تداعيات العنف والفوضى الكيانية
سليمان تقي الدين
توالت المواقف العربية والدولية الداعية إلى تسليح المعارضة، ولا سيما “الجيش السوري الحر”، وتقاطعت معلومات مصادر دبلوماسية على أنه لا عودة عن قرار إسقاط النظام . توهّم النظام أن الحل الأمني يمكن أن يعيد إليه سلطته المركزية، وأن يخمد المعارضة ويعيد إليه مرجعية التفاوض والتقرير على مستقبل سوريا في الصراع الإقليمي والدولي . استطاع حتى الآن أن يثبت وحدة المؤسسة العسكرية والأمنية وولاء جمهور ليس بقليل على اختلاف الأسباب والدوافع . لكن الحصيلة الأكيدة أن الفوضى تعم الكثير من المناطق والانقسام السياسي يتعمق ويتجذّر، ومستوى العنف والدم والدمار والخراب الاقتصادي بلغ حداً يصعب معالجته .
في هذه الأزمة الكيانية المركّبة من معارضة الداخل وصراعات الخارج، يأخذ العنف ديناميته الخاصة . فلا النظام يستطيع التكيف والاستجابة لحل سياسي فعلي، ولا المعارضة تستطيع التراجع والانهزام أمام سلطة لا تقدم إلا خيار القمع والغلبة . وإذا كان الخارج الغربي لا يستعجل الإجراءات التي تحمي المعارضة أو تتوقعها وتتمناها، فهو يستثمر بسرور بالغ استنزاف سوريا دولة وشعباً وجيشاً ونظاماً ومعارضة . وكلما اتسعت المأساة السورية، استطاع هذا الخارج أن يسترهن قواها جميعاً بما في ذلك المعارضة الموعودة بإدارة سوريا، ويفرض شروطه على موقعها ودورها وحتى شكل كيانها . بل إن الأزمة السورية تعتصر كل الأرصدة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في سوريا ولدى حلفائها، وتطاول محيطها بما يجعل هذه الدائرة الإقليمية أكثر نضجاً وطواعية لأي حل سياسي يفرضه الخارج لسوريا ولبنان وفلسطين وربما إيران . فلن تنتهي أزمة سوريا إلا وتكون صورة المشرق العربي قد ارتسمت مجوّفة من عناصر قوتها .
ليس التقسيم في هذه المعادلة بالضرورة حدوداً جغرافية، بل هو في الأساس تقسيم سياسي ونفسي، وانعزال اجتماعي وانكماش غير مسبوق لجماعات وجدت نفسها أمام مصائر شبه مؤكدة في عجزها عن إقامة اجتماع سياسي حر ومنفتح ومسالم في جو من الانسجام والتعاون . لم يفلح لبنان ولا العراق في صياغة اجتماع سياسي وطني مدني وموحد، ولن يكون سهلاً في سوريا، لا بمركزية العنف السلطوي ولا بآليات الديمقراطية، بعد كل هذا الانقسام، أن تقوم دولة قوية مستقرة في المدى المنظور . كما لن تكون فلسطين ومعها الأردن في حال من المناعة لتلقي ضغوط “إسرائيل” وخياراتها وحلولها التصفوية لقضية شعب فلسطين . كل ذلك على فرض أن ليس في الأفق حرب إقليمية أو شكل من أشكالها، وهذا ليس مستبعداً من التداعيات . قد نحتاج إلى معجزة لكي نعيد وصل ما انقطع بين السوريين وبينهم وبين الفلسطينيين واللبنانيين وبين العرب وجيرانهم . هذه أمور يجب أن تقال حين تكون مصائر هذه الشعوب في دائرة الخطر، وحين لا تتوافر إرادة عربية مطمئنة، وحين “يلعب” زعماء وقادة وجماعات وأحزاب وطوائف فضلاً عن الدول بهذه المصائر . لا ينبع هذا القلق بل الخوف من حدّة الصراع، بل من غياب المشروع السياسي لدى القوى الفاعلة، ما يفتح آفاق صياغة مجتمعات موحدة في هذه المنطقة . ففي لبنان وهو الهمّ الأول والأكثر عرضة واستعداداً لجذب الأزمات والمشكلات، هناك “تناطح سياسي” لا يحسب حساباً لنزعات الانفصال المتنامية في أوساط جمهور كل جماعة طائفية . بل إن قادة هذه الجماعات يتعاملون مع الأزمة السورية بوصفها مسألة لبنانية تترتب على نتائجها معطيات في مصلحة أرجحية هذه الجماعة أو تلك . فلا ينتبه البعض إلى أن شرعيته في السلطة، السلطة الرسمية أو الواقعية، هي موضع توجّس من الآخر . أو أن تفكيره في صدد إدارة لبنان أو صياغة مستقبله، هو محل عدم قبول من الطرف الآخر . ولا يفكر أحد الآن في حوار وطني حقيقي في كيفية بناء الدولة الجامعة وأسس ومرتكزات هذه الدولة والمؤسسات التي تحتوي نزاعات الشارع وصراعات الطوائف مرّة واحدة ومن دون تكرار النزاعات والحروب .
هناك تذمرات وهمهمات وحراك معظمه خارج العلانية يدفع في اتجاه قلب الأوضاع أو تغييرها أو فتح الملفات على انقسام عميق . نحن نؤمن بالشعوب وبحركة الشعوب، لكننا نعرف على الأقل مستوى نضجها المدني، ونعرف حجم الفئويات المتوترة اليوم بهويات غريزية تبحث عن أمنها كجماعات قبل أن تبحث عن وسائل تقدمها الاجتماعي . بل إن التوترات والصراعات الإقليمية كانت دائماً معطلاً للتفكير الشعبي في جو الحاجات الإنسانية .
لقد خبرنا في لبنان الإحباطات الكبرى من الرغبة وعدم الاستعداد في آن، لتجاوز النظام الطائفي . كما خبرنا انكماش المجتمع المدني وتفتّته أمام التوتر الطائفي . وخبرنا أكثر دور الخارج في تغذية القوى السياسية المنظمة وسيطرتها على الحياة الوطنية وتحكّمها بمسار الأمور حتى في معزل عن اتجاهات واسعة من الجمهور . فلا تكفي الآن الرغبات الصافية والصادقة، ولا يكفي عالم الأفكار الجميلة على أهميتها لكي تنتج ظروفاً وبيئة لصناعة واقع أفضل . هناك صرخة استدراك مهمّ إطلاقُها من أجل وقف المسار التكفيكي الذي يوسع الشقاق بين الناس .
لقد صارت حدود سوريا وأطرافها مناطق رخوة تستورد وتصدّر التأثيرات، وبدأ المجتمع الدولي يقترب من التوافق على تقديم مساعدات إنسانية للمنكوبين، وصارت المعابر ضرورة لا بدّ منها لقوافل الدعم، وصارت التفاعلات السياسية مع لبنان أكثر حرارة والخصومات السياسية أكثر حدة . ويظهر بوضوح أن قوات الأمن السورية تدخل المناطق وتخرج منها مراراً وتكراراً، وأن منطق “التطهير والتحرير” للمعارضة المسلحة هو منطق لا أفق له أمام أشكال من المقاومة الشعبية والهجمات التي تتسع مع نمو تشكيلات “الجيش الحر” . قد لا يكون ممكناً الآن خلق مناطق عسكرية شبه نظامية محصنة بالأحياء والمدن بعد تجربة “باب عمرو” أو سواه، وقد صار أرضاً محروقة، لكن شيئاً لا يوحي بإمكان القضاء على المعارضة المسلحة وهي تتغذّى من بيئة شعبية طاولها هذا الحجم من القمع . فعلاً لم تنشقَّ سوريا حتى الآن على استقطاب طائفي حاد، لكن مسار الأزمة لا يضمن أي نتيجة . هكذا يصير الحل الأمني الوجه الآخر من الفوضى، فهل نتخيّل تداعيات العنف والفوضى؟
الخليج