تديين الإصلاح في سورية!
حسّان القالش *
يذهب كثرٌ من المعلّقين إلى أن الأوضاع في سورية لن تعود إلى ما كانت عليه قبل 15 آذار الماضي، تاريخ بدء الحركات الاحتجاجيّة. وهذا الرأي، ذو الروح المتفائلة بالتغيير، قد يكون صحيحاً، لكن في اتجاه عكسيّ وارتداديّ. ذاك أن تلك التحركات، على رغم تعبيرها عن حال التأزم السياسي والاقتصادي الذي تعيشه غالبيّة السوريين، لم ترق بعدُ إلى المستوى الذي يمكن وصفها فيه بـ «الثورة». فقد غابت عنها الأدبيّات الثوريّة بما تعنيه من تصوّرات واضحة لشكل الوطن والمجتمع الجديدَين اللذين تطمح إليهما الجماهير. ولئن بدت مكشوفة أهليّاً وأمنيّاً، فإنها خلت أيضاً من خلايا عمل مثقّفة ومفكّرة فاعلة ومؤثرة، على نطاق تجمّعي موحِّد، فيما ظهرت أنانيّة فرديّة واستنكاف عمليّ عند بعض المثقفين.
والراهن أن النظام السياسي قد استثمر جيداً هذه الحالة الثقافية والسياسية، التي رعى تخلّفها وانحدار أدواتها وضيق أفقها، عبر حقبه المديدة. فبعد استعراض عنفوانه الأمنيّ واستنفار خطاب البروباغندا في مؤسساته الإعلاميّة، اتجه إلى تفكيك العناصر المشكّلة للمزاج السوري العام المحبَط، عبر انفتاح مدروس وضمن النطاق الضيّق، على بعض رموز الاحتقان الاجتماعي، كالأكراد السوريين، وطبقة المشايخ – القادة، واتصالات ذات مستوى متدنٍّ وغير موثوق بجديّته مع بعض الشخصيات الثقافية. ما يجعل الغالبية الصامتة، التي باتت في موقع الأقليّة المنسيّة، والحالمة بإقامة مواطنة على الأساس المدني والحقوقي، تضيع بين السيقان الطويلة التي تقترب من أن تدوسها.
وقد أتى الكلام الأخير للشيخ البوطي، في «درسه الأسبوعي»، ليقدم دليلاً على هذا الانهزام المدني العام. فالرجل ظهر في كلامه وكأنه زعيم أو قائد شعبي، يتحاور مع رأس السلطة، وينتزع منها موافقات لمصلحة «مجموعة من رجال الدين» التي تقدمت باقتراحات، منها إعادة المنقّبات إلى سلك التدريس، وإقفال كازينو دمشق الواقع في طرفها البعيد، وإقامة معهد عال (يوازي كليّة جامعية) للعلوم الشرعية، وإنشاء محطة فضائية دينيّة، كهديّة لهؤلاء المشايخ.
وهذا السيناريو الذي خرج منه كلام البوطي إلى العَلن، وما رافقه من تضخيم ودعاية واحتفاء من تلفزيون الدولة الرسمي ومؤسساتها الإعلامية، يشكل هزّة انقلابيّة وارتداديّة لدولة طالما ادّعت العلمانية وفاخرت بتعدّدية مجتمعها. والحال أن تديين الإصلاح هذا، لا يخدم بلداً كسورية، يمتلك تاريخاً وجغرافيا لا يحتملان الاختصار والتبسيط والارتجال، حتى في أصغر تفاصيلها وأكثرها هامشيّة.
إنّ رؤية أكثر أملاً وتفاؤلاً، تستدعي القول، بحذر، بأن الفرصة ما زالت متاحة لبناء الجمهوريّة الثالثة في سورية، بعد جمهوريّتي الاستقلال والبعث. أما المطلوب؟ فالجميع يعرف ما هو. قد يكون ربيعاً جديداً… ربيع دمشق الثاني.
* كاتب وصحافي سوري
الحياة