تداعيات مدرسة الاستبداد
علي كنعان
لم يعد السكوت ممكنا على ما يجري في المدن والبلدات السورية إلا إذا كنا مشاركين في الجريمة الدموية المتصاعدة. من يتابع المسرح السياسي هناك، يوما بيوم، فلا بد من أن تخنقه المرارة قبل أن تنتهي السهرة. ما كنت أتصور أن نظاما سياسيا، بعد الدلائل التي تؤكد سقوط عقيد ليبيا ورقيب اليمن، يمكن أن يصل به الغرور والتعامي والاستهتار هذا الحد المتمادي في احتقار الشعب وإلغاء الحوار من حياتنا، واغتيال أي فرصة إنسانية للاحتفاء بالحرية وصون كرامة الناس. ولنبدأ بمتابعة لقطات من فصول المسرحية، بدءا من مشهد المسيرات الكوميدي الفاجع:
* في كل دائرة رسمية أو مؤسسة، وفي كل مدرسة ونقابة مسؤول حزبي أو أمني تصله الأوامر قبل يومين أو ثلاثة، لتأخذ الجهة الواقعة تحت وصايته وإشرافه الاستعداد الكافي للمشاركة بالمسيرة المباركة، مزودة بالأعلام والصور واللافتات ونصوص الهتافات وزمان الانطلاق ومكانه. العمال والموظفون مهددون بلقمة عيشهم، إن تقاعسوا عن واجبهم النضالي المطلوب. والطلبة كذلك مرغمون على المشاركة في الترغيب والترهيب، ولا يبقى أحد خارج الحساب. والبرنامج يضم حتى السياج الأمني الذي يحيط بأمواج السائرين من الجانبين، ليرصد النظرات والأنفاس ونبرات الهتاف.. وملامح ‘المدسوسين’. والوجه الآخر المعاكس لهذه المسيرات المفروضة يؤكد أن نصف قرن من الظلم والاستبداد وكمّ الأفواه والزج بآلاف الأحرار في السجون.. آن له أن ينتهي ويزول إلى غير رجعة.
* مجلس الشعب مشهد آخر في الفرجة، لكنه يظل أقرب إلى السيرك منه إلى أي نشاط فني آخر. فاجأني هذا المجلس بأن أعضاءه ما زالوا أحياء يتحركون تحت قبة البرلمان، وكنت أتصور أن العصر تخطاهم وطرحهم في براميل النفايات خارج أسوار المتحف الوطني. هذا المبنى التاريخي العريق ما زال يحتفظ بذكرى مجيدة يوم تلقى حراسه الشرفاء رصاص الجيش الفرنسي في عهد الانتداب. وفي هذا المبنى ذاته نرى اليوم مخلوقات خرافية قال عنها الشاعر التونسي الصديق المنصف المزغني: خروف دخل البرلمان/ صاح: ما..ع…/ أجاب الصدى: إجـ.. ما..ع!
ولن أنســــى هنا أن أنـــــوه بعبقرية الرقيب الأمني الذي أخرج مشهد الجـــــوقة، سواء من حيث اختــــيار الشخـــوص وتنــــوع أزيائهم وأعـــمارهم ونبرات أصواتهم أو من حيث تحديد مقاعــــدهم وأوقات مداخلاتهم، خاصة أنه لم يغفل دور المرأة البرلمانية في إخراجه.
* من جانب آخر، يبدو أن مشهد التضحيات والشهداء ودمائهم الزكية المهدورة في الشوارع كان أقل من النسبة المطلوبة، لذلك لم يكن جديرا بوقفة صمت أو تحية عزاء ولا حتى بقراءة الفاتحة. وحين سألت السيد رئيس المجلس عن هذه النقطة، صاح في وجهـــي: الفاتحة؟ أتريد من مجلسنا الموقر أن يردد كلام القاعدة والأصوليين المتآمرين؟.. يا عيب الشوم!
* مشهد القيادة القطرية.. وقد هبت رياح التغيير لتنفض الغبار عن أعضائها، فتراهم ماضين مستغرقين في دراسة برنامج الإصلاح منذ سنين، لكنهم لم يجدوا حتى الآن من يخرجهم إلى الهواء الطلق ليلتقطوا الأنفاس ويسعدونا برؤية إنجازاتهم التاريخية المنتظرة.
* أما المشهد الإعلامي الرسمي، فهو يؤكد حالة من التعامي والصمم لا مثيل لها، والتناقض مذهل بين ما تظهره الصورة عبر الفضائيات وما تعلنه أبواق السلطة من طروحات عشواء مريبة حول الاستهداف الطائفي واتهام الأصوليين بما يجري في البلد. وأود هنا أن أقول: يكفي هؤلاء الأصوليين شرفا وإخلاصا وطنيا أنهم ليسوا لصوصا ولا قتلة. إنهم مواطنون سوريون، وإن كانت القيادة البعثية لا تعرف معنى المواطنة ولا تعترف حتى للغالبية من جماهير حزبها بأنهم ‘ مواطنون’ أو يستحقون صفة ‘مواطنين’! والأدهى أن الأزلام المستفيدين من غلال مزرعة النظام يؤكدون أن لا وجود للمعارضة في سورية.. ماذا نسمي ألوف المساجين السياسيين، إذن؟ وهل ننسى ألوف المشردين في المنافي خارج البلاد؟ قليلا من حس الخجل ويــقظة الضمير، يا سادة.. إن كان فيكم بقية من حس أو أثر من ضمير.
* إن من يتابع إعلام المعارضة بمختلف أطيافها.. لا بد أن يرى طريق الحل الصحيح وسلامة مستقبل الوطن. يكفي أن نتصفح مواقع رصينة مثل: الرأي، الحوار المتمدن، كلنا شركاء، المركز الإعلامي لجماعة الإخوان المسلمين، فضلا عن مواقع أخرى، حتى ندرك مدى الهوة الفاصلة بين النظام ومأزقه الدموي.. والمعارضة الوطنية المؤمنة بالنهج السلمي السلس والآمن للمشاركة في الحل. لو كان قادة البعث يقرؤون بعض ما يكتب في هذه المواقع لأدركوا أين وصل العالم.. وفي أي مستنقع هم لا يزالون غارقين.
* طوال الأسابيع الماضية، وأنا أحلم بموقف تاريخي تتخذه قيادة البعث: أن تعترف أنها عاجزة وحدها عن الحل، ومن ثم تدعو إلى ملتقى وطني واسع من الحكماء حول مائدة مستديرة: فيه ممثلون عن البعث وأحزاب جبهته، وفيه ممثلون عن مجموعة الأحـــزاب الوطنية المعارضة: من شيوعيين وبعثيين وناصريين وجمـــاعة الإخوان والأمانة العامة لإعلان دمشق وعدد من ممثــلي لجان المجتمع المدني وربيع دمشق والمستقلين، ليتدارسوا كيفية إخراج البلد من المحنة الدامية. وإذا كان لا بد من مراقبين غير سوريين، أتمنى أن يكون من بين الضيوف، على سبيل المثال: وزير الخارجية التركي، عزمي بشارة، سليم الحــــص، محــمد سليم العوا. لكن الأحلام لا تقوى على إزاحة الغشاوة عن العيون العشواء.
كلمة أخــــيرة: لم يعد السكوت ممكنا على ما يجري في بلادنا، بل صار السكوت جريمــــة. أصــوات الجماهير المتظاهرة في ساحات المدن السورية وساحاتها تنادي بالحرية والكرامة وإزالة كل قانون أو مؤسسة تتعارض مع هذا النداء. إن مدرسة القذافي في الاستبداد وتصفية المطالبين بالحرية والكرامة والمواساة أمام القانون، هذه المدرسة الإجرامية وأتباعها هم الذين يمهدون الطريق للتدخل الأجنبي.. ولكن لا بد للظلم، بكل ألوانه وأقنعته وأدواته، من أن يزول وينتهي تحت أقدام الجماهير المنادية بأبسط وأغلى حقوقها: الحرية والكرامة.
‘ شاعر وكاتب سوري
القدس العربي