تحية بالأسود والأبيض إلى الرسّام الذي اعتقله الاستبداد يوسف عبدلكي نريدكَ أن تعود إلى محترفكَ في دمشق
محمد شرف
تأبى الحالة السوريالية التي نعيشها إلاّ أن “تتحفنا” بخبر توقيف يوسف عبدلكي، الفنان السوري القدير والمعروف، مع اثنين من رفاقه، عند حاجز قرب فرع الأمن السياسي في مدينة طرطوس.
تردنا مثل الأنباء السيئة كل لحظة، من كل حدب وصوب. أنباء تفيد بتعثر كل شيء، تقريباً، كي لا نقع في المبالغة الكاذبة. نتناول الخبر الرديء مع حبّة الزيتون صباحاً، ونتناوله ظهراً مع الطعام، ردعاً للجوع لا أكثر. نعيش اللحظات في انتظار نبأ قليل السوء، كي لا نقول: في انتظار نبأ مفرح. فالفرح ولّى الى مطارح أخرى، ولا طاقة لنا للحاق به.
لا مناص من إبداء شعور الاستهجان لدى سماع خبر كهذا. فكيف إذا كان الأمر يتعلق باعتقال يوسف عبدلكي، الفنان المثقف، الهادئ والرزين، الذي تفصله مسافة لا تقاس عن كل حماقة أو مغامرة غير محسوبة العواقب، أو تطرف بلا جدوى. نقول إن عبدلكي يشكل النقيض تماماً لكل ما جرى ذكره، لا بل وقف، هو ورفاقه، بقوة الرسم والكلمة، في وجه آلة الدمار إلى أي جهة انتمت، ولم يحمل سوى السلاح الوحيد الذي يتقن استعماله: سلاح الفن، ريشة وقلما وأوراقاً ورؤية.
بالأبيض والأسود غالباً، وببساطة محيّرة، قد تكون صعبة المنال لمن يهوى تعقيد الامور و”شربكتها”، استطاع هذا الفنان أن يرسم أشياءه المستقاة من عالم نسمّيه جامداً، أو ميتاً، علماً أنه، في حالة عبدلكي، لا ينبغي أن تؤخذ كلمتا “جامد” و”ميت” على مدلولهما المباشر، فالأمر أبعد من المعنى اللفظي، المتفق عليه، للكلمتين. عبر واقعية خاصة، لا تقليدية، رسم الفنان رأس سمكة في صندوق، لحماً حيوانياً فارق الحياة، محاطاً بالخواء وباعثاً للشعور بالخوف. جمجمة حيوان ميت أزال الزمن غلافها العضوي، وصارت وحيدة في فراغ عظيم. حذاء انثوي انفلتت رباطاته، كأن قدما نسائية خلعته للتو ومضت الى المجهول. أوانٍ بعثرتها المصادفة على طاولة وبقيت مستقلة في ذاتها. عسكريون “ظرفاء” بأوسمة كثيرة تزيّن صدورهم، وكانوا اكتسبوها من دون خوض معارك جليلة. ثم، حديثاً، رسوم جسّدت نتائج المعارك المستعرة، في بعدها الانساني والتراجيدي: قتيلاً ممدداً على الأرض بعدما تلقّى رصاصة في الرأس، ولا تشي صورته بانتمائه الى جهة معينة، أو الى هذا الفصيل أو ذاك، على رغم علمنا أنه من طلاب الحرية، على معانيها العديدة، التي من أجلها سقط كثيرون ولا يزالون يتساقطون.
رسم عبدلكي الاهوال التي تسببت بها الحروب، ورسم قبلها جماداً، لكنه لم يرسم حالة الفناء المطلق، الذي لا وجود له أصلاً. قد يكون الموت والجماد بالنسبة إليه، شكلاً من أشكال الحياة، وإلا فكيف نفسر شعور الدهشة الذي يصيبنا من خلال معاينة تلك الأشياء البسيطة والمهملة، وكأن الفنان يدفعنا الى رؤية ما وراءها، عبر مهارة تقنية ليست هدفاً في حد ذاتها، بل وسيلة لبلوغ مشارف ذاك العالم الداخلي الغامض، حيث يختلط الوجود مع العدم، والضوء مع الظل، ويبرز المتن أمام الخلفية، أو يتضافر معها من أجل تجسيد الفكرة التي، على واقعية الرسم، تبلغ آفاقاً مفهومية.
لقد كان من غير المتوقع ان تشكّل حادثة توقيف يوسف عبدلكي حافزاً لنا كي نعيد قراءة اعماله. كنا نقوم بهذه المهمة في ظروف مختلفة، عادية الى حد ما. وما يثير دهشتنا، وهي هنا دهشة مختلفة عن سابقتها، ان شعوراً يتكون لدينا مفاده ان الفنان ربما استشرف مما كان سيحدث في بلده، عاجلاً أم آجلاً. فرسومه، في رأينا، تمثل صراعاً بين الحياة والموت، وهذا ما صار أمراً يومياً. صراع يمارسه الناس العاديون من أجل البقاء على قيد الحياة، أو من أجل أن تكون هذه الحياة شريفة، وصراع يمارسه جهلاء من أجل احلال الموت. أما عبدلكي ورفاقه، الذين وقّعوا بياناً يُعتقد أنه يقع في اساس توقيفهم، فهم أيضاً يمارسون صراعهم الخاص، بأدواتهم الخاصة، من أجل حلم لا بد أن يصير واقعاً، فالزمن لا يعود الى الوراء. وهذا الحكم لم نبتكره، بل أورثنا اياه التاريخ.
بلغة فيها الكثير من الرموز، صاغ يوسف عبدلكي عالمه التشكيلي المتنوع، وأسلوبه الشخصي. وبلغة واضحة، بلا رموز، نطالب بإطلاقه، الذي نأمل أن يكون قد خرج الى الحرية لحظة نشر هذه الكلمات، في حال أدرك مقيّدو حريته فداحة الخطأ الذي ارتكبوه.