صفحات الرأي

تراجع الصحافة النقدية في عصر هيمنة الأخبار الفورية وضعف الاستقلال المالي/ أومبرتو إيكو

 

 

أطالع صحيفتين كل صباح، وألقي، يومياً، نظرة على شطر راجح من الصحافة. وشرب القهوة ومباشرة النهار متعذران من غير الانغماس في الصحف والانصراف الى عالمها. وقال هيغل ان قراءة الصحف هي «صلاة الإنسان الحديث»، وأنا ملتزم هذه الفكرة ووفي لها. وأنا قارئ ومساهم في الصحف أكتب في صحيفة يومية ودورية اسبوعية. وغالباً ما أقرأ عناوين المقالات. فالصحافة تميل الى تكرار الأخبار البائتة منذ المساء.

وهي تلهث وراء أخبار سبق أن اذاعتها محطات الراديو والتلفزيون التي تبث بثاًَ متواصلاً، ولا تضيف الى هذه الأخبار شيئاً. وهذه ازمة ضخمة تهز عالم الصحافة منذ أبصر التلفزيون النور الى اليوم. ومذذاك، سعت الصحف اليومية الى التحول الى مجلات اسبوعية. فانتقلت الأزمة الى هذه المجلات. والمعضلة ليست يسيرة ومدارها على جواب سؤال: ما السبيل الى ملء 40 الى 50 صفحة حين تنتشر في كل مكان منذ مساء اليوم السابق اخبار المواجهات بين «بلاك بلوك» والشرطة في افتتاح المعرض العالمي في ميلانو أو سيطرة «الدولة الإسلامية» على تدمر؟ وفي سفري الى أوقيانوسيا قبل أعوام، تناولت بالدراسة صحيفة «فيجي جورنل»، وهي منشورة متواضعة تصدرة في الجزيرة ولا تخصص لأخبار العالم غير صفحة يتيمة، وتملأ الصفحات الأخرى الإعلانات والشؤون المحلية. وهذه الصفحة أبلغتني صورة أمينة عما يجري في العالم. وفي الإمكان قصر الأخبار الرئيسية في الصحيفة على عمود واحد، على نحو ما تفعل «نيويورك تايمز». لذا، تبرز حاجة الصحافة التي يقتضي انجاز عملها وقتاً طويلاً ودقة وبراعة، الى افساح المجال امام الأفكار.

وفي سعيها الى جذب القراء، حري بالصحافة انجاز عدد اكبر من التحقيقات، وتسليط الضوء على التظاهرات المعادية للعولمة في ميلانو وتاريخ الحركات الأناركية، على سبيل المثل، وانتقالها الى اشكال جديدة من النشاط السياسي. وفي الإمكان تسليط الضوء على ما يترتب على السيطرة على تدمر. ولكن شطراً راجحاً من الصحف تشغله الأخبار المباشرة. وأعلن المدير السابق لصحيفة «كوريري ديلا سيرا» الإيطالية ان بعض شوائب الصحافة التي تناولتها في روايتي الأخيرة، «نوميرو زيرو» (الرقم صفر)، تشوب «الصحافة النوعية».

والنقد الأدبي كاد ان يلفظ انفاسه الأخيرة في الصحف التي تنشغل بسباق حيازة الخبر الحصري وترجح كفة المقابلة السريعة التي تنشر يوم صدور الكتاب، على كفة مطالعة الرواية وسرد حوادثها وتقويم اسلوبها. ومثل هذه المطالعة تقتضي اسبوعاً، والصحف التي تتريث في تناول الكتاب الجديد تغامر بخسارة السبق. ولكن من أين لنا تقويم العمل الأدبي تقويماً تحليلياً إذا أعطي الكلام لصاحبه في مقابلة لن يمتنع فيها عن الإشادة بعمله او الترويج له. وتمس الحاجة الى احياء الصحافة النقدية وتوسيع هامش عملها، وعلى الشبكة الإلكترونية على وجه التحديد. وحري بالصحيفة ان تخصص صفحة او اثنتين لتوجيه النقد الى مواقع إلكترونية، أي مقاربتها مقاربة تحليلية ومناقشة محتواها وتحليله؛ وأن تسلط الضوء على المدونات البارزة والمواقع الرائدة. ولا يجوز ان تتخلى الصحافة عن بلورة الذائقة العامة ورسم وجهها. وفي وسع الصحيفة ان تكون مرآة تقويم نقدي وديموقراطي. وفي شبابي، كان كبار النقاد يقوّمون بعض القصائد المرسلة الى بريد القراء. ومثل هذا التقويم كان حاسماً في إعدادي الأدبي.

افتقار الصحافة الى الاستقلال

وإمساك مجموعات اقتصادية كبيرة بمقاليد الصحافة هي مشكلة لا يستهان بها. ففي إيطاليا، تعتمد الصحف على عدد من الشركات الصناعية أو المصارف النافذة. واليوم، الصحافة في فرنسا تجبه مشكلة مماثلة. لذا، يجب ان تقود الصحيفة ادارة قوية لمقاومة الضغوط وجبهها. والصحافة امام خيارين: إما تثقيف القارئ وإما اللحاق بذائقته التي تنقل توجهاتها دراسات الرأي العام. وعلى سبيل المثل، قدم الروائي أوجين سو (1804-1857) للقراء ما ينتظرونه، في وقت ساهم بالزاك في رسم وجه ذائقتهم واقترح عليهم قصصاً وأوضاعاً وأسلوباً عصي على خيالهم. وثمة كتب لسان حالها «حالي من حالك» وأخرى لسان حالها «أنا الآخر». وتفادي توحيد الأسلوب، أي النزول على ما تطلبه الصناعة الإعلامية الجديدة، مُلّح.

وفي روايتي الأخيرة، تسليت بوضع لائحة بالعبارات المنمطة والتشبيهات الذائعة الاستعمال. وأقر صحافيون في صحف «جيدة» أن هذه الكليشيهات تهيمن على صحفهم. واللجوء الى عبارات نمطية هو ضرب من الكسل. ويقال ان الأدب هو تمرين اللغة. وحري بالصحافة ان تلجأ الى هذا التمرين. فالكليشيهات والعبارات المنمطة تصيب اللغة بالشلل.

ما بين الواقع والمؤامرة

وأنتسب الى جمعية تحارب التستر على جوانب من المعلومات والانسياق وراء فكر المؤامرات. ولكن الأعمال المزيفة تسحرني. ولذا، أجمع الكتب الحافلة بالزيف والكذب. وفي مكتبتي، لا املك كتب جاليليه (جاليليو) بل كتب بطليموس الذي لم يكن مصيباً في ما ساقه. وكتب الخيميائيين أثيرة على قلبي. وأبرز سمات الطاقة على وسم العلامات و»إنتاجها» ليس التعبير عن الحقيقة على قدر ما هو القدرة على الكذب. فنتوسل اللغة للتعبير عما هو موجود (على سبيل المثل يسعني القول ان ثمة طاولة أمامي)، ولكننا نتوسل بها كذلك الى الكلام على ما ليس، أي لا وجود له، أو ما ليس ماثلاً امام الأعين (الكلام على نابوليون او الأجداد). وفي وسعي رواية أشياء عن نابوليون وقد تثبت تحريات مستقبلية أن لا صلة لما قلته بواقع الأمور. وثمة نماذج كثيرة من أعمال مزيفة خلفت أثراً في التاريخ وساهمت في صنعه، ومنها رسالة القس يوحنا، وبروتوكولات حكماء صهيون، و»هبة أو منحة قسطنطين»- وهذه وثيقة ظهرت في العصور الوسطى تزعم أن الإمبراطور قسطنطين سلم مقاليد روما الى البابا. ومنذ عصر النهضة، اثبت باحثون ان هذه الوثيقة مزيفة. ولكن اثبات زيفها لم ترتج منه فائدة ولم يغير في الأمر شيئاً. والدليل على ذلك ان سلطة الكنيسة الكاثوليكية لا تزال قائمة. ورسالة يوحنا المنشورة في القرن الثاني عشر تصف مملكة باهرة تقع ما وراء العالم الإسلامي وعلى رأسها ملك مسيحي. وهذه الرواية الخيالية كانت وراء التوسع الأوروبي الى ما وراء العالم الإسلامي. وبحث ماركو بولو عن هذه المملكة في طريقه الى الصين. وكان مثل هذا البحث هو حادي التوسع البرتغالي في افريقيا. وفي اثيوبيا، حسِب البرتغاليون انهم وجدوا ضالتهم، الملك المسيحي ومملكته. ولكن هذا الملك الغامض لم يكن سوى شخصية من بنات خيال عدد من الرهبان. وعلى رغم ان بروتوكولولات حكماء صهيون مفبركة، خلفت اثراً بالغاً في التاريخ.

واليوم، زاد عدد منابر الاتصال، وتعاظم انتشار المزيف انتشاراً فورياً. وفي الماضي، كان المزيف يضطر الى البحث عن ناشر متخصص. واليوم، في إمكان كل هاذٍ معاد للإسلام، أو اي غبي معاد للسامية ان ينشر نظرية المؤامرة الخاصة به على الإنترنت. وكتب الفيلسوف كارل بوبر ان عارض المؤامرة ملازم لكل حضارة: فهوميروس روى ان حرب طروادة بدأت حين تآمرت الآلهة على المدينة (طروادة). ونظرية المؤامرة هي الجسر الى رفع المسؤولية عن طرف ما. وهي تعفينا من المسؤولية. وهي صنو بارانويا (ارتياب) اجتماعي. ودرج جورج سيميل على القول ان قوة السر الكبير هي كونه سراً خاوياً فلا يسع احداً اماطة اللثام عنه وكشفه. وفي الإمكان التلاعب بالآخرين من طريق التوسل بمثل هذه الأسرار الخاوية الوفاض. والصحافة النقدية تساهم في إطاحة هيمنة المزيف وتقويضها.

* فيلسوف وروائي، عن «لوموند» الفرنسية، 30/5/2015، إعداد منال نحاس

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى