يفلحوا إلا في ضخ أفكار دينية غامضة ما ورائية لتقوية عصبية تلفحها رياح التعصب الديني في التيارات الأصولية الإسلامية العريضة.

عاشت السلفية السنية اللبنانية في ظلال ورعاية التواصل مع العواصم الفاعلة في المنطقة ولا سيما مصر والمملكة العربية السعودية. فهي في عقيدتها عازفة عن العمل السياسي ضد الحكّام وتسعى إلى العمل الدعوي حتى قرّرت القيادة الصاعدة الخليجية استخدام هذه التيارات والمكوّنات في مشروع سياسي. تحوّلت السلفية إلى قوة احتياط كبير في أكثر من بلد عربي وجرى تطويعها لفكرة المشاركة السياسية وحتى العسكرية بدءاً من أفغانستان حتى جميع البلاد العربية.

لم يكن السلفيون حزباً كالإخوان المسلمين، هم يتجمعون اليوم تحت القيادة الخليجية على هدف واحد هو الدفاع عن الأمة والجماعة (السنية) ضد تحدي إيران (الشيعية) وحلفائها وأذرعها في المنطقة.

ولأن السلفيين ليسوا حركة ذات تاريخ سياسي فعّال وذات تجربة في الصراعات السياسية وقد أفتوا حديثاً بالمشاركة السياسية والانتخابات فهم يشكّلون نوعاً من الطارئ الصدامي مع البيئة والمناخ ومع التيارات الأخرى والمؤسسات. السلفيون يحملون إلى المجتمع فكرة تطويع الدولة لكي تكون أداة القصاص أو أداة التطبيق الصارم لأفكارهم وتقاليدهم وثقافتهم كما يحصل في تونس اليوم وفي مصر.

على هذه القراءة المكثفة لواقع الإسلام السياسي نجد أن المبرّرات لصعوده كثيرة وواقعية وليست ظاهرة مفتعلة في سياق الأزمة الوجودية التي يعيشها العالم العربي وفي ظل العاصفة السياسية التي واكبت عملية الانتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية أو إلى شكل من أشكالها. لكن الإسلاميين بمختلف تياراتهم حالة عابرة تاريخية انتقالية نحو تبلور مشروع الدولة في العالم العربي بين جملة أطراف وقوى بعضها داخلي وبعضها خارجي إقليمي ودولي. ولن تكون الإيديولوجيا وحدها العنصر المقرّر في صياغة الأنظمة السياسية ولا المنظومة الإقليمية بعد استكمال هذا المخاض.

ليس مؤكداً بعد احتمال إمساك الإسلاميين بكامل السلطة في مصر. لقد حلّ مجلس الشعب وقامت بينهم وبين المؤسسة العسكرية نفرة كبيرة تجلّت في العديد من الإجراءات ضدهم خاصة عبر القرارات القضائية الدستورية. ومن المبكّر جداً الاستنتاج أن الإسلاميين قادرون على فرض برنامجهم على مصر تحت شعار الدولة الإسلامية أو حكم الشريعة.

فلن يكون الإسلام السياسي الصاعد قادراً على إلغاء التعددية السياسية ولن يكون قادراً على الإفلات من مطالب الشعب المصري واحتياجاته وعليه أن يبحث عن تسويات سياسية وعن حلول في إطار الوحدة الوطنية حتى لا يقع في مغامرة التسلّط على الدولة والمجتمع ويفقد كل مشروعيته كبديل وكنموذج. ما تزال تجربة الإسلاميين في الحكم في بدايتها فهل تنقلب على الديموقراطية فتخسر مشروعيتها أم تستجيب لها وتصبح حالة سياسية قابلة للتطوير والاغتناء والتخفّف من البُعد الإيديولوجي لمصلحة العمل السياسي الإيجابي؟ لن يكون الامتحان بعيداً مع وصول الإسلاميين إلى رأس السلطة التنفيذية في مصر.

السفير

على هامش أحداث مصر الكبرى

حازم صاغية

لم يتردّد بعض المصريّين في وصف رئيس جمهوريّتهم المقبل بأنّه سيكون «مثل ملكة إنكلترا»، أي صوريّاً وعديم الصلاحيّات التنفيذيّة. فكما بات معروفاً، قضت القرارات الأخيرة للمجلس العسكريّ الحاكم بالحدّ من سلطات الرئيس المنتخب، أيّ رئيس، وبتعزيز دور القوّات المسلّحة ومنحها موقعاً حاسماً في كتابة دستور مصر الجديد.

وهذه القرارات التي وُصفت على نطاق واسع، وبحقّ، بأنّها «انقلاب ناعم» وأنّها «انقلاب دستوريّ»، نفّذه لمصلحة الجيش قضاة المحكمة الدستوريّة العليا المعيّنون في عهد مبارك، هي التي تفسّر انخفاض نسبة التصويت في المواجهة الأخيرة بين محمّد مرسي، الإخوانيّ، وأحمد شفيق، «الفلوليّ». فإذا صحّ أنّ ثورة يناير أصيبت بانتكاسة كبرى، صحّ أيضاً، واستطراداً، أنّ السياسة ذاتها أصيبت بانتكاسة أعادت الاعتبار لشعور اللاجدوى العريض بـ «أقدار» تهبط من الأعلى ولا يملك الشعب وإرادته رادّاً لها.

وإذا وضعنا جانباً الأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها قوى الثورة، وما ترتّب على تشرذمها، لا سيّما حماقات الإخوان غير البريئة في الرهان على برنامجين وسلوكين في وقت واحد، تبيّنت لنا الحقيقة الأهمّ، والتي ربّما كانت أخطر حقائق التجربة المصريّة الجديدة: ذاك أنّ تلك القوى، الآتية من عقود اللاسياسة، لم تنمّ عن أيّ إدراك جدّيّ لمعنى الدولة وسلطتها ممّا تنوي وضعه في عهدتها. هكذا، تُرك لكثير من الاستعراض والفولكلور أن يسرق الضوء، بينما لم تُخض أيّة معركة جدّيّة لتغيير السلطة القضائيّة مثلاً! وقد بدا عدم التماسك فاضحاً حيال التعامل مع أحمد شفيق ومع حقّه في الترشّح فيما كانت المؤسّسة العسكريّة تشحذ دهاءها الذي تراكم على مدى عقود أدار الجيش فيها مجتمع مصر وصنع سياساتها.

وكم هو لافت، وكدليل آخر على حبّنا للاستعاضة اللغويّة، أن يدرج تعبير «الدولة العميقة» (الذي سكّه المثقّف المصريّ الراحل نزيه الأيوبيّ) في الوقت الذي تكشّفت فيه، على أوسع نطاق، ضحالة فهم الدولة بصفتها لا تتعدّى بضعة مناصب رفيعة.

وقصارى القول إنّ مصر اليوم تبدو وكأنّها تستقرّ، هي الأخرى، على «حلّ يمنيّ» يتابع مسيرة الاستبداد من دون الرمز الاستبداديّ الأوّل. واحتمال كهذا إنّما يجد ما يعزّزه في الانتصاف السكّانيّ الذي أشارت إليه آخر المواجهات الانتخابيّة، بما ينشئ أساساً للتطابق بين السياسيّ والمجتمعيّ، مخفّفاً الطابع القمعيّ لما هو قمعيّ تعريفاً.

ويُخشى أن يكون الانتقال من «المستبدّ الأوحد» إلى «استبداد من غير مستبدّ» هو ما ستُحمَل الثورة المصريّة على التوقّف عنده، وهو ما سيكون الشكل المصريّ في «التكيّف مع العصر وإملاءاته». لكنّ ما يُخشى، أكثر من ذلك، أن تتأكّد تلك النظريّة القائلة إنّ الثورات ليست مهنة عربيّة: فهي في البلدان المنسجمة سكّانيّاً تُحِلّ وجوهاً محلّ وجوه، أو تتقلّص إلى حدود غرف القصر ومؤامراتها، أمّا في البلدان الضعيفة الانسجام فتنقلب حروباً أهليّة مفتوحة.

… نؤثر، على رغم كلّ شيء، أن نتمسّك بالإصرار على أنّ ما بدأ في «ميدان التحرير» لن يتوقّف. أمّا أن يكون المرء ساذجاً فأفضل ألف مرّة من أن يكون سينيكيّاً.

الحياة

الثـورة والدسـاتير

فواز طرابلسي

الانقلاب الذي قام به المجلس العسكري في مصر بواسطة «الاعلان الدستوري المكمّل»، بعد حلّ البرلمان ومصادرته سلطات التشريع والنقض، نبّه الى محورية المسألة الدستورية في جدل المحافظة والتغيير الجارية في المنطقة.

ثمة اجيال من العرب، ومن المعارضين، عاشت في ظل الاعتباط الاستبدادي فتعوّدت النظر الى الدساتير وما تحويه من حقوق وواجبات وحريات على انها من قبيل الحبر على الورق، وانه من السذاجة او العبث اللجوء اليها والاستنجاد باحكامها. الآن وقد جدّ الجد، نكتشف ان الحكٌام قد حاكوا بعناية دساتير على مقاسهم، والأهم ان التسلّح بالدستور والتلاعب به هو، منذ اندلاع الثورات، جزء اساسي من الوسائل التي تلجأ اليها قوى الامر الواقع، الداخلية والخارجية، للحفاظ على مواقعها في السلطة والتحكّم بها لحماية مصالحها.

يجب الاعتراف بأن الثوار ادركوا مبكرا أهمية المراحل الانتقالية وموقع الدساتير منها. وبينما المعارضات الرسمية تفاوض على حصة في الحكم، كان شباب الثورة (وبعض شِيِبها، امثال محمد البرادعي في مصر، مثلا) يرسمون خرائط طريق لتفكيك الانظمة الاستبدادية والانتقال الى اشكال من دولة القانون والديموقراطية. ومن نقاط الاستدلال على ذلك الطريق: عقد مؤتمر تأسيسي؛ تسليم السلطة للمدنيين؛ صياغة دستور جديد ديموقراطي يحوي ضمانات للحريات الاساسية؛ وبعد كل هذا يتم الانتقال الى الانتخابات. ناورت قوى النظام والردّة الداخلية والخارجية في الاتجاه المعاكس تماما: تنحّي الرئيس لنائبه (افشلها الثوار في مصر)، تشكيل حكومات جديدة (بمشاركة قوى من المعارضة التقليدية)، صياغة دستور مؤقت وجزئي (في مصر)، انتخابات نيابية ورئاسية، يليها البحث في الجمعية التأسيسية والصياغة الدستورية… الخ.

باختصار: انقاذ النظام في اساسياته، ثم البحث في تعديله وتغييره.

في سوريا، فُرضت «الاصلاحات» لتجديد النظام بالتوازي مع القتل، وجرى تتويجها بدستور عزز من الصلاحيات المطلقة لرئيس الدولة بدلا من ان يعدّل منها، وتولى هذا بدوره تعيين المحكمة الدستورية، بما ضمن تحكمه بالقضاء وبالدستور معا. ثم جاءت الانتخابات. ولم يحن بعد وقت الحوار، والقتل مستمر.

في اليمن، طُبّقت خطة تنحي الرئيس، تلاها تشكيل حكومة شاركت فيها قوى المعارضة التقليدية، قبل ان يعتلي «النائب» المقعد الرئاسي في انتخابات مبايعة، ولما يزل البلد ينتظر الحوار الوطني بين القوى المتنازعة وصياغة دستور جديد وقوانين انتخابية، وما اليها.

حقيقة الامر ان الدساتير تثير اسئلة حرجة تستفزّ المعارضين والثوار، على حد سواء، وحري بها ان تحفزهم على صياغة رؤاهم الشاملة بما يتجاوز الطابع السياسي – العسكري الغالب على الفكر المعارض، ناهيك بالممارسة. المطلوب رؤى تحيط بمشاكل البلاد تقدَّم لها مشاريع لا لبناء انظمة سياسية حقوقية وحسب، بل لبناء اوطان جديدة. والدساتير هي في نهاية المطاف التجسيد لتلك المشاريع والتوثيق لتعاقد جديد بين حكام ومحكومين من اجل تنفيذها.

لا شك في ان ما تحويه الدساتير يحكمه توازن القوى السائد او المستولد بين قوى التغيير وقوى الحفاظ على الوضع القائم، او قوى الردة على الثورة. ومغزى القول ان قوى الثورة فوّتت الكثير عليها لأنها لم تلجأ الى المؤتمرات التأسيسية والى صياغة الدساتير الجديدة بينما هي في أوج قوتها والنظام في أضعف حالاته. او فلنقل عكسا: ان قلب المعادلات الذي فرضته قوى الامر الواقع، والقوى الخارجية الداعمة، بات يفرض على قوى الثورة العودة الى نقطة البداية. وليست مصادفة ان تعود المليونيات الى ساحات الحرية والتغيير في مصر للرد على اصدار المجلس العسكري «الاعلان الدستوري المكمّل».

ليس غريبا ان تكون الدساتير موضع نزاع، في هذه المراحل الانتقالية بكل متعلقاتها من توقيت وهيئات صياغة ونصوص. ولقد نبّهت التجربة الى عدد من القضايا موضع نزاع تقع في صميم الهموم التغييرية وعمليات الانتقال.

موقع الشريعة من الدستور هو اولى المسائل. يجري توريتها تحت عنوان «الدولة المدنية» الذي تطرحه بعض القوى الاسلامية ويتواطأ معها ليبراليون وديموقراطيون ويساريون وتقدميون للتفلّت من الجهر بالـ«علمانية». بعلمانية او من دونها، لا يمكن تجريد مصطلح «المدنية» من دلالتين من دلالاته. الاولى، هي حصر سلطة التشريع بالهيئات المنتخبة من الشعب، وخضوع القوات المسلحة واجهزة الامن لمؤسسات السلطات المدنية. في الحالة الثانية، يصطدم شعار «المدنية» بالركائز العسكرية للسلطة في غير بلد عربي، ومصر في المقدمة. ويرتطم في الاولى بالحركات الاسلامية التي تريد تنصيب هيئات معينة غير صادرة عن الانتخاب الشعبي فوق الهيئات المنتخبة للبت في مواءمة التشريع مع الشريعة.

من جهة اخرى، يبدو انه لم يعد بدّ للدساتير من ان تتعرّض لمسألة هوية البلد والاعتراف بمكوناته جنبا الى جنب مع توكيدها على المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين. ها هو الدستور المغربي يعترف، تحت ضغط الشارع، بالانتماءات المتعددة للمغرب وبمكونات شعبه المختلفة. وهي سابقة في الدساتير العربية خلال حقبة الثورات. سيجرّ الاعتراف بتعدد المكونات جملة من المسائل، ليست اقل منها شأنا ولا هي محصورة بالمغرب. نقصد الاعتراف بلغات اخرى الى جانب اللغة الوطنية (الكردية، الامازيغية… الخ)، او بالتساوي معها؛ او البتّ بتسمية الكيان او البلد (جمهورية عربية سورية ام جمهورية سورية؟) او بملامح ومعالم العلم الوطني (السجال الذي لم يحسم حول العلم العراقي، العلم الليبي الجديد، ارتفاع علم للمعارضة الى جانب علم النظام في سوريا… الخ).

ثم ان موضوع تعيين الاعداء الوطنيين في الدساتير حري به ان يلفت الانظار هو ايضا. ليس تفصيلا، في هذه المراحل الانتقالية، انْ يرد او لا يرد في الدستور التونسي او المغربي او الليبي، مثلا، نص يؤكد ان اسرائيل دولة عدوّ. ففي ذلك الحد الادنى من موجبات الانتماء الى المنطقة تكمن ايضا الحدود الدنيا من المسؤولية تجاه الشعب الفلسطيني والنزاع العربي ـ الاسرائيلي. ومعلوم انه وردت على ألسنة مسؤولين في حركات معارضة اسلامية، وغير اسلامية، تصريحات مبكرة تتعلق بإسقاط الاشارة الدستورية الى اسرائيل. وفي المعنى ذاته، هل يعقل ان لا يرد في دستور سوريا الجديد اشارة الى احتلال اسرائيل الجولان، وتمسك الشعب السوري بحقه في تحريره؟

اخيرا وليس آخرا، المسألة الاقتصادية الاجتماعية. ان اغفال المعارضات مسائل البطالة والفقر وتنامي الفوارق الطبقية واستشراء الفساد والغلاء وتدهور اوضاع الارياف والقطاعات الانتاجية، لا يفقدها الصلة والمصداقية تجاه القوى الحية التي اطلقت الثورات اصلا ومصالحها وتطلعاتها الى التغيير. انه يفسح في المجال واسعا امام قوى الامر الواقع والردّة كي ترمي على عاتق الثورة والثوار عدم الاستقرار والمصاعب الاقتصادية والتردي الاجتماعي والامني، وتجيير كل ذلك لتغليب اولوية الامن، ونشر الفزاعات ضد اي تغيير، حتى لا نقول زرع الحنين الى عهود الاستبداد السابقة. من هنا، فإن تكريس الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الدساتير موضع صراع محتدم اصلا، خصوصا بين من يريد تكريس دور الدولة في خدمة الاسواق ورأس المال المتعولم ومن يسعى لدولة تكون اداة تنمية وتوزيع عادل للموارد والثروات والخدمات.

ولا مبالغة في القول إن سجلّ نجاحات الثورات سوف يُقرأ في سطور دساتيرها، من الآن فصاعدا.

السفير

«رأيت الذي لا بد لي منه…»

حسام عيتاني

في انتظار صدور النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية المصرية الخميس المقبل، ستظل التكهنات بفوز المرشحين، اداة للضغط النفسي والسياسي على اللجنة العليا للانتخابات أكثر مما هي استقراء للواقع.

حملتا محمد مرسي وأحمد شفيق لم تتأخرا في إعلان فوز كل من الرجلين في انتخابات تبدو للناظر من بعيد نموذجا كافكاويا لواقع مشوه: لا دستور، لا مؤسسة تشريعية، لا هيئة تأسيسية، محكمة دستورية أقرت كل هرطقات الرئيس السابق وتؤدي اليوم دور «الختم المطاطي» في يد المجلس العسكري الحاكم، قوى الثورة مفتتة ومتناحرة، «إعلان دستوري» كسيح يتلاعب به العسكر وفق الأهواء والمصالح…الخ. باختصار يحيل المشهد المصري الى «مضحكات ولكنه ضحك كالبكا».

هذه حصيلة عام ونصف من المهاترات بين «الثوار» الذين أخفقوا في كل اختبار خضعوا له من الاستفتاء على الدستور الى الانتخابات التشريعية الى الجولة الاولى من الرئاسيات مرورا بعدم القدرة على تبني موقف موحد من دموية القمع الذي مارسته اجهزة الأمن في احداث ماسبيرو وشارع محمد محمود وصمود «الدولة العميقة» وامساكها بالكثير من روافع التحكم بالسلطة وبدورة الحياة اليومية للمصريين.

كان هذا يجري في الوقت الذي لم يغير فيه المجلس العسكري من مطالبه من الثورة حرفا واحدا. كان جليا منذ اليوم الأول انه ساهم في إبعاد حسني مبارك وأسرته والحاشية الفاسدة المحيطة به، من أجل هدف أكبر وأبعد هو حفاظ الجيش على الموقع الذي يحتله منذ العام 1952 كقوة مهيمنة على المجتمع وعلى جزء كبير من الاقتصاد وخارج على أي شكل من أشكال الرقابة او المساءلة. ورغم تصدع «الأساطير المؤسِّسة» لسيطرة الجيش على الدولة، من الانحياز الناصري الى جانب الطبقات الفقيرة وتأميم قناة السويس وانتصار اكتوبر، إلا أن الجيش لا يبدو عازما على التنحي عن ممارسة السلطة الفعلية، رغم إعلانه نقله «السلطات الدستورية كلها» الى الرئيس المنتخب نهاية الشهر الحالي.

فالزاهد حقاً بالسلطة لا يصدر الاعلان الدستوري المكمل الذي يجعل رئيس الجمهورية موظفا عند المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في اجراء استباقي لما قد تحمله الصناديق من مفاجآت للعسكريين.

في المقابل، ما كان للمجلس العسكري ومرشحه السابق عمر سليمان والحالي أحمد شفيق ان يحققوا كل هذه النجاحات السياسية في تطويق الثورة والالتفاف عليها وتجويف مطالبها، لو لم يكن المجتمع المصري يقف عند مفترق طرق لا يبدو السير في أي منها مشجعا. واحد من الأسئلة الكبيرة، على سبيل المثال لا الحصر، يتعلق ليس بالسياسة الاجتماعية لحكومة يترأسها «الأخوان المسلمون»، بل يتناول البرنامج الاقتصادي لرئيس يأتي من جماعة لم يعرف عنها الاهتمام بالاقتصاد الكبير (الماكرو) فيما تشي تجارب قياداتها في مجال الأعمال بنظرة شديدة الضيق تقوم على تعميم الاستهلاك ونقله من الفئات الأغنى إلى الافقر، على ما يمكن فهمه من نشاط الرجل القوي في «الاخوان» خيرت الشاطر وعدد من رجال الاعمال الذين يتولون ادارة استثمارات عقارية ومالية وعدد كبير من المتاجر والتوكيلات لسلع اجنبية شعبية.

ولعل من الملحّ الاعتراف ان التوازن الساكن للقوى الاجتماعية المصرية ساهم مساهمة كبرى في وقف زخم الثورة وجعل مرحلتها الانتقالية بطيئة ومعقدة تحضر فيها الفئات الأكثر تقليدية حضورا قويا فيما يتراجع محركو الثورة الى الهوامش والاطراف. يعيد هذا الاعتراف الى الأذهان قول ابن عربي:

«رأيت الذي لا بد لي منه جهرةً ولم يكُ إلا ما رأيت من الكون».

الحياة

عن رئاسيّات مصر

زياد ماجد

يمكن تسجيل بعض الملاحظات السريعة على فوز مرشّح الأخوان المسلمين محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية المصرية على منافسه أحمد شفيق الذي يعدّه كثرٌ مرشح المؤسسة العسكرية وبقايا الحزب الوطني.

أوّلاً، جاء هذا الفوز في دورة ثانية شارك فيها حوالي الـ50 في المئة من الناخبين. وهي نسبة مرتفعة إن قورنت بالانتخابات الصُوَرية التي كانت تشهدها البلاد في الماضي، لكنها أقل ارتفاعاً من المتوقّع في ظل ما يُفترض أنه منافسة طاحنة بين خيارين رئيسيين في البلاد.

وثانياً، أظهرت الأرقام في أكثر من محافظة أن قسماً كبيراً من المقترعين لعبد الفتوح وصباحي وعلي وأعداداً من الناشطين الليبراليين واليساريين اقترعوا لمرسي من باب اعتبار هزيمة “مرشح العسكر والفلول” (على ما يسموّن شفيق) أولويّتهم، من دون أن يعني الأمر تأييداً منهم لمرسي أو للأخوان. وهذا سلوك سياسي يُظهر تمسّك أصحابه برفض رموز الحقبة المباركية حتى ولو لصالح مرشح ليس البديل الأمثل بالنسبة إليهم.

وثالثاً، يشير حصول شفيق على حوالي 48 في المئة من الأصوات الى أن فئات واسعة من المصريين اختارت مرشّحاً تظنّه يمثّل الاستقرار، أو يمثّل القوة الرادعة في وجه الإسلاميين. وفي ذلك الكثير من الدلالات، إذ يؤكّد قلقاً من الأوضاع المستجدّة منذ الثورة اقتصادياً واجتماعياً، ويؤكّد كذلك الخشية من “الحكم الأخواني”. كما أنه رقمياً يؤشّر الى أن التيار الإسلامي، بجناحه الأخواني كما بأجنحته السلفية، تراجع بسرعة عمّا كان عليه في الانتخابات التشريعية قبل سبعة أشهر حين جنى حوالي الـ70 في المئة من الأصوات.

ورابعاً، تعكس نتائج الانتخابات الرئاسية، التي أتت بعد يومين من حلّ البرلمان ويوم واحد من الإعلان الدستوري للمجلس العسكري الذي أضعف موقع الرئاسة وصلاحياتها، إتّجاه الأمور في مصر الى مواجهات سياسية قاسية في المرحلة المقبلة، سيحتاج فيها الأخوان الى دعم بقية التيارات التي انخرطت بالثورة، من تلك التي اقترعت لمرشّحهم من باب التصدي لشفيق، أو تلك التي تمنّعت عن الاقتراع.

والأخوان مطالبون لذلك بالتواضع وتعديل سلوكهم النهِم للسلطة الذي أضعفهم وأقلق شركاء لهم (سبّاقون عليهم في إطلاق الثورة) دافعاً إياهم الى الانكفاء مؤقتاً.

خامساً وأخيراً، يمكن القول إن نتائج الانتخابات تشكّل فرصة لليبراليين واليساريين وأنصار الخيارات المدنية والعلمانية لتنظيم أنفسهم وتكثيف جهودهم تصدّياً لقرارات المجلس العسكري التي اعتبروها انقلاباً. فلو فاز شفيق، لكان وضعهم السياسي أصعب، ولازدادت قوّة الأخوان بوصفهم البديل الوحيد القادر على المواجهة.

المهم اليوم في مصر، وفي ما يتخطّاها عربياً، أن “الثورة المضادة” لم تكتمل، تماماً كما لم تكتمل قبلها الثورة، وأن المسار الصراعي مستمر منذ أن بدأ الناس يعودون الى السياسة ويدافعون عنها في الميادين والساحات العامة التي استعادوها، وفي صناديق الإقتراع. وهذا في ذاته واحد من أهمّ إنجازات الربيع العربي الذي لن تقوى عليه مجالس عسكرية ولا تيارات سياسية استئثارية…

لبنان الآن

مصر: تاريخ موجز لثورة في مرحلة «إعادة التحميل»

القاهرة ـ هاني درويش

في الوقت الذي يتجه نحو مليون مصري للتصويت، لأول مرة لانتخاب رئيس للجمهورية، يبدو اليأس المخيّم على الوجوه بليغاً، فبعد عام ونصف عام من ثورة ابهرت العالم، تبدو ضحكة الرئيس مبارك في سجنه وهو يردد «انا أو الفوضى« مجلجلة، فالمتنافسان الرئيسيان هما نتاج المجال السياسي نفسه الذي حاولت الثورة تغييره: دولة أمنية استبدادية ذات ملمح مديني قديمة، او دولة دينية استبدادية جديدة، وكأن ألف قتيل وعشرات الاف المعتقلين والمصابين لا يشكّلون ثمناً مناسباً للحرية التي خرجت الملايين بحثا عنها.

لقد شكلت يوميات ميدان التحرير المبهرة الثمانية عشر، حلما عصيا على التحقق، وكأن الثورة استهلكت قيمتها الرمزية في مشاهد الاحتشاد المهيبة، ثم طاردتها اشباح الشروط الكابحة للحركة السلمية لتحولها إلى اضحوكة بعد ان تحول دخول المجلس العسكري على خطوطها إلى متاهة قانونية متشابكة، فالجماهير المنهكة لم تكن تستطيع تجذير موقفها الثوري اكثر بطلب نقل كامل للحكم إلى الثورة، فكان مشهد لواء المخابرات عمر سليمان وهو يلقي اصغر بيان لانتقال السلطة من مبارك إلى عسكره كفيلا بفرح الجماهير وانصرافها، غير واضعين في الاعتبار كلماته التي شرعنت انقلابا عسكريا اتخذ سمة القانون.

هل يمكننا المبالغة بالقول ان الجماهير تعجلت احساس النصر؟ أي هل كانت الجماهير على استعداد لدفع الثمن اسفل مجنزرات دبابات الجيش المصري؟ الحقيقة انه حتى يوم الثاني عشر من فبراير (شباط) عام لم يكن احد ليصدق مؤامرة استيلاء الجيش على السلطة، فموقع الجيش المصري في المخيلة الجمعية، بل وفي المخيلة النخبوية هو موقع الجيش الوطني الذي خاض مغامرة الاستقلال قبل ستين عاما، وهو الجيش الذي خاض حروب الهوية ضد اسرائيل، وهو بفضل تكوينه جيش شعبي قائم على التجنيد الاجباري، لذا لم يكن سهلاً على ملايين ميدان التحرير استيعاب ملحوظة احراق بعض الثوار مدرعات للجيش كانت في طريقها لنقل الذخيرة إلى وزارة الداخلية يوم سقوطها في يناير، واكتفت دمعات بعض الجنود وعصيانهم لاوامر اطلاق النار حول الميدان في تاكيد الطابع الشعبي للقوات على الأرض، لم يكن احد يعلم خارج حدود ضيقة جدا ان قيادات الجيش والمخابرات تلعب من خلف الميدان مع قيادات الاسلام السياسي، تستدعيهم لتأمرهم باستيعاب الهبّة والتأثير على الجسد المجهول التكوين لمتظاهري التحرير لينصرفوا تحت شح تنازلات مبارك في خطاباته الثلاثة، لقد كانت مجهولية جمهور الميدان الغير مكلل برأس سياسية منظمة عاملاً في نجاح الثورة في ايامها الاولى، ثم عاملا لهزيمتها لاحقا في كل المنعرجات.

لقد راهن نظام مبارك منذ اليوم الأول للثورة على «إصلاحية« جماعة الاخوان المسلمين، وعلى طبيعتهم التنظيمية المعادية للتغيير الانقلابي، واستئناسهم عبر عاما من تربية الساحر للثعبان، لذا لم يكن غريباً ان يلجأ المجلس العسكري إلى قوتهم التنظيمية في تحويل ثورة إلى اصلاح شكلي عبر تقديم بعض العظام الجافة والبائسة، فجوع جماعة للسلطة عبر ثمانين عاماً جعل شره تفاوضها مع السيد المهزوم يقبل عطاياه التي لم تتجاوز مجرد الاعتراف بهم. لقد قبلت جماعة الاخوان اولا تعيين عمر سليمان نائباً للرئيس، وانسحبت من الميدان تاركة جماهيره لقمة سائغة يوم معركة الجمل فبراير (شباط)، علّ التظام يوجه ضربة قاصمة لطموح الميدان اللانهائي، وتكلل التعاون بين الجانبين بعد تنحي مبارك باعلان دستوري اقتصر حضور التيارات السياسية في صياغته على الاخوان، اعلان دستوري لا يحتوي من الدستورية شيئاً، ينقل كل صلاحيات الرئيس للمجلس العسكري وهي صلاحيات مطلقة، ويهندس مسارا سياسيا ينزع المشروعية عن الميدان وينقلها إلى الغرف المغلقة بين العسكر والاخوان، كان الإعلان الدستوري يدعو إلى استفتاء على تعديلات دستورية محددة، ذهبت الملايين إليه لتقول نعم لحكم العسكر المظلل بمشروعية الاخوان. واشاعت القوى الاسلامية استقطابا بين الدين والعلمانية فيه، فنزل ملايين المصريين للتصويت دفاعا عن «إسلام الدولة» من دون أن يعلموا انهم يصوتون لصالح صلاحيات مطلقة للعسكر. هكذا تم انجاز التعاون المبدئي بين الطرفين، صلاحيات مطلقة للجناح العسكري من نظام مبارك، امام اعتراف بحزب جماعة الاخوان، وتوسيع المجال للسلفيين لتأسيس حزبهم مهرولين جميعا نحو انتخابات فيما الميدان ينادي بيأس «حرية، كرامة، عدالة اجتماعية«.

شكلت أحداث صدامات شارع محمد محمود ومجلس الوزراء مجالاً لتمتين ذلك التحالف، فثوار الميدان احتجوا على افراط الشرطة في استخدام العنف ضدهم، في الوقت الذي بدأت القوى الاسلامية رفيقة الميدان أمس، في ترديد دعاية غوبلز ضدهم، قال الاعلام الرسمي اول ايام الثورة ان الثوار مدمنو مخدرات ويتلقون اموالا من الخارج، فردّد الاخوان والسلفيون الدعاية نفسها في الحدثين الكبيرين. قال اعلام النظام اوائل الثورة ان الميدان ضمّ اسرائيليين وإيرانيين، فقال الاخوان لاحقاً ان الميدان يعمل لصالح» أجندات أجنبية». قال الإعلام الرسمي إن متظاهرين مسيحيين حاولوا اقتحام مبني التلفزيون الحكومي وقتلوا جنودا من الجيش، فنزلت ميليشيات السلفيين والاخوان تبحث عبر كمائن في الشوارع عن مسيحيين للاعتداء عليهم. وهكذا تعمّد اتفاق العسكر وبالاخوان بنحو قتيل خلال أربعة اشهر، ونحو سجين بالاحكام العسكرية.

هل يمكن الحديث هنا عن مسار سُمّي إصلاحياً للثورة انتج تخريباً شاملاً لها؟ هل يمكن القول إن اصلاح نظام خرِب من دون الاخلال بقواه، لا يعني الا اعادة انتاجه في أسوأ صوره؟ الحقيقة أن المجلس العسكري هندس خراباً شاملاً بتحالفه التكتيكي المرحلي مع الاخوان، معتمدا بالاساس على ركاكة امكاناته الادارية المتزامنة مع افراط في العنف والمصاحبة غالباً مع قدرته الفذة على اشاعة استقطاب الرعب الذي تحدث عنه مبارك: انا او الفوضى، والحقيقة ان التماس بين ضمير «الأنا» والفوضى اصبح عصيا على الفصل بين المسارين، بحيث اصبحت المعادلة حدية وقطعية: انا الفوضى الكاملة، كيف حدث ذلك؟ فلنتأمل هذه التتابع.

اعتمد النظام العسكري على قدرة الاخوان التنظيمية في ضبط مسار الثورة، دخل الجميع اتون ومصهر انتخابات برلمانية مبكرة افرزت استدعاء لجماهير الشعب باسم الاستقرار واعادة تدوير عجلة الانتاج المعطلة، ومع اختفاء الجسد التنظيمي للحزب الحاكم المنحل، استولت القوى الاسلامية على أغلبية مريحة باكبر كم من التجاوزات والترهيب ضد رغبة الميدان، فثوار الميدان طالبوا بتطهير الساحة اولاً وكتابة دستور ثم انتخابات رئاسية فبرلمانية، ونتيجة شهوة الاخوان لانتزاع سلطة التشريع سريعا وتثبيت نجاحهم الجماهيري، تسلّموا برلمانا منزوع الصلاحية القانونية، حيث يملك المجلس العسكري وحده التصديق على القوانين بفضل الاعلان الدستوري المعيب، وأدى سعارهم على الكسب إلى محاولة انتزاع حق تشكيل الوزارة ليجمعوا سلطتي التشريع والتنفيذ. هنا شعر العسكر بتغول الاخوان خلف خطوط التفاوض. هنا ادرك ساحر الثعبان ان حيتّه تسعى خارج نغمة نايه. وجاءت للإخوان اكثر من فرصة للالتحام بالميدان حتى ولو بشكل تكتيكي، ففرصة تطهير الجهاز الامني كانت تحت ايديهم عندما قتل عشرات من شباب الالتراس في بورسعيد، لكن الاخوان حموا جريمة الجهاز الامني وصفقوا لوزير داخلية كان حتى اشهر قبل الثورة يعذب قياداتهم. وقف الاخوان على المستوى التشريعي البرلماني في مواجهة اهداف الثورة الحقيقية. رفضوا تنفيذ الحد الأدنى للاجور، رفضوا قوانين اصلاح الاعلام، وافقوا على التصالح المالي مع قيادات نظام مبارك الفاسدة، واكتفوا بتقديم قوانين معادية للعمال، مقيدة لحريات الانترنت، بل ورفضوا وقاوموا وقف المحاكمات العسكرية غير الإنسانية.

كل ماتحقق من انجازات للثورة- وهو قليل ورمزي بحساب حجم التضحيات- كان من ضغوط الميدان لا من مسار السياسة الاخوانية العسكرية، فمليونيات «التحرير« هي التي أجبرت المجلس على محاكمة مبارك ورجاله، السياسيين منهم والامنيين، وقد قاوم طرفا الثورة المضادة- هكذا يمكن أن نُسمّي العسكر والاخوان- ان تكون تلك المحاكمات ثورية او استثنائية، وفي ظل فساد جهاز شرطة لم تصله رياح التغيير، وقضاء يتحكم فيه النظام وعسكره، جرى إفساد أدلة إدانة مبارك ورجاله تحت أعين الجميع، بحيث حين تصل القضية إلى قاضٍ لا يفهم إلا في قانون اجرائي فيكون مجبرا على تبرئة القتلة الحقيقيين من ضباط الشرطة، فالاف الفيديوهات على موقع اليوتيوب لقتل المتظاهرين لا يعترف بها القانون المصري، لقد ضحى العسكر بورقة مبارك المحترقة مقابل عدم الحكم على ضابط قاتل واحد، لينتصر منطق النظام الاستبدادي الامني، ورغم ذلك لم ينتبه الاخوان لما في متاهات القانون المصري من شبكات قد ترتد عليهم حال توافر الرغبة السياسية للعسكر في تطويقهم في أي لحظة.

لحظة العسكر المرتقبة كانت قد حانت، فبعد وعد الاخوان بعدم الطمع في منصب رئاسة الجمهورية، وبعد أن أدركوا أن البرلمان وحده لا يصلح للتمكن من مفاصل النظام، اندفع الرجل الغامض عمر سليمان للترشح امام رجلهم الأقوى خيرت الشاطر، كاد المشهد مع فتح باب الترشح ان يتحول إلى صدام مفتوح بين بقايا النظام الساكنة، التي فوتت للاخوان فرصة الانفراد بالبرلمان، واستفزها خروج الإخوان عن تعهداتهم الرئاسية، ووفرت اللجنة العليا للانتخابات فرصة فض الاحتقان المتصاعد بمنع ترشح سليمان وخيرت، لكن الاخوان صمموا على الدفع بمحمد مرسي المرشح الاحتياطي، مع التلويح بتطبيق قانون العزل السياسي من طرف البرلمان بعيدا عن موافقة المجلس العسكري، ولاحت للاخوان فرصة أخرى لتوسيع المواجهة باستيعاب القوى الثورية في تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، لكن الفصيل المبرهن دائماً على غباء سياسي تاريخي رهن تراجعه في تشكيل الجمعية التأسيسية على فصل المحكمة الدستورية لصالحه في قضية «الشرعية الدستورية للبرلمان». فعبر كل مسارات الاعلانات الدستورية التي اطلقها العسكر بمباركة الاخوان، كان العسكر، يضعون السم في العسل، يصيغون مواد دستورية مزدوجة المعنى تسمح لهم وهم الطرف الأقوى، بحق تأويلها وفقاً لمصالحهم، متسلحين بطابور قضائي خامس قادر على تسويف القانون وفقاً لرغبات من يحكم بقوة السلاح، ورغم ذلك، رغم كل المسارات التصادمية المتصاعدة بين الطرفين، ورغم ما افرزته نتائج الجولة الأولى، من الانتخابات الرئاسية من الكشف عن كتلة ثورية انتخابية رفضت الطرفين، وصوتت بنحو في المئة لمرشحين ثوار خارج الاستقطاب العسكري – الأخواني، الا ان الاخوان رفضوا التحالف مع القوى الثورية في الطعن على نتائج الانتخابات في الجولة الأولى، والتي اظهرت تزويرا فجا لمرشح النظام السابق، مراهنين بورقة الاعادة منفردين امام الفريق احمد شفيق، متلبسين لمرة اخيرة الحق في الحديث باسم المسار الثوري الاصلاحي، بل انهم صعدوا إلى مقصلة الاعدام منفردين حين قرروا استكمال حملتهم الرئاسية وعدم الانسحاب بعد فصل المحكمة الدستورية في عدم شرعية البرلمان وحلّه، والابقاء على أحمد شفيق المطارد ببلاغات قضائية مرشحاً رئاسياً، صعد الاخوان إلى الجلجلة منفردين، مفوتيّن فرصة كشف لعبة المجلس العسكري عبر انسحاب مرشحهم، فالاخير، اي المجلس العسكري نزع صلاحيات البرلمان وصادرها لنفسه، ومعه اصبح الرئيس القادم مجرد سكرتارية تنفيذية للجنرالات أياً كانت هويته، بل ان تنصيب الرئيس القادم سيكون بحلف القسم امام المجلس العسكري، مع تطويق اي حراك جماهيري مفترض بقانون جديد يشرعن وضع الضباط كهيئة قضائية، واستعراض بقوات الصاعقة والطائرات المروحية أمام وأعلى لجان التصويت.

قارئ هذا السرد عن الثورة سيسأل نفسه: اليست تلك القصة عن صراع الاقوياء؟ أين ثوارالميادين من هذا الصراع؟ أين اختفوا في هذا المسار الالتفافي؟ هل ساهموا بضعف تنظيمهم الاصيل ورومانسية طرحهم الثوري في تخلية الساحة للأقوياء؟ بعض من هذه الاسئلة نظري ومتعالٍ؟ وبعضه يحق لمؤرخي الاجيال القادمة ان يسألوه لاحقا، فالاجابة التي تنكر حق الحالمين الذين دفعوا دماء اخواتهم زرافات لنحو عام ونصف، الذين سحلوا في الميادين، وعريت منهم النساء، وكُشفت على عذريتهن، وقتل منهم برصاص بارد المئات، واحتجز منهم ولازال الالاف… هذه التضحيات هي ما تؤكد بقاء الثورة فكرة تقاوم الدم والنار، هي ما تدفع الملايين اليوم لمقاطعة الانتخابات، لا بفعل كراهية الثورة كما يعتقد البعض، بل بفعل الحزن عليها، انها جولة لالتقاط الانفاس لا اكثر، فمن تخيل ان عاماً ونصف عام قادر على ازاحة دولة العسكر الراسخة منذ ستين عاما او كشف هشاشة خيار الاسلام السياسي هو واهم. الفارق ان ملايين اليوم تدرك حجم الخراب الساكن اسفل ركام النظام السابق، وان مواجهته باسم شعارات «عيش حرية عدالة اجتماعية» هي مواجهة مفتوحة خارج الميادين. لقد جربوا المواجهة مرة ونجحوا، وهم على استعداد لتجربتها مرة أخرى من دون شك.

المستقبل

الانتفاضات الراهنة وذرائع مُتهمِيها

بشير هلال

قدَّمت وقائع الكوميديا السوداء الأخيرة للمشهد السياسي والانتخابي والقضائي المصري عناصر إضافية لتصاعد خطاب استهجان وتبئيس مصائر «الثورات العربية» وسياقاتها والحكم بعبثيتها وعدميتها. وتتذرَّع هذه الظاهرة خصوصاً بوقائع واتجاهات ملأى بدلالات حقيقية تُنزَع بقصدٍ أو من غير قصد من شروط اشتغالها ونسبيتها وتتغذى من أربعة مصادر أساسية: الأول، غلبة كتل الإسلام السياسي على المشهدين السياسي والاجتماعي وبروز مكوّنها السلفي وخطاباته وأعماله الفاقعة والخارجة على المألوف السياسي والدولتي والفقهي، الأمر الذي شجَّع على الاعتقاد بأن تبديل السلطة هو ذلك الذي يتم لمصلحة إسلاموية سياسية ليس لمراجعاتها سقف ولا قعر. الثاني، غلبة مشهدية التمزق الأهلي وانعدام الاستقرار المؤسسي والقانوني على تجربة البلدان التي نجحت فيها موجة «الربيع العربي» باجتياز حاجز إسقاط السلطات القائمة أو بعض رموزها وتفاقمها في تلك التي ما زالت تصارع لبلوغه. الثالث، أن «الثورات» بسبب المحمول التدَيُني المنسوب إلى جماهيرها عموماً والقمعي الرجعي المنسوب إلى القوى الإسلاموية الغالبة عليها، تحمل خطر التحول إلى «ثورة» مضادة ظلامية ومستبدة في آنٍ وأنها بهذه الصفة أقل أماناً تاريخياً من ديكتاتوريات «مستنيرة». الرابع، أن سياقاتها الحبلى بعنفٍ حاضر واحتمالي تُنبئ بأنها لن تكون في الأفق التاريخي أقل عنفاً من نماذج الأنظمة المُسقَطَة أو تلك التي تجري عملية إسقاطها، وأنها حمَّالة لأخطار الحروب الأهلية (مذهبية وطائفية ودينية وإتنية وجهوية) وللفوضى البنيوية المستدامة وزيادة التدخلات الأجنبية. من الجلي أن استخدام المصادر المذكورة لاستنتاج عبثية وحتى ضرر «الثورات العربية» وصولاً إلى القول أحياناً بعدم ضرورتها ولزومها، إنما يتم وفق عملية تأويل انتقائي وتعسفي.

فمن جهة أولى جرى تضخيمٌ وتهوينٌ متوازيان لما يجري أو لبعضه. فاسْتخدِمَت ثنائيات اصطلاحية كمثل «الربيع» كي يُستنتَج بعده «الشتاء» و «الثورة» لتقابلها «الثورة المضادة» وسط إغفالٍ غالبٍ لتاريخية الدلالات والمعاني. وهي ثنائيات تبسيطية قاصرة التعبير عن تركيبية عملية انبثاق الانتفاضات العربية أشكالاً ومسالك ومن شأنها إثارة يوتوبيا تستدعي تلقائياً ولاحقاً إنتاج إحباطات وسديم معيارية تسوِّغ القديم أو بعضه. فما يجري هو سيل انتفاضات تتحوَّل بسبب عمقية منابعها إلى عملية ثورية من دون أن تؤدي بالضرورة إلى ثورة بالشروط الكلاسيكية وبالمقدار الذي يمكن أو لا يزال ممكناً فيه الحديث عن «ثورة».

ومن جهة ثانية، يُغفِل بعض الأدبيات والإعلام الرائجة أن العملية الثورية هذه تمت وتتم بالأدوات التي تجدها أو تتعلمها وتصنعها خلال العمل ذاته بمواجهة السلطات الديكتاتورية ودرجات قمعها ومراوغتها. من هنا، ليس غريباً بالمطلق أن تتولى فيها جماعات «الإخوان المسلمين» – وبصرف النظر عن تقويم منهجها الفكري ووسائل عملها وازدواجيتها – دوراً يفوق تأثيراتها وأحجامها الفعلية بصفتها الأقدم والأكثر تجربة في تنظيم الشبكات الاجتماعية والسياسية والدعوية والأشد تعرضاً تاريخياً لاضطهاد السلطات بالمقارنة مع مجموعات يسارية و/ أو ليبرالية تقليدية تخالطت غالباً وفي أشكال مختلفة – بينها الأيديولوجيا – مع الديكتاتوريات المتهاوية، وفقدت تماسكها في الوقت الذي لم يُتَح الوقت الكافي بعد للمجموعات الشبابية التي لعبت أدواراً أصلية في إطلاق الانتفاضات لإنتاج تمثيلات سياسية لا سِيَّما أن أدوات التواصل الاجتماعية الحديثة التي كانت سلاحها الرئيسي لا تحضّ على مركزية تنظيمية أو سياسية ما. ومن جهة ثالثة، يجري تجاهل أي تصنيف تراتبي للزمن التاريخي وسياقاته، فكأنما كان على الانتفاضات العربية أن تتحول إلى ثورات ناجزة خلال الموجة الممتدة على سنة ونصف سنة، لا غير. ويبدو من باب لزوم ما لا يلزم الرد على ذلك بأن الثورة الفرنسية مثلاً استغرقت ثمانية عقود ونيِّف تخللها الإرهاب والبونابرتية وعودة الملكية والثامن عشر من برومير والهزيمة أمام ألمانيا والكومونة وسحقها قبل أن تستقر الجمهورية. وأكثر من قرنٍ لإنجاز الفصل بين الدين والدولة والإقرار بحرية الاجتماع وأكثر من قرن ونصف قرن لاكتساب المرأة حقوقها الانتخابية بعدما استخدمت الأحزاب الراديكالية طويلاً وفي شكلٍ موارب الطابع المحافظ لمجلس الشيوخ في إفشال اقتراعات الجمعية الوطنية المتتالية لمصلحة هذا الحق، بذريعة الخوف من تعلق النساء بالكنيسة وتأثيره الذي قد يكون سيئاً في الجمهورية والعلمانية. وهو أسلوبٌ يمكن وضعه اليوم في خانة الهرطقة على الديموقراطية أياً تكن نوايا أصحابه.

ومن جهة رابعة يؤدي بعض المحاولات الدؤوبة لنمذجة الانتفاضات العربية إلى استدعاء عنصر إحباط إضافي أو إدانة مسبقة. فمقارنتها بالنموذج التركي لـ «المتفائلين» وبالنماذج العراقية واللبنانية والبلقانية والطالبانية والصومالية لـ «المتشائمين» لا علاقة لها بواقع التنوع المحلي والوطني لهذه الانتفاضات وعدم ائتلافها الجوهري مع أي نمذجة.

وفي المقابل فإن النقد الغالب يُغفِل الظواهر الجديدة وأولاها سرعة «الميادين» الشعبية في إعادة تقويم المشهد السياسي وقواه وفق شبكة قراءة جديدة تفرز مكاناً متناقصاً للتعليلات الإسلاموية لمصلحة التفكير في مصالح جمعية وسلالم معيارية وقيمية أفرزتها الانتفاضات. فليس مصادفة على سبيل المثال أن ينخفض تأييد «الإخوان المسلمين» في مصر إلى نحو نصفه بين انتخابات تشريعية ورئاسية، وأن ينال منافسٌ منشقٌ عنهم وأكثر انفتاحاً أقل قليلاً مما ناله مرشحهم على رغم إدلاء بعض مؤيدي الأخير بالرضا «الإلهي» عنه، أو أن يكون نصف مقترعي جولة الإعادة اختار واحداً من المُرَشحَيْن رفضاً للاستبداد الذي يمكن أن يجسده المرشح الآخر: العسكري للمقترعين لمرسي والإسلاموي للمقترعين لشفيق، ولا أن «يضطر» المجلس العسكري إلى استخدام كل وسائل المناورة والضغط والقوة العارية أحياناً لإنقاذ امتيازاته ومنع التحول إلى الديموقراطية من دون نجاح مؤكد. كما ليس مصادفة اشتداد التمايزات في التيار الإسلامي العريض على امتداد بلدان «الربيع العربي» ولا اتساع مواجهة شرائحه الأكثر تسلفاً. ثم إن الظواهر والأخطار التي تتسلط عليها أضواء الاستهجان هي تلك التي فاقمتها الديكتاتوريات بتكسير مجتمعاتها ومصادرتها وإرجاعها إلى ما دون السياسة، والتي تجد في الانتفاضات الفرصة الأولى الجدية منذ الاستقلالات لإنتاج ممكنات وأطر معالجتها.

الحياة

سيناريو الانقلاب المصري

الياس خوري

ما يبدو انقلابا قانونيا صنعته المحكمة الدستورية العليا عشية دورة الاعادة في الانتخابات الرئاسية المصرية، هو مجرد فصل في سيناريو بدأت ملامحه تتضح منذ الأيام الأولى للثورة. تجسّد هذا السيناريو اولا في محاولتين فاشلتين قام بهما الجيش لتطويق الثورة الشعبية، حكومة احمد شفيق وتعيين عمر سليمان نائبا للرئيس. جنرالان اعلنا نهاية حقبة التوريث، اي نهاية زمن مبارك ومشروعه الجنوني في توريث ابنه جمال رئاسة مصر. وهو توريث كان ضد التقاليد التي رست بعد 23 يوليو 1952، القاضية بأن يأتي الرئيس من المؤسسة العسكرية. المحاولتان فشلتا امام اصرار شباب الميدان على الاستمرار في الثورة من جهة، وامام التناقضات الداخلية في النظام المصري من جهة ثانية. حصلت مغامرة معركة الجمل، التي اعلنت ان وزارة الداخلية الملحقة بالعائلة الحاكمة لم تقبل التسوية المقترحة التي تنقذ النظام على حساب الرئيس وعائلته.

فشل السيناريويين لم يحبط المؤسسة العسكرية، بل جعلها تنحني امام العاصفة مؤقتا، فتم طرد مبارك من السلطة، وتشكيل حكومة عصام شرف، والالتفاف على الثورة من خلال تحالف غير معلن مع الاخوان قضى بالقبول بحكم المجلس العسكري، وقاد الى الاستفتاء على الاعلان الدستوري الأعرج الذي كان يعني شيئا واحدا، هو اعطاء الانقلاب العسكري الذي استولى من خلاله المجلس الأعلى للقوات المسلحة على السلطة الشرعية الدستورية.

انقلاب الجيش على الثورة كان متوقعا، اما المفاجأة فقد جاءت من قبل حركة الاخوان المسلمين التي تصرفت في وصفها الوجه الآخر للسلطة، واجهضت محاولات ميادين مصر اسقاط سلطة الجيش، لأنها اعتقدت انها تستطيع انجاز صفقة مع النظام عبر اقتسام السلطة بينها وبين المؤسسة العسكرية. هذا الاحتمال لم يكن مستحيلا بل بدا، وخصوصا بعد انتخابات مجلس الشعب، انه الاحتمال الأقرب الى الواقعية السياسية. فالطرفان يواجهان خصما كبيرا يجب القضاء عليه. صحيح ان ميادين الثورة لم تكن تمتلك قيادات تاريخية قادرة على ترجمة الزخم الثوري الهائل في مشروع سياسي، وصحيح ايضا ان السقوط في لعبة الانتخابات التشريعية من دون مجلس رئاسي مدني ومن دون دستور ومن دون تطهير اجهزة الدولة من الفلول كان خطأ مميتا، غير ان الاحتمالات التي تشير اليها يقظة الأعماق الشعبية المصرية بعد عقود طويلة من الاستبداد كان يخيف السلطتين معا: سلطة الجيش التي تسيطر على اربعين بالمئة من الاقتصاد المصري وسلطة الأخوان التي اعتقدت انها تمتلك اضافة الى شبكاتها الاجتماعية القدرة على السيطرة على العقول والقلوب من خلا ل خطابها الديني. لذا بدا التحالف بين قوتي السلطة ممكنا بل اوحي بأنه احتمال يحظى بالرضى الامريكي، وهو التحالف الكفيل بقتل روح ثورة 25 يناير وتحطيم الاندفاعة الشعبية الكبرى التي صنعتها.

غير ان عاملين تدخلا ليعلنا فتح باب الصراع من جديد:

الأول هو عجز الاخوان وعدم قدرتهم على تحسين موقعهم التفاوضي مع الجيش عبر بناء تحالف عريض مع القوى السياسية المختلفة. وقد تجلى ذلك في جوعهم المفرط الى السلطة بحيث بدوا وكأنهم لا يريدون اي تحالف، معتقدين بسذاجة ‘اخوانية’ انهم يستطيعون عبر نجاحهم البرلماني الاستئثار بالسلطة. كان الاداء الاخواني في مجلس الشعب كارثيا، من تمرير حكومة الجنزوري الى تحويل البرلمان الى ما يشبه التكية تحت ضغط السلفيين، وصولا الى العجز عن بناء مشروع تشريعي يقطع مع النظام السابق. وقد قاد هذا الى تآكل شعبيتهم، ما زاد في تخبطهم، وقادهم الى تمرير قانون العزل السياسي الذي اقره البرلمان، وهو عزل لا ينطبق على عمر سليمان واحمد شفيق وحدهما، بل يشمل نظريا الطنطاوي وجميع اعضاء الجلس العسكري. اي انهم في غمرة خوفهم من احتمال سقوط مرشحهم الاحتياطي محمد مرسي، كسروا آخر خيط يجمعهم بالمجلس العسكري، فصارت تنازلاتهم السابقة مجرد فخ وقعوا فيه وحفرة حفروها لأنفسهم.

الثاني هو السيناريو الانقلابي الأصلي الذي لم يتخلّ الجيش عنه الا مرغما وبشكل تكتيكي. هذا لا يعني ان الجيش لم يكن مستعدا لتسوية اذا كان لا بد منها، لكنه كان يريد من اية تسوية ان تترك له اليد العليا في سياسة البلاد، وان لا تمتد الى استقلاله الاقتصادي والتنظيمي الكاملين. التانغو المعقد بين الجيش والاخوان شرعن سلطة المجلس العسكري من جهة، وافرغ سلطة الاخوان من عناصر قوتها. وجاءت نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية لتجعل من قرار الجيش الاطباق على السلطة ممكنا. فقد عبر الجنرال احمد شفيق الى دورة الاعادة، وظهر تآكل الصوت الاخواني، كما ثبت ان ميادين الثورة لم تُهزم، عبر بروز حمدين صباحي وعبدالمنعم ابو الفتوح. وبدا ان خطر عودة شباب الثورة الى الصدارة اكثر جدية من ان يترك للاخوان، فتم الانقلاب الدستوري عبر حل مجلس الشعب تمهيدا لشرعنة هذا الانقلاب عبر فوز شفيق بالرئاسة و/ او عبر اعلان دستوري مكمّل افرغ الرئاسة من سلطاتها جاعلا من المجلس العسكري رقيبا ومشرّعا وحاكما يجلس في منطقة وسطى بين المسرح وكواليسه.

تميز اداء الجيش حتى الآن بدهاء مؤسساتي، لكن تمرير انتخاب الجنرال شفيق يحتاج الى اكثر من ذلك، لذا احتاط الجيش لاحتمال سقوط مرشحه عبر تفريغ منصب الرئاسة من مضمونه، مما سيحوّل نتائج الانتخابات الرئاسية الى مجرّد محطة في الصراع الطويل بين سلطتين فاقدتي الصلاحية.

لا شيء واضحاً في رقصة التانغو العدائية بين الجيش والأخوان، وهذا يذكّرنا بالشعار الشعبي المصري: ‘اتنين ما لهمش آمان/ العسكر والاخوان’. لكن الواضح هو ان طرفي الصراع يستغلان غياب اصحاب الثورة الحقيقيين عن الصورة، بعدما اشارت الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الى الفشل في تقديم مرشح واحد للرئاسة، ما اضاع الأصوات بين حمدين صباحي وعبدالمنعم ابو الفتوح. والسؤال هو كيف ومتى تستطيع الثورة المصرية بلورة بنيتها السياسية من اجل وضع حد للمأزق المصري، وطي صفحة الحكم العسكري؟

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى