تربيع الدّائرة: شذرات الكتاب العرب عن قصيدة النّثر/ أشرف القرقني
رغم ما تحرزه قصيدة النّثر من هيمنة على المدوّنة الشّعريّة العربيّة المعاصرة وربّما العالميّة، فإنّها تظلّ كهفا موحشا وغامضا من حيث طبيعتها وإمكاناتها الشّكليّة والرّؤيويّة. قد يعود ذلك إلى حداثتها وقلّة النّصوص المؤسّسة لها مقارنة بالأشكال الأدبيّة الأخرى، أو كما يطّرد وسمها من قبل النّقّاد في شتّى الثّقافات، كونها شكلا هجينا ومفارقة أسلوبيّة وطباقا من حيث تجمّع الشّعر والنّثر، رغم أنّ ما استجدّ في الأبحاث الأدبيّة يعلنُ عدم اغتراب الشّعر عن النّثر وإنّما الاغتراب واقع بين النّظم والنّثر.
*****
في ديسمبر 1978، صوّت عضوان ضمن لجنة جائزة البوليتزر للشّعر من أجل منح جائزة العام لكتاب مارك ستراند المعنون “The Monument”. و”كانت تلك حركة غير مسبوقة. فالكتاب يمكن وسمه بأيّ شيء ما عدا كونه كتابا يتّسق والمتواضع عليه في الشّعر (البيت الشّعريّ)، إذ تضمّن مقاطع نثريّة وجيزة حول مسألة الموت، مع جملٍ صاغها المؤلّف إزاء مقولات لشكسبير، أونامونو، توماس بروني، نيتشه، ولاس ستيفنس” 1 وآخرين.
لقد ظلّ الأدب الأميركيّ محتفظا بمسافة أمان تفصله عن قصيدة النّثر. وقد تأخّر ظهور هذه الكتابة الشّعريّة وتقبّلها في المجتمع الأميركيّ. كان على هذه القصيدة أن تنتظر ثلاث عشرة سنة أخرى لتواجه بالاعتراف والتّكريم مع نفس الجائزة، عندما تحصّل كتاب تشارلز سيميك “العالم لا ينتهي” على جائزة البوليتزر للشّعر سنة 1991.
وبدا أنّ الجمهور العريض للشّعر يريد التّعرّف إلى هذه القصيدة التي يتعقّد الحديث معرفيّا عن إشكالاتها. واجهت “البراغماتيّة” الأميركيّة هذا الفضول بمقولات مكثّفة وتشبيهات واستعارات خلقت متصوّرا مّا لدى القرّاء عن قصيدة النّثر واجترحت فضولا وأسئلة لمزيد البحث فيها.
*****
هناك تعريف ديفيد ليمان الذي يقول عنه إنّه واضح ومباشر، لكنّه لا ينجو من الشّموليّة: “قصيدة النّثر هي قصيدة مكتوبة في النّثر (أو بالنّثر) بدل البيت/ السّطر الشّعريّ. يمكنها أن تبدو على الصّفحة مثل فقرة أو قصّة قصيرة مقسّمة إلى شذرات. لكنّها تعمل عمل القصيدة. تتشكّل بواسطة الجُمل بدل الأسطر، مع الاستثناء المتاح في كسر السّطر. ويمكنها أن تستخدم كلّ استراتيجيات الشّعر وتكتيكاته. ومثلما هجر شعرُ البيت الحرّ الوزنَ والقافية، تهجر هي السّطر بوصفه وحدة بناء. إنّها تستخدم وسائل النّثر لتوجّهها إلى غايات الشّعر” 2.
في المقابل هناك نتفٌ وبرقيّات تلمح إلى خصائص وتصوّرات عن قصيدة النّثر يلقيها من حين إلى آخر شاعرٌ أو باحثٌ إلى قرّاء الشّعر حتّى تكون قادحا للتفكّر في هذا النّوع من الكتابة أكثر من كونها إجابات شافية قد لا تؤتى أبدا. يقول ليمان نفسه إنّها القصيدة التي تملك الرّغبة في تحويل مصادر الشّعر بعيدا عن ربيع جبل هيليكون الذي تقيم فيه ربّات الإلهام. ويمكننا أن نقول معه إنّها القصيدة التي تطرد الشّاعر من وادي عبقر.
أمّا تشارلز سيميك فقد حدث أن عرّفها على النّحو التّالي: “قصيدة النّثر هي نتاج توتّرين متناقضين: النّثر والشّعر. ولهذا لا يمكنها أن توجد. لكنّها كذلك (…) هذا هو المثال الوحيد لدينا على تربيع الدّائرة”.
وباستخدام استعارات المطبخ، يشبّه دجايمس ريدشاردسون موضعها المتحرّك بحبّة الطّماطم. قد تنتمي إلى الغلال في جدول تصنيف علم النّبات. لكنّها تنتمي إلى الخضار إذا ما كنتَ تعدّ سلطة غلال.
*****
نتوجّه في هذا الملفّ إلى عدد من الشّعراء والكتّاب والباحثين العرب بالسّؤال التّالي: “هل يمكن تكثيف الرّؤية التي تخصّ قصيدة النّثر لديك في عبارة موجزة أو أسطر قليلة، قد تشير إلى عين من عيون قصيدة النّثر أو تدفع إلى الاستشكال في أمرها؟”
ويمكن كتابة قصيدة نثر وجيزة جدّا عن قصيدة النّثر، كما يمكن إطلاق تشبيه أو استعارة أو شذرة وجيزة عنها تصلح لتوجيه النّظر إلى جوهرها الذي تراه بوصفه كذلك 3.
عبّاس بيضون (شاعر وروائيّ لبنانيّ)
نوع قائم بذاته
يتبادر إلى ذهني لدى سؤال كهذا المقابلة الدّائمة بين قصيدة النّثر وقصيدة الوزن أو قصيدة التّفعيلة كما هي اليوم. هذه المقابلة فيما أظنّ مغلوطة. فما بين قصيدة النّثر وقصيدة التّفعيلة، ليس هناك استبدال أو إرث، بمعنى أنّ قصيدة النّثر لا ترث قصيدة التفعيلة وأنّ قصيدة النّثر ليست بديلا عن قصيدة الوزن. أظنّ أنّ للوزن وللتّفعيلة مقوّماتهما. كما أنّ لقصيدة النّثر مقوّماتها. قصيدة النّثر فيما أحسب هي نوع قائم بذاته، وهي غرض من أغراض الأدب، مثلها في ذلك مثل قصيدة الوزن أو قصيدة الشّعر. وأظنّ أنّ “قصيدة الشّعر” وقصيدة النّثر هما غرضان مختلفان ومتفاوتان. وليست الثّانية بديلا عن الأولى وليست وارثة لها. أظنّ أنّ قصيدة النّثر التي نشأت بعد وقت طويل من قيام قصيدة الوزن، هي إلى حدّ مّا قصيدة المدينة وهي قصيدة الثّقافة الرّاهنة والمعاصرة. قصيدة النّثر، لأنّها كذلك، هي قصيدة التّهافت والانتكاس وهي أيضا قصيدة سلبيّة. بهذه الطّريقة أميّز بين القصيدتين. فقصيدة الشّعر هي احتفاء بالكون واستقبال له بينما قصيدة النّثر هي عكس ذلك تماما. قصيدة النّثر هي كالقصّة المعاصرة التي هي منذ كافكا سلبيّة واعتراضيّة وسوداء. أظنّ أنّ شاعر النّثر هو غير شاعر الوزن، ليس فقط لاختلاف الصّيغة ولاختلاف الشّكل ولكن أيضا لاختلاف الغرض واختلاف الغاية ولاختلاف الوجهة. بالنّسبة إليّ، قصيدة النّثر لا تعرّف فقط باختلافها الشّكليّ عن قصيدة الوزن. وأظنّ أنّ تعريفها على هذا النّحو غير كافٍ وغير صحيح. لقصيدة النّثر ما يميّزها عن قصيدة التّفعيلة، وهو شأن ثقافيّ وفلسفيّ وتاريخيّ. فحين أقول إنّ قصيدة النّثر هي قصيدة المدينة، أعني أنّ غناء النّثر هو غير غناء الشّعر الذي هو أقرب إلى الرّيف أو المدن الصّغرى. ثمّ إنّ قصيدة النّثر ليست فقط بكثافتها وبتقطيرها وبموسيقاها المضمرة. فكلّ هذا ليس كافيا إذ أنّني أظنّ أنّ الموسيقى هي في النّثر كما هي في الشّعر وأنّ الأسلبة هي في النّثر كما هي في الشّعر وكذلك البلاغة. لكنّي أظنّ أنّ قصيدة النّثر هي كذلك بموقفها من العالم وبتراثها الفلسفيّ وتراثها الثّقافيّ. وقصيدة النّثر كذلك هي قصيدة التّهافت والانتكاس والسّلبيّة، لأنّنا لا نستطيع أن نتصوّر قصيدة نثر إيجابيّة مثلا… لا نستطيع أن نتصوّر قصيدة نثر وطنيّة، كما نعرف نحن الشّعر الوطنيّ، بمعنى أنّ الشعر الوطنيّ هو خطابة السّياسة. لا نستطيع أن نتخيّل قصيدة نثر خطابيّة. بينما نستطيع أن نتخيّل قصيدة شعر خطابيّة. ولا نستطيع أن نتخيّل قصيدة نثر مبالغة في غنائيّتها. بينما نستطيع أن نقرأ قصيدة تفعيلة أو قصيدة وزن مبالغة في غنائيّتها. بالنّسبة إليّ، أظنّ أنّ قصيدة النّثر هي قصيدة بانوراميّة، وهي قصيدة ذات غناء خاصّ. وهذا الغناء هو نوع آخر من الغناء. لكنّه ليس غناء قصيدة شعر. أظنّ أنّ قصيدة النّثر هي على نحو أو آخر قصيدة متعدّدة ومتنوّعة كما هي المدن. ثمّ أظنّ أنّ قصيدة النّثر، كما سبق أن قلت، قصيدة سلبيّة. ولست أحاول بذلك أن أعرّف قصيدة النّثر وأن أضع لها شروطا. كلّ ما أفعله هو الرّجوع إلى تاريخيّة هذه القصيدة وإلى تراثها الفعليّ.
أمجد ناصر (شاعر وكاتب وصحافيّ أردنيّ)
قصيدة نثر عن قصيدة النثر
لا أعرف من قال إن قصيدة النثر مثل لعبة كرة المضرب. ولكن من دون شبكة. قد يكون ناقدا بنبرة شاعر. قد يكون العكس. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، وهذا يؤكد دائرية التفكير البشري، فبوسعي أن أبقى في الرياضة فيما أنا أتحدث عن الشعر: جميل أن تكون قصيدة النثر مثل لعبة كرة المضرب من دون شباك، لكنَّ الأجمل، في رأي عاشق كرة القدم لم يصبح لاعبًا قط، أن تكون لعبة كرة قدم من دون شباك على جانبي الملعب. لا شبكة. لا عارضة خشبية، ولا حارس مرمى، وبالتالي لا أهداف. قصيدة النثر لا تحتاج هدافين، ولا قلب هجوم ولا أجنحة، فهي تهجم كلها. تتدافع كلها من أطراف الملعب نحو كرة تظل تتدحرج وتتدحرج ولا تخرج من الملعب، لأن ليس هناك ملعب أصلا. لا خطوط بيض على الجوانب ولا حكام على الأطراف، ناهيك في القلب الكتلة المتكوّنة بصفارة داخلية، يرفعون بطاقة صفراء، أو حمراء.
قصيدة النثر تلعب. لديها خطتها الداخلية. ليست
4 – 3 – 3
ولا 4- 2- 4
هذه خطط مجرَّبة. ولها قوانينها الحاكمة لحركة الفريق وتوزيع الأدوار. ليس لقصيدة النثر خطَّة خارجية. خطّتها تأتي من داخلها. ليس قبل الكتابة بل أثناء الكتابة لذلك لا تنكشف للخصم. هذا ما يسمى انتفاء الغرضية، أو بحسب، كاهنة أرادت أن تدخل القبيلة المتمردة إلى المعبد: المجانية. هناك من سمَّاها: خنثى، وهذا ضعف في عضلة الخيال. ليس لقصيدة النثر عضو ذكري أو أنثوي. هي جنس آخر، خارج المانوية. لا ذكر. لا أنثى. لا أبيض. لا أسود. هي طين الأرض. فيها كل شيء، وكلّ شيء فيها يتخاصب. لكنها لا تنتج دي. أن. إيه. فهذا يعني تناسلا وتسلسلا. وهي لا تتناسل ولا تتسلسل. إنها تنتج حياتها بنفسها، ولا تترك أولادًا، ينجبون أحفادًا. لا قصيدة نثر تقاس بأخرى. كل قصيدة نثر لها دي. أن. إيه خاص بها. لديها رقم فريد لا يشبه الذي قبله ولا الذي بعده. فهي كل مرة فريدة ولا قياس عليها. لكن يمكن القول إنها تشبه، من الخارج، هذه الكتلة التي تقرأون كلماتها المترَّاصة، أما من الداخل فيمكن ضخُّ اليومي والعادي وغير العادي في شرايينها الشفافة، بلا موعظة ولا رغبة في البلاغة أو اجتذاب التصفيق، فإن حصل هذا الأخير فبيدٍ واحدة. وبما أني شبهتها بملعب كرة قدم حيث لا وجود لملعب، مصمم مسبقًا، فهي تعرف حدَّها وتتوقف عند ما يؤدي إلى غيرها. لا حكام يرفعون رايات في وجه الكرة المتدحرجة لكنَّ هذه الكرة لا تتسلَّل هنا وهناك. يعني، مثلًا، ليس عليها أن تذهب إلى مصافحة الجمهور غير المتحفّز. فلا طبول تقرع ولا مزامير تأتي من تلك الجهة المتأهبة. امحضوا قصيدة النثر حسن النية، أخرجوا من الصناديق والقوالب وانظروا ماذا تفعل باللغة والخيال. دعوها تلعب في جديِّة الطفل الذي يلهو كما قال، ذات يوم، أعمى رأى أبعد من أنفه.
باسم المرعبي (شاعر وناثر عراقيّ)
في تعريف قصيدة النّثر
من المفارقة أن قصيدة النثر بالمعنى الأوروبي، The Prose Poem وكما تقصدها مقدمة هذا الاستبيان، لم تُعرف ولم تُكتب عربيًا، بالمعنى الراسخ. فالمتحقَّق من هذه القصيدة نادر وقد جاء بشكل عرَضي، وإن لم يندرج ضمن الشكل السطْري المعهود والعضوي للقصيدة! أما المتحقّق منها بقصد فهو قليل كما تمثّل في نماذج لعدد محدود من الشعراء وهو زمنيًا، على أية حال، متأخر جدًا، قياسًا الى تاريخها الأوربي ـ الفرنسي تحديدًا لرياديّته ونموذجيّته ـ. وكل ما شاع من منجَز لدينا بِاسمها ولما يزيد على نصف قرن ما هو إلا شعر حر. في التعريف هناك ما لا يمكن الإحاطة به من تعريفات، أكاديميًا وسوى ذلك، لهذه القصيدة ـ الجدلية، الإشكالية بحق، لكن أحبّ أن أنوّه بتعريف تشارلز سيميك المقتطف أعلاه، لدقته وشعريته وهو يلخص ببراعة تناقضها. وبما أن الاستبيان يتطلّع الى معرفة التصور الخاص للمشارك، عن قصيدة النثر، هذه “القصيدة” التي من بين ما يجمعها بالشعر، بشكل مباشر وصريح، لا نهائية التعريف! أضع، هنا، محاولة تعريفي الخاص، المؤقّت لهذه القصيدة:
شعرٌ يتحيّن النثر ونثرٌ يتحيّن الشعر.
مبارك وساط (شاعر ومترجم مغربيّ)
يستعمل الغربيون مصطلح “قصيدة النثر” بمعنى القصيدة التي تكتب في كتلة نثرية واحدة ولا تتوزع إلى أشطر أو أبيات، فيما يسمّون ذات الأشطر التي لا تُخضع لإيقاعات مُقَعّدة سلفًا بما يمكن أن ترجمه: القصيدة الحرة. وفي العربية، نجمع كلا الصنفين تحت تسمية: قصيدة النثر.
ما يهمني كثيرا في القصيدة التي أتوق إلى كتابتها، إنما هو أن يكون لها نبض داخلي، إيقاع خاص جديد، وأن تضيء كلماتها بعضَها البعض، وأن تسند كلّ صورة أختها، وأن ينجم عن ذلك ما لم أكن أنا نفسي أتوقعه!
عبد الفتاح بن حمودة (إيكاروس)- شاعر ينتمي إلى حركة نص/ تونس
في وداع قصيدة النثر
كنتُ قد أشرت منذ منتصف التّسعينات إلى أن قصيدة النّثر هي النموذج الأمثل لـ”كسر الشعر بالنثر” تونسيا وعربيّا. قلت عن تلك الفاتنة في حوار عام 1999: إنها عارضة أزياء بأكثر من فستان أمام الكاميراوات.
لكن بعد ثلاثة عقود من كتابتها بأنماط مختلفة، لم أعد أبحث عن “قصيدة النثر” مطلقًا بل صرت أبحث عن” النصّ الشّعري” تحديدًا.
لا بدّ من تغيير هذه التّسمية للقطع مع ما يُسمّى “القصيدة” نهائيًّا ولابدّ من تغييرها بتسمية “النصّ الشّعري”.
شعراء قليلون كتبوا قصيدة النثر… أصوات تونسيّة وعربيّة لم تتخلّص بعد من أسْر “قصيدة الوزن”. وما يؤلمني أنّ عشرات الشعراء التونسيين والعرب كتبوها دون وعي أو مشروع.
كانت “قصيدة النثر” مجرّد ضحكةٍ لكن مع دموع كثيرةٍ مع أنني لم أقشّر بصلًا.
خالد بن صالح (شاعر جزائري)
يقول ماركيز: “الكاتب الجيد لا يُعرف بما ينشره، بقدر ما يُعرف بما يلقيه في سلّة المهملات”. تستجيب قصيدة النثر ـ في نظري ـ إلى هذا التوصيف للشاعر الجيد، ويمكن تدعيم نظرية “سلة المهملات” بمقولة أندريه بريتون: “ما من شيء أصعب هذه الأيام من أن يكون الإنسان شاعر قصيدة نثر”، بشرط أن تُقرأ الصعوبة في ماهية القصيدة، شكلا ومحتوى، لا من ناحية شيطنتها وتلبيسها تهم الأصالة والهوية. سألجأ أخيرًا إلى عبارة تشارلز سيميك “كن موجزًا وقل كلَّ شيء”، لأعترف أنني لم أكن موجزًا البتَّة وأنا أحاول تسليط بقعة ضوء صغيرة على قصيدة النثر التي أعتبرها: شعرًا جديرًا بالنثر. ثلاثة اقتباسات في فقرة واحدة من أجل القول إنّها أشبه بمنحوتة تتجسد جمالياتها بالمادة والفراغ معًا.
“ابحث عن نافذة عالية/ ثم تحدَّث إلى المارَّة، من وراء الزجاج، كإله/ قل للعجوز التي تنتظر يد أحدهم كي تعبر الشارع/ هناك دائمًا خطوة جريئة”
قصيدة النثر، بالنسبة إليّ، هي أن تكون الإله والعجوز في اللّحظة ذاتها، وربما اليد المتأخرة.
سمير سحيمي (شاعر وناقد تونسيّ)
الحبر دم نافر
والقشّة التي حركتها الرّيح انتفاضة نسر
حبّة الإسفلت طريق طويل
والمطر غبار سجين.
فادي سعد (كاتب سوري)
سأستعير الفكرة العامة للناقدة الأميركية مارغريت مورفي عن قصيدة النثر، لأنها الأكثر دقّة وتعبيرًا برأيي من كلّ ما قرأتُه عن طبيعة هذا النص، وأعيد هنا صياغة الفكرة بتصرف: قصيدة النثر هي نص شعري مكتوب نثرًا، يسعى إلى تخريب منطق النثر.
الكلمات المفتاحية هنا هي كلمة (شعري) وكلمة (منطق). فأولًا، يجب أن يكون النص شعريًا حتى لو كان مكتوبًا بالنثر. أيّ أنه يجب أن يحقّق الشعر بغض النظر عن وجود الوزن أو السطر أو الجملة، أما كيفية الوصول إلى الشعر (صورًا ومجازًا ومفارقة) فهذا موضوع طويل آخر. ثانيًا، لا يكفي وجود الشعر في النص، بل يجب أيضًا أن تنفي قصيدة النثر تهمة النثر عنها، وهذا ما قصدتُه بـتخريب (منطق) النثر. يجب أن تسعى هذه القصيدة بالذات إلى نفي هذه التهمة عنها لأنها تستخدم ثياب النثر خاصةً. والمقصود بمنطق النثر ذاك الذي يسير بخطّ مستقيم أفقي، له بداية ونهاية واتجاه؛ المنطق السبيي التسلسلي الذي له آلياته الموصلة إلى نتائج وخلاصات متوقعة. على قصيدة النثر تحطيم هذا المنطق وتجاوزه.
لا يكفي لقصيدة النثر أن تُثبت أنها شعر، بل أنها أيضًا ليست نثرًا.
محمد عيد إبراهيم (شاعر ومترجم مصريّ)
شاعر قصيدة النثر قديّس لعوب!
قد يكون الشعر اليوم هو نقيضه على الطرف الآخر من الشعر سالفًا، حيث انتفت وظيفته، إن كانت ثمة وظيفة للشعر أصلًا، فلم يعد إعلاميًا، دعائيًا، قوميًا أو عالميًا، بل راح يلمس تفاصيل التفاصيل، كمن يرى يده للمرة الأولى، يدخل في مناطق بدائية، رعوية، تأنف من الحداثة، ولا ترعوي أن تناهض حتى ما بعد الحداثة.
الشعر اليوم قد لا يُرى (وطنيًا) بالمعنى المألوف، التقليديّ، فهو لا يكتب عن قضايا كبرى، ولا يعي من السياسة إلا مردودها على جلد الإنسان، لكنه مع ذلك (غير خائن)، فهو يملك كلّ ما يبثّ الضمير في لغته، فهو يريد التغيير حتمًا، ويأبى أن تستعمره سلطة مجحفة، ولو بالرمز والصورة والمجاز والإيقاع الغريب الفوضويّ.
الشعر اليوم لا هو مدينيّ حَضَريّ، ولا هو ريفيّ متخلّف، بل إنسانيّ عميق الرؤية، حالم بالرؤيا، يندرج حتى وسط عميان، ليأخذ بيدهم هنا وهناك، إلى مواطن الجمال، كما في (فيل) الأسطورة الذي أمسكه العميان وكلّ وصف ما لمس. هكذا نرى كلّ شاعر في قصيدة النثر، التي أراها التجلّي الأعلى لرأسمالية الشعر في شجرة الخيال.
الشعر اليوم هو بطل السرد، إجمالًا، لكنّ سرود الشعر لا تشابه سرود النثر إلا في الظاهر فحسب، صحيح أن ثمة رابطًا بينهما، لكنه رابط واهٍ، هشّ، لا يدركه إلا أصلاء الشعراء، قد يستخدم سرد النثر المعرفيّ، الأسطوريّ، الجماليّ بشتّى ألوانه، لكنّ سرد الشعر دائمًا في الطرف الآخر، أو في منقلب المثلث، أو في البعد الغامض للزمن، أو في ترانيم الأولين، أو مشاهد السينما أو المسرح أو حتى الأوبرا، أو الأغاني الشعبية، أو في كلّ شيء نراه ولا نراه، نسمع به ولو حدسًا، نمتلكه ولو شفاهةً، نلحق به ولو خيالًا، نغنّيه وإن كنا في كآبةٍ مرضية لا شفاء منها، ونطرب له بين الجموع، مع أنه لا يرتضي أن ينخرط في أيّ جَمع، ولو لغايةٍ سامية، فسمّوه في تَدَنّيه، فهو الشاعر القدّيس، مع أنه لعوبٌ أو عاهرٌ أيضًا، ساخطٌ أبدًا، في صراعه مع السلطة، ينحو إلى الموت، وهو أصيلٌ في معاقرة الحياة.
قد نلمس تداخلًا في الأنواع، أو امتزاجًا في الأنماط التي ينخرط فيها كلّ من سرد الشعر وسرد النثر، لكن سرد الشعر يقف دائمًا وحده، في عزلة، وإن كان وسط الجماعة، في نشيد، وإن كان وسط الصمّ والبُكم، وحده دائمًا، في مجاز شفيف، تغلّفه رؤى مستجدّة، وإن اختلطت بأيّ شكلٍ أو نمطٍ قديم، فلا يأبه سرد الشعر من دخول أيّ منطقة، ولا ارتكاب أيّ نمط فنيّ كان، فهو يجرّب دائمًا، وأبدًا، لذلك لن تموت قصيدة النثر، في رأيي، فلا مجال لها، وليس ثمة خطّ نهائيّ قد تصل إليه، فالوصول أصلًا لا يعنيها، هي تسعى دائمًا ولا سبيل غير السعي، تحجّ من دون قصد الحجيج، أما مقصدها، فهو الوصول إلى أفق إنسانيّ أرحب، بمشاعر أوفر، وحكايات أمتع، لا ترى متعة في الحكي، بل تقلق ولا تُريح، تهجو ولا تمدح، تفسد الذات، مع أنها لا تملك غير الذات، تُبادل الوعي مع الحواسّ، حيث ترى أيهما محلّ الآخر أحيانًا، أو حتى تنفي أيهما لصالح الآخر، أو تمتح من الماضي لكن لصالح مستقبل وإن كان غائمًا، لم يبصر تلافيفه أحد، لكنها، قصيدة النثر، تنطبع بكروموسوم شخص (الرائي) المغامر، العليم، وإن تشتّت وعيها في جسوم الآخرين.
الشعر اليوم قد يتوق إلى الرومانسية، مع أنه يفزع من الرومانسية، لذا يستخدم في كثير من الأحيان مضادات الرومانسية، مع بلع القليل من ماء الوجودية، بفمٍ يستطعم ملامس وغضاريف من الحسّ الجسدانيّ البحت، هو مزيج إذن، في رأيي، من نهاية للصمت، بتقطيع الأوصال بين اللغة والواقع، بانتهاك كلّ ما كان مقدّسًا، لا أقصد هنا الدينيّ فحسب، بل كلّ ما كان يقدّسه المرء من قيم، لينشئ قيمًا مستجدّة، مستبدَلَة، قيمًا تراعي تهديم المركز، أيّ مركز، بهمجية المِعول والفأس، بنقض ولاءات الحياة، إجمالًا، بخبرة جمالية أقلّ طموحًا لامتلاك العالم، فلا عالم يرتضيه الشعر اليوم، إلا بتوريط نفسه في حياةٍ أخرى، ضدّ الموت، ضدّ السلالة، بكلام الجسد (الطبيعيّ) الذي يبتغي إدراج مِجسّات (الأنوثة) في لحم اللغة ومقادير المواقف وجماليات الرؤى، هو، إجمالًا، الشعر اليوم، يبتغي حلول العدمية، ولو بشِقّ تمرة، مكان الإنسان الأعلى. هو الحُطيئة، المبتَذَل، المُهان، المتهتّك، لا نيتشه، المثاليّ، الذي كان ضدّ المثالية، مع أنه وقع فيها، في النهاية.
الشعر اليوم يتدنّى، فلا (عبقر) لديه، كما قطع يدَي (أورفيوس) وسَمل عينيه وصلَم أذنيه، يتدنّى، لكن إلى الحدث، إلى الإيماء بالحدث، بلغة إشارية أكثر منها واقعية، مع أنها تبدو واقعية في جلدها، لكن باختراع معنىً هازل، ساخر، هجّاء، ثوريّ لكن ضدّ ثورة عبيد، يريد ثورةً تقطع دابرَ الماضي، تجدعُ أنف الحاضر، وتهزأ بالمستقبل، ثورةً ماكرة تستحلّ الجسد صوب محاقٍ روحانيّ، لكن لتحفظ الحبّ مطلقًا من الذوبان، الحبّ بآماله ومأسويته وسماواته البعيدة الشتات، فالحبّ هو ذلك التجريد الجائع للتجريد، التغيير الجامح للتغيير، بين رعوية الخيال وصمت الموت، الموت الذي لن نصل إليه إلا مُجَرّحين، مهزومين، بأيدٍ بيضاءَ من الألم، الألم هو لحم البداية، وهو نفايات النهاية، والشعر يتراوح بينهما، لا كي يصل بطيئًا إلى الزمن، بل يغفر للزمن أننا كنا، وسنظلّ، مجرد أشباحٍ تملك سرّ الإبداع، وهو الحركيّة، دائمًا، بذكاءٍ مرح، لنقلبَ التاريخ، لنصبح بشريين أكثر من كلّ ذي قبل، ليس أقلّ من الإنسان، شعارنا الأعلى، مع أن الأرضَ خرابٌ، والجنونَ منتصبٌ!
دنيا ميخائيل (شاعرة وكاتبة عراقيّة)
“قصيدة النثر” ليست من التسميات التي أستسيغها حتى لو كُتبت القصيدة بالطريقة النثرية “الأفقية” (خلافًا للسّطر الشعري). أنا أسمّيها قصيدة (بغضّ النّظر عن شكلها وأسلوبها) وكل ما عداها نثر. وكثيرًا ما يسألني طلّاب الشعر: ما الفرق بالنسبة إليكِ بين الشعر والنثر؟ وأنا أجيبهم باختصار هكذا: الشِعر حُب. النثر زواج.
هوامش
[1] David Lehman, The prose poem: An Alternative to Verse, The American Poetry Review, Vol, 32, No. 2 (MARCH/APRIL 2003), pp. 45.
2 المرجع السّابق، ص 45.
3 يمكن التّوسّع في أمثلة أخرى من هذه التّعريفات وقراءة نماذج من قصائد نثر أميركيّة موضوعها قصيدة النّثر طبيعةً وخصائصَ من خلال كتاب “مقدّمة لقصيدة النّثر- أنماط ونماذج”، تحرير بريان كليمنس وجيمي دونام، ترجمة محمّد عيد إبراهيم، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 2014. تجدر الإشارة إلى أنّ الشّاعر العربيّ الوحيد الذي تمّت الإشارة إليه في هذا الكتاب هو الشّاعر أمجد ناصر.
ضفة ثالثة