صفحات الثقافةعزيز تبسي

تراب الغرباء/ عزيز تبسي *

وكأن الرجال يأتون من آخر الأرض ليموتوا في أرباضها أو يُقتلوا في محابسها، يحملهم الناجون من أهلها على راحاتهم ويطوفون بهم في مرابعها وبساتينها وعلى ضفاف نهرها، يزينون وداعهم الختامي بجدائل من آس إنطاكية، ويرشقون برق عبورهم بخلاصات عطرية من ماء البنفسج الجليل.

لم تزدْهم الأديان الإبراهيمية التي توطنت عقائدها فيهم، وتعايشت في وجدانهم، إلا رسوخاً في قناعاتهم العميقة التي تُوجب احترام الموتى. احترموا حتى قبور الغزاة الآتين من آخر الأرض لخنق صوت الحرية في حناجرهم وتقسيم بلادهم، فترى في شمال مدينتهم أرض المقبرة العسكرية الفرنسية ببوابتها الحديدية العالية وسورها الأنيق وأشجارها الباسقة وقبورها المصفوفة بهندسة رائقة، كذلك قبر الجنرال الإنكليزي في ركن آخر من مخارجها المتاخم لأحيائها الجديدة. ومنحوا الموتى من الغرباء القادمين إليها للعمل أو التجارة أو الزيارة، أرضاً في مكان من خاصرتها، تحنو على أبدانهم، يودِعوهم بها كأمانة، لحين قدوم من يسأل عنهم، أو يطلب رفاتهم.

لم يكن الحث الدؤوب على إكرام الميت بإسراع دفنه يعني إسراعاً بنسيانه، فكانوا يرفعون ضريحه فوق التراب بأحجار صقيلة، ويسورونه بغراس من الأشجار العالية، ليستكملوا في ظلالها الكلام الطويل الذي بتره السيّافون، فيصغون إلى ما خالوه صعود أنفاس التنهدات من صدور الشباب الذي دفنوا قبل الأوان، ويؤولونها كوعود بآمال لا ريب في تحققها. ولطالما استعادوا من رحلاتهم في البلاد، ذكرى أحد التماثيل المتبقية في أوابد مدينة تدمر، الذي جسد مجموعة من الموتى، يتناولون الطعام في ثياب العيد، كتعبير عن حاجة قديمة لطمأنة الأحياء ببهجة الحياة القادرة على الاستمرار حتى تحت ظلمة التراب الثقيل، وكأنه عبور متجدد لنداء يخرج من عمق التاريخ كهزيم الرعد: – لا تخافوا الموت!!

ولن يخافوا الموت، لكن باتوا يتوجسون من طرقه الشنيعة، كأن يموت المرء مسلوخ الجلد أو محروقاً بالنفط أو ممزقاً بالسكاكين، أو مرمياً مقيد اليدين في النهر الشحيح… هم انتظروه كنهاية لا بد منها، وربما همسوا له أن يأتي هانئاً، كأن ينام المرء ولا يستيقظ، أو يموت وهو يقهقه ضاحكاً، أو وهو يصغي إلى الموسيقى… ترقبوه كوداع جسور لحياة أصابها الملل والرتابة.

لم يعد الواجب الراهن يدور حول حثّ العامة للتدرب على تقنية احتمال الموت، لكنه يتعلق بكيفيات النجاة. لم يعد الأمر انتظارا للموت، إنه الاستعداد للموت قتلاً. فلا أحد يريد الموت ولا أحد يذهب إليه بقدميه. مضوا إلى الحياة بثغور ضاحكة وبأكف مرفوعة، وبتهاليل لا تنتهي من الشدو العذب، فركت أطراف قماشة الليل كحشرات سامة، لكنهم وقعوا من فورهم في كمائن القتل.

في الليالي حين يصل خبر موتهم، يهرع أصدقاؤهم إلى الشوارع للبحث عن جثثهم المرمية على قارعة الطرقات، أو في أعماق الخنادق، أو فوق المزابل، حيث اعتاد القتلة رمي المقتولين، لتكريس احتقار ضحاياهم، وتتكفل الكلاب والضواري الشاردة إتمام تمزيقهم ونهشهم لتبديد ملامحهم.

قبلها يقعون في سجالات عقائدية عقيمة لا تنتهي إلا بهدر الدم. هؤلاء الراعفون بقلق الأسئلة بلا سند، يأتي اهلهم مع الفجر من قراهم البعيدة ليقرعوا بأصابعهم المشققة أبواب القلعة، ويسألوا بخوف عن أولادهم المختفين منذ زمن… أو علهم قد همسوا قبل الوصول للعابرين في الأزقة الملتوية: أرأيتم شاباً يرتدي جلباباً أسود يحمل معه كتاباً، وكيس ألبسة… وسيجيبونهم، وهم يشيرون للسابلة:

– إنظروا كل هؤلاء يرتدون جلباباً أسود ويحملون كتاباً و…

بعدها سيعدلون الوصف، ويعاودون سؤال العابرين: أرأيتم شاباً وسيماً و…

– كل هؤلاء العابرين وسيمون وجميلون…

لا نعلم كيف ودع شهاب الدين السهروردي والنسيمي أهلهما قبل أن يصلا المدينة، ولا نستطيع التخمين إن كانا وعداهما بالعودة، بعد إتمام رحلتهما ورسالتهما في هذه البلاد التي تبعد عن مسقطي رأسيهما آلاف الأميال، ولا نعلم كذلك إن كان باسل أصلان وحازم بطيخ ومصعب برد (طلاب طب من جامعة حلب كانوا يسعفون جرحى التظاهرات السلمية، وقد اعتقلوا في شهر حزيران/يونيه 2012 ثم وجدت جثثهم محروقة) قد ودعوا أهلهم، قبل سوقهم إلى المحرقة، والأهل الجالسون على كراسي قش واطئة، مخبئين وجوههم براحاتهم ، يتساءلون في دواخلهم العميقة، إن حُرق أولادهم أحياء، أم بعد قتلهم؟ وإن كانوا قد نادوا عليهم باستغاثة ولم يسمعوهم؟ أيتوجب على كل من قرر الخروج من بيته وداع أهله، وهم من اعتاد العودة بعد ساعات، محملاً بكيس من البرتقال وربطة خبز؟ وكأن الوداع بات من مستلزمات الفراق المؤقت أو الدائم.

رغم قناعاتهم العميقة، وهي ضمادات العزاء لجروح متجددة، ان الحيوات ليست سوى أمانات عند الله، والله يأخذ أمانته حين يشاء، لكنه ليس الله من يأخذ أمانته في هذا القتل الذي لا ينتهي، وليس هو من يأمر به، فالله قد توقف عن الكلام منذ زمان طويل، وهؤلاء الذين يستعيدون كلامه بانتقائية، والآخرون الذين لا تعنيهم كلماته، قد استعدوا للقتل باستحضار كلامه أو بغيابه. يقفون باستقامة نادرة، يتلون الكلام كممثلين مسرحيين، منفصلين عن جزع النصوص وجسارتها، يقرأونها برتابة وظيفية، كأنهم يستعجلون الوصول إلى خواتمها، لتظهر الأسلحة الحربية من جنباتهم… إيذانا ببدء المذبحة.

تعفر أمهاتهم صناديق الألبسة كتراب، يستخرجن من أعماقها ما يعوض غيابهم، صور باللباس المدرسي، أو ببذات مكوية، تشير لمناسبات آفلة كعيد أو فرح… يظهر الشبان من خلالها وكأنهم حريصون على إظهار أناقتها أكثر من إظهار وجوههم التي تمزقها الابتسامات المشروطة بهذا الجلوس الآني على كرسي زلق أمام الفوتوغرافي العجوز. لن يستدل على جثثهم بعد بلاغ شفهي مقتضب بموتهم، لتعفر مخالب الانتظار ما تبقى من حياة الأهل، بعد غيابهم في أثلام التراب الغريب.

 * كاتب من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى